24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة. وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن. (14) كانت الرسائل التي وصلتنا صادمة فوق تحملنا. رسائل وكأن أعداءً هم الذين كتبوها .لم يرحم كُتّابُها من أهلنا ضعف أسير يعيش أيامه ذليلا بين الأعداء. أسير عاش عقدين من الزمن في السجن على أمل أن يجد أناسا تركهم هناك خلف هذه الكثبان وقد صانوا العهد. الذين كتبوا تلك الرسائل بوعي أو بدونه لم يفكروا فيما يمكن أن تخلقه كل تلك الأحقاد والضغائن التي كدسوها في تلك الأوراق. ..كل ما فعلوه أنهم أطلقوا العنان لأقلامهم: " والداك انتقلا إلى دار البقاء منذ عقد"، "عمك استولى على منزلك وباع أرضك" ، " أخوك تزوج زوجتك بعد غيابك وقد أنجبت له ذكرا وثلاث إناث ". " أمك قد جُنت بعد خمس سنوات من غيابك " ، " أمك بكتكَ إلى أن فقدت بصرها " ، " زوجتك تزوجت غيرك بعدما أقنعها الجيران أنك انتقلت إلى دار الحق " ، " زوجتك ما زالت تنتظرك في بيتك " ، " زوجتك انحرفت عن الطريق السوي وغدت عاهرة تعرض خدماتها لعابري السبيل وطالبي المتعة إلى أن شاخت ". " ابنتك الكبيرة زاغت وقد أنجبت سفاحا "، " خطيبتك تنتظر عودتك منذ رحيلك، وخطبها كل شبان الدوار وما رغبت في غيرك ". " عمك وأخوك ما يزالان في ردهات المحاكم منذ غيابك بسبب رغبتهما في الاستيلاء على حقك في تركة أبوك " ، فلان قد قتل فلان " ، " وفلان وجدوه مع فلانة ".. كلمات كالرصاص، تقتلك مرات عديدة دون أن تسيل الدماء. هناك من قرأ الرسالة التي وصلته واختلى بنفسه يبكي لساعات كطفل صغير، ومن الأسرى من قرأ تلك الأخبار وظل لأيام على شفا الحمق، يحدث نفسه، يسأل ويجيب كمن يحدث شخصا في هاتف. هناك من لم يتوصّل بأي جواب، وكم خاب ظنه عندما نُودي على الأسرى لتسلم الأظرفة الصفراء ولم يُناد عليه. يتألم في صمت كمقطوع من شجرة، يسأل نفسه : هل مات كل أهلي؟ ولم يعد لي من قريب في الديار ليكتب لي ولو جملةً يتيمة. لكن الكثير من الذين تلقوا كل تلك الأخبار الصادمة تمنّوا لو لم يسمعوا أسماءهم عند توزيع تلك الرسائل. أحسن الأخبار هي ألا تسمع أخبارا. تأزمت نفسية العديد من الأسرى لأيام وهم الذين كانوا يتمنون أن يسمعوا بعض الأنباء المفرحة تكون سندا لهم في الأسر. بعضنا توصل بصور لشبان لا يعرفهم، وخلف الصور تعاليق عن هوياتهم، هذا ابنك الذي تركته في البطن عندما غادرتَ القرية، هذه ابنتك ذات السنتين عندما سافرتَ، وهذا ابنها الصغير، فقد تزوجت منذ أربع سنوات.. غادر نشطاء الصليب الأحمر الدولي المعتقل وقد فتحوا جراحا خفية وكُلُوما معلنة في قلوب الأسرى. ودعناهم ونحن نتمنى لو يأخذوننا معهم لنغادر هذا العالم الموبوء. أفهمونا أن إطلاق سراحنا الآن أمر صعب، لكن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وقد بدأت هذه الخطوة. عُدنا بعد ذلك إلى أشغالنا اليومية، تمضي الأيام متشابهة لا شيء يميزها. نُزاول ما نؤمر به في تفان كما يليق بأسرى لا يملكون سوى الطاعة، في انتظار الخلاص. ذات يوم جاءت شابة إسبانية تتحدث الفرنسية لتنفيذ مشروع حفر آبار وبنائها بالاسمنت والحديد بالصحراء، ربما جاءت لتعوض ذلك الأوروبي الذي تم إنقاذه فهرب بجلده من الموت. بدأت الأشغال في أماكن عديدة، وزودتها سلطات المعتقل بفرق من الأسرى المغاربة ليشتغلوا لديها بصفتهم عمالا. ذات يوم اكتشفت أن كميات مهمة من الحديد قد سُرقت في مخزنها، كما اختفى عدد كبير من المضخات والمعدات. ولم تجد غير الأسرى المغلوبين على أمرهم لتفرغ فيهم جام غضبهم. إذ اتهمتهم أنهم الذين سرقوا معداتها ومواد البناء. تدخل أحد الأسرى الذين يتكلمون الفرنسية وأفهمها أننا أسرى مغاربة، مقبوض علينا في كمائن ومعارك. وأننا لا نتقاضى مقابلا عن عملنا في حفر الآبار، بل هو عمل إجباري. وأقنعها بعد ذلك أن الأسير قد يسرق ما يسد به الرمق من طعام وشراب إذا شعر بالجوع، أما الحديد والاسمنت والمضخات فالذين يسرقونها يسافرون لبيعها في أسواق الجزائر وموريطانيا. أما الأسرى، فأنّى لهم أن يتجاوزوا رقعة هذا المخيم ومحيطه. بعد يومين سافرت الشابة الاسبانية بذريعة التداوي في مدريد، ولم تعد نهائيا. في تلك السنة هرب طيار مغربي رتبته ملازم، لم يفطنوا بذلك حتى ابتعد كثيرا، قاموا بجلب رجل من الرعاة الصحراويين، يملك خبرة كبيرة في اقتفاء أثر المشي في الرمال. رافقهم حتى بلغوا مسافة أربعة كيلومترات عن المخيم، فوجد فوق صخرة آثار قدمه عندما هام بعقد خيوط حذائه. نصحهم أن يعودوا أدراجهم، فالرجل يشرب الشاي الآن مع الجنود المغاربة. لم يأخذوا بنصيحته، بل واصلوا الطريق آملين أن يعثروا عليه، حتى اقتربوا من القوات العسكرية المغربية، عثروا على آثار أقدامه، فتأكدوا أن الطيار قد نفذ بجلده ووصل بر الآمان. هروب ذلك الطيار المغربي ونجاته جعلهم يعيدون حساباتهم، إذ تم جمع الأسرى من جديد وتشغيلهم في بناء معتقل جديد بجانب هذا الموجود الذي نعيش فيه. فتم نقل الضباط الأسرى نحو هذا المعتقل الجديد، المشيد في مكان تتوفر فيه كل شروط العذاب والجحيم، حيث يوجد بين الجزائر والصحراء المغربية وموريتانيا. مكان فيه العقارب السامة والأفاعي الخطيرة والمناخ المتقلب. تمضي الأيام ثقيلة كالشهور، وزوارنا السابقون من تلك المنظمة الدولية فتحوا بداخلنا نافذة تطل على الأمل، نافذة لا نريدها أن توصَد. أعطونا جرعة من الأمل في أن يأتي يوم ننتظره بشوق، يوم نتحرر فيه، نرى فيه من بقي حيا من أقربائنا، نترحم فيه على من مات منهم، نزور قبورهم ونرفع الأكف أن يلاقينا بهم في حياة أخرى.. تمر الشهور والأعوام، ولا أثر لأولئك الرجال الذين زارونا حتى بدأ اليأس يعرف طريقه إلينا. في يوليوز من سنة 1998، نقلونا نحو معتقل آخر يسمونه "مركز 9 يونيو". كنا 50 أسيرا ممن تم تنقيلهم من مخيم "الدخلة". اشتغلت في بناء مركز للاستقبال، بين الفينة والأخرى يزورنا شبان صحراويون يدرسون في كوبا، من الجزء الثالث من تركيبة البوليزاريو، إذ البوليزاريو يتكون من ثلاث أجزاء: الأول هم بعض المنتمين لقبائل كل من الركيبات السّاحل والدليميين وأيت أوسا، وهم قبائل غنية قبل اندلاع الحرب. ذاقوا ويلات الحروب والتهمت رحاها أموالهم وممتلكاتهم وأصبحوا فقراء، وأصبح هدفهم الآن العودة والاستقرار مهما كان الحاكم. أما الجزء الثاني فهم من المنتمين لقبائل ركيبات الشرق من سكان تيندوف وبشار وغيرها. هي فئة اغتنت من الحرب والصراع الدائر. تمارس تجارة المساعدات المقدمة من الدول، وتهريب المواشي للأسواق الجنوبية. وأما الجزء الثالث فهو الجيل الذي ازداد في المخيمات وترعرع هناك، تنقل بين الجزائر واسبانيا وكوبا، شبان لا يحكمهم قانون ولا عرف. يعيشون عالة على المنظمات والدول التي تساندهم. قضيت في ذلك المكان شهرا كاملا، وعندما حل شهر غشت من تلك السنة حاول ثلاثة أشخاص الهرب. فشلوا في ذلك، إذ مات منهم اثنان من التعذيب عقابا على محاولة الهرب، بينما بقي الثالث حيا. عندما يحاول شخص ما الهرب من الأسر، فالجميع ينال العقاب. سواء نجح في الهرب أو فشل، فإن جرعة إضافية من التعذيب تطال كل الأسرى، حتى الذين لم تسمح لهم الأمراض المتزاحمة في أجسادهم من التفكير في الهرب. قامت سلطات المعتقل بشحننا في شاحنات عسكرية نحو أرضٍ خلاء، هناك أحرقت كل أمتعتنا وأغطيتنا وممتلكاتنا البسيطة. بعد ذلك أكملوا بنا الطريق نحو الرابوني، فيما تم نقل الأسرى المتواجدين وقتها بالرابوني نحو معتقل " 9 يونيو". في الرابوني اشتغلت في صناعة الآجر، بغرض بناء مركز للدرك حتى متم شتنبر من نفس السنة. ثم نقلوني ضمن 25 أسيرا نحو "عوينت بالكرع" هناك كنا نزاول من الأعمال الشاقة ما نؤمر به. ذات يوم كانت الرياح قوية، لدرجة أن مسئول تلك المنطقة ويسمونه والي الولاية، أمر بحظر التجوال ومنع الناس من العمل خارجا. مع ذلك جاء إلينا نائب رئيس هذا المعتقل واختار منا عشرين أسيرا وكنت منهم، وأمرنا أن نذهب لصناعة البريك. أخبره الحراس بأن الوالي أصدر قرارا يمنع فيه خروج أي شخص للخارج بسبب سوء الأحوال الجوية، فكان رده: أنا الذي أقرر ماذا على المساجين فعله، وليس الوالي. أمرنا أن يصنع كل شخص منا 100 قطعة من البريك في ذلك الجو المكهرب، حيث الرياح العاتية المحملة بالرمال لا تسمح لك برؤية يديك. لما غادر نحو مكتبه رفعنا أكف الضراعة إلى الله أن ينتقم لنا من هذا الرجل، قرأنا الفاتحة وطلبنا من الله أن يخلصنا من جور هذا المتسلط، ثم انهمكنا نشتغل. يؤجل الله دعواتنا، لكنه لا ينساها.. اختفى الرجل بعد أسبوعين، فمن قائل أنه انتقل لمخيم آخر، ومن قائل أن مرضا ألم به، ثم سمعنا بعد شهر أنه يتلقى العلاج في مستشفى عين النعجة إلى أن مات، فَتم تعويضه بمسئول اسمه صِيلَة، وفي عهده سوف يأتي الخلاص، لنعود إلى أوطاننا، وتلك قصة أخرى..