24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة. وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن. (11) طمأننا بن هوشات. أخبرنا أن الرئيس بومدين لا علم له بهذا الفيلم، ولا بالجهة التي تُصَوّره ولا الغرض منه. أقر أننا أسرى حرب، وأنه ليس من حق شخص ما أن يجبرنا على تحية رمز ما. ثم وعدنا أن تتحسن أوضاعنا في قريب الأيام. وعد الحر دين عليه، لكن بن هوشات مستشار الرئيس ليس حُرّا على ما يبدو، فهو لم يف بوعده، فظروفنا لم تتغير رغم تصديقنا لوعوده. انتظرنا طويلا أن تهب بعض نسائم التغيير، وها قد هبت مع بداية ماي من نفس السنة، لكنها لم تكن كما ننتظرها. قاموا بنقل الأسرى الضباط إلى معتقلات سرية تحت أرضية بمدينة البليدة. بعد أسبوعين تم نقلنا أيضا إلى معتقل آخر يوجد بالجلفة. يرأس المعتقل جزائري برتبة أجودان شاف، سمعناه كثيرا يقول للأسرى: لا تحسبوا رْواحكُوم عند دولة مسلمة، حسبوا رْواحكُوم عند اليهود. لا يبعد هذا المعتقل كثيرا عن الحدود مع تونس. لكنني سمعت أن الرحل يتنقلون إلى تونس عبر الجمال ويلزمهم في ذلك أسبوعين من المشي. فكرة الهرب تظل دوما في ذهن كل سجين، لا تغادره حتى في نومه، لكن كيف يهرب مريض لا يستطيع المشي، وما يزال يتداوى يوميا من الأمراض المزمنة التي نخرت جسده. كان المعتقل واسعا ويمتدّ على أراض تصلح للفلاحة، وليس لسجن رجال لا ذنب لهم سوى الدفاع عن صحرائهم، جزء من بلادهم. في رمضان تلك السنة تعرضنا لتسمم غذائي، لم نعرف مصدر السم الذي ازدرده الجميع في طعام هذا الشهر الفضيل، شمل التسمم 184 فردا، و84 منهم كانوا بين الحياة والموت. حضر طبيب من العاصمة على متن مروحية عسكرية، وبعد أن شخّص بعض الحالات أقل نفس الطائرة ليجلب الدواء ويعود. ما أن بدأنا نألف هذا المكان ونذعن لأقدارنا بداخله، حتى تم ترحيلنا من جديد نحو قاعدة بوغار، بالمديّة. نفس المكان الذي كنا فيه آخر مرة، كما تمت إعادة الضباط أيضا. توفي الرئيس بومدين، جاء إلينا بن هوشات بعد أيام فعلّق: " عندما مات السيد الرئيس، أخْبَرَنا نُظَراؤنا المغاربة أنهم سيرسلون وفدا من الرباط لتعزيتنا في وفاة الرئيس، فقلنا للمغرب أن يحتفظ بتعازيه لنفسه. إذا مات جزائري فللجزائر أبناء كثر. لقد قلنا هذا لأنه عندما رحل السيد الرئيس، خرج سكان وجدة نحو الحدود للاحتفال والفرح. " تقلّد الشاذلي بنجديد مقاليد الحكم في الجزائر وضاعف في العمليات الحربية والهجومية على الحدود. مرة أدخلوا علينا 100 أسير، قالوا لنا بأنهم اعتقلوهم في عمليتان فقط، بالسمارة وبئر أنزران، وأغلب المعتقلين يمشون على أربعة! بعد أيام أخذوا الضباط منا وأعادوهم إلى حفر الرابوني. انتقوا الضباط وتم نقلهم إلى تلك الحفر، وبقينا هناك نواجه قدرنا بالصبر والإيمان بالمكتوب، نُمنّي النفس أن يأتي يوم نعود فيه إلى أوطاننا، قرانا النائية التي تركناها هادئة تحت الجبال، أهلنا الذي لا نعلم عنهم أي شيء، من مات فيهم ومن بقي حيا، وهل مازالوا على العهد، أم أنهم تنكروا لنا وصرنا نسيا منسيا. في إحدى ليالي سنة 79، جاءنا مسئول كبير لا أذكر اسمه. طلب من رئيس المعتقل أن يجمع الأسرى ليخطب فيهم: "لقد قضيتم هنا مدة طويلة، وقد حان وقت فرجكم. سنكَوّنكم وندرّبكم بشكل جيد، ثم بعد ذلك سوف نطلق سراحكم لتذهبوا للمغرب، شريطة أن تشتغلوا لصالح الجزائر ولصالحكم أيضا". تحدث طويلا عن مزايا هذا الاقتراح الذي جاء به، بينما خاب أملنا في إفراج حقيقي. صمت كل الأسرى خائبين. ظل ينتظر من يسأله سؤالا أو يدلي بمقترح ما، فساد صمت غريب. تدخل عسكري برتبة قبطان كان صحبته، وكان مسئولا عن المعتقل قبل ثلاث سنوات: لا تزعج نفسك مع هؤلاء، لقد خبرناهم، إنهم جبناء. ليسوا سوى عبيد الحسن الثاني، ولا يعرفون سوى شعار الله الوطن الملك. وقتها صفقنا، ثم غادر دون توديع. من الصعب أن أذكر كل تفاصيل أيامنا الرتيبة، كل الأيام متشابهة لا شيء يميزها عن غيرها سوى عراك بين سجينين أو زيارة مسئول أو موت أسير، ودون ذلك فأيامنا متشابهة كالتوائم. لكن خططهم في استعمالنا لقضاء مآربهم لم تضمحل. كان لهم هذا الطموح منذ مدة. حتى في سنة 1986 زارنا مسئول كبير يدعى روش، فقال لنا: لقد تغيرتم الآن كثيرا، أغلبكم قضى 10 سنوات في الجزائر. تغيرت لهجتكم، تبدل لونكم وزاد عمركم عشر سنوات، فهذه فرصتكم للنجاة وتحقيق مستقبلكم وتعويض ما ضاع منكم كل هذه السنون. الحسن الثاني لا يريدكم ولا يعترف بكم، فلا تضيعوا عمركم في انتظار الهباء. هذه فرصتكم لو كنتم أذكياء، سنرحلكم لبلادكم، فتشتغلون لتأمين مستقبلكم وفي نفس الوقت تشتغلون لحساب الجزائر. من وافق منكم فليخبرني، ومن لديه سؤال عن كيفية تطبيق هذا فما عليه سوى أن يتفضل. رفع بباهي سليمان يده فأشار له أن يقف ويتحدث. شوف أمُونْ ليُوتْنَانْ. نحن عسكر مغاربة، لا نعرف شيئا في السياسة. نحن لا نعرف سوى الله الوطن الملك، والسلام عليكم ورحمة الله. صفق عليه الليوتنان روش، وانخرطنا في موجة التصفيق. رغم أنه كان يبتسم فابتسامته لم تستطع إخفاء غضبه الشديد. أمرنا أن نكف عن التصفيق، ولما ساد الهدوء، طلب منه أن يأتي للوسط ويقف، ثم خاطبنا: هذا هو الرجل الوحيد بينكم. لقد أراد بتصرفه ذاك أن يتعرف على ملامحه أكثر، وأن يتعرف عليه الحراس، حتى إذا ما قال لهم أن يأتوه بذلك الرجل المغربي الوحيد، يأتونه بسليمان بباهي. أمر الحراس بعد ذلك أن يعيدوا جميع الأسرى إلى غرفهم الخاصة، وأَسَرّ لرئيس المحبس كلاما في أذنه. في الليل كنت أخمن أن يأتوا لأخذ رفيقنا سليمان، فلا يمكن أن يتجرع روش تلك الإهانة أمام الأسرى ويصمت عنها، لكنهم لم يأتوا إلى أخذه في الليل. في الصباح بعد أن تناول الجميع وجبة الفطور أخذوه إلى وجهة مجهولة. ليس بمقدرنا مواجهتهم أو منعهم من أخذه، هل يستطيع المسجون أن يغير قرارات سجانه، إنها كالأقدار لا نطلب ردها لكننا نتمنى اللطف فيها. صفّدوه ثم أخذوه، أركبوه سيارة مدنية وذهبوا به بعيدا. اختفى أزيد من أسبوعين حتى اعتقدنا أنهم قتلوه. تماما كما اعتقد رفاقي يومئذ أني متّ عندما نقلتُ للمستشفى، حتى أنني عندما عدت وجدت عشراني قد تصدّقوا بفراشي وأغطيتي لأسير جديد، فعلوا ذلك لعل تلك الصدقة تصلني هناك وتعينني يوم الحشر. وكم ابتهلنا لبباهي سليمان بدعوات بالرحمة وأن يتقبله الله مع الشهداء الذين رحلوا في هذا المكان وغيره. ذات يوم أعادوه ضامرا لا يقوى على الحركة. كومة من العظام التي تجمعها جلود سوداء متقيحة. أخبرنا أنهم سجنوه وحده في زنزانة تحت أرضية في البليدة، معتقل من طابقين تحت أرضيين يوجد أسفل إدارة ليتَاماجُور. رموه هناك كشيء بالٍ دون طعام ولا شراب، فراشه أرضية الزنزانة وغطاؤه سقفها. وتأبى روحه المتمردة سوى أن تلتصق بجسده، ويأبى قلبه الخمود، لعله يوما ما يحظى بتحقيق حلمه حلمنا جميعا أن نعود إلى أوطاننا وأهلنا، فهل ما يتمناه المرء يدركه؟