وفاة الأمين بوخبزة.. أحد أبرز مؤسسي ورموز الحركة الإسلامية بالمغرب    هجوم إيران على إسرائيل: من الرابح ومن الخاسر؟    مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان يدعو إلى انهاء الحرب في السودان    بعد إيقافه بأزمور.. وقفات تضامنية مع الناشط الحقوقي مصطفى دكار    ما الذي قاله هشام الدكيك بعد الفوز الساحق ل"أسود القاعة" أمام زامبيا؟    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الثلاثاء    أشرف حكيمي يثير قلق برشلونة قبل القمة الأوروبية    سليم أملاح في مهمة صعبة لاستعادة مكانته قبل تصفيات كأس العالم 2026    العنصرية ضد المسلمين بألمانيا تتزايد.. 1464 جريمة خلال عام وجهاز الأمن تحت المجهر    وفاة "الأمين بوخبزة" أحد رواد الحركة الإسلامية بتطوان    المغرب وبلجيكا يدعوان إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    استعدادا لعيد الأضحى .. وزير الفلاحة يعقد اجتماعا مع مهنيي اللحوم الحمراء    انتقادات لاذعة تطال فيصل عزيزي بسبب "الملابس الداخلية"    المغرب التطواني يصدر بلاغا ناريا بشأن اللاعب الجزائري بنشريفة    أكبر توأم ملتصق ف العالم مات.. تزادو وراسهم لاصق وحيرو كاع العلماء والأطباء    بعدما علنات القطيعة مع اللغة الفرنسية.. مالي غادي تقري ولادها اللغات المحلية وغادي تخدم الذكاء الاصطناعي    لامارين روايال عتقات 53 حراگ من دول أفريقيا جنوب الصحرا شمال طانطان    شاعلة وسط الاستقلال.. مور رسالة سيدنا للطالبي العلمي: تحدي كبير فالمقترحات لي غايقدمو لمناصب مجلس النواب والأعيان وصحاب الشكارة مزاحمين مع الكفاءات والأبناء ديال النافدين باغين حقهم من الوزيعة    توقيف موظف شرطة متلبسا بحيازة 151 غراما من مخدر الكوكايين ومجموعة من علب اللصاق المستعمل في التخدير    احذر من تناول هذه الأطعمة بغير وقتها!    "أسود الفوتسال" يستعرضون قوتهم أمام زامبيا وينهون مجموعات "الكان" في الصدارة    الملك يقيم مأدبة غداء على شرف الوزير الأول البلجيكي والوفد المرافق له    الملك يهنئ الطالبي العلمي بمناسبة إعادة انتخابه رئيسا ل"النواب"    مندوبية التخطيط تطلق عملية تحديث البحث الوطني للتشغيل    صندوق محمد السادس للاستثمار يستعد لإطلاق طلب إبداء الاهتمام لانتقاء شركات التدبير لتمويل الشركات الناشئة    المغرب التطواني يدين "التصريحات المستفزة" للاعب من اتحاد طنجة    إسرائيل ترتكب مجازر جديدة بحق النازحين بغزة.. والعثور على مقبرة جماعية بمجمع الشفاء    الرصاص يلعلع بمراكش    الحكومة تؤكد ضرورة الاتفاق حول أجرأة اتفاق 30 أبريل قبل عيد الشغل    الثابت والمتغير في القضية الفلسطينية    فلقاء دام 35 دقيقة.. ها شنو دار بين گوتيريش ودي ميستورا حول نزاع الصحرا    ذهاء لشكر فتوزيع مناصب مجلس النواب: كيفاش لعب مع الحركة الشعبية فرئاسة العدل والتشريع وتخلا على المنصب وداز ضرب حليفو البي بي اس باش حيدلو نيابة رئيس البرلمان    كرة القدم .. وفاة اللاعب الدولي المغربي السابق منصف الحداوي    اتفاقية شراكة لتعزيز الحماية الفكرية للتراث الثقافي المغربي    بدء محاكمة ترامب التاريخية.. إليكم السبب..    جدول أعمال مجلس الحكومة الخميس المقبل    المغرب يعزز الإجراءات القانونية لحماية التراث الثقافي والصناعات الوطنية    نسبة ملء سدود حوض سبو 51,15 في المائة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    على متن طائرة لارام.. احتفال خطير بذكرى زواج يخرق قوانين السلامة    الجمارك تعلن عن تحصيل أزيد من 20 مليار درهم في ثلاثة أشهر    سعر النفط يتراجع في الأسواق الآسيوية    عمل ثنائي يجمع لمجرد وعمور في مصر    تكريم الممثلة الإيفوارية ناكي سي سافاني بمهرجان خريبكة    السينما المغربية بمهرجان "نظرات افريقية للسينما الإفريقيةوالكريول" بمونتريال الكندية.    برنامج مهرجان مراكش العالمي للشعر    بايرن ميونخ طامعين فزين الدين زيدان: دواو معه وباغيين يرجعوه للتدريب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    دوزي يصدر جديده الفني "الباشا" بفيديو كليب استثنائي    العلوم قد تكون في خدمة ما هو غير معلن    دراسة: ممارسة التمارين الرياضية في المساء تقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 61 بالمائة    العالم الفرنسي الكندي سادلان ربح جائزة "أوسكار العلوم" على أبحاثو ف محاربة السرطان    هذه طرق بسيطة للاستيقاظ مبكرا وبدء اليوم بنشاط    الأمثال العامية بتطوان... (572)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    هل قبل الله عملنا في رمضان؟ موضوع خطبة الجمعة للاستاذ إلياس علي التسولي بالناظور    مدونة الأسرة.. الإرث بين دعوات "الحفاظ على شرع الله" و"إعادة النظر في تفاصيل التعصيب"    "الأسرة ومراعاة حقوق الطفل الروحية عند الزواج"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميمون أمسبريذ، ذلك الكاتب الأمازيغي المجهول (3/1)
نشر في هسبريس يوم 12 - 10 - 2015


(1/3)
تقديم:
في تقديري الشخصي، وبناء على قراءاتي لإبداعات نثرية وشعرية أمازيغية من المغرب (الريف وسوس) والجزائر وليبيا، قد يعدّ ميمون أمسبريذ (اسمه الكامل "ميمون لحميدي" لكنه يوقّع كتاباته ب"أمسبريذ" الذي يعني بالأمازيغية "عابر سبيل") أكبر كاتب بالأمازيغية. ومع ذلك فهو غير معروف لأنه يكتب باللغة الأمازيغية التي لا يقرأها إلا قلة قليلة. وأكاد أجزم أن قراء نصوصه لا يبلغون العشرة. وحتى الذين يعرفونه، فهم يعرفونه من خلال كتاباته العربية وليس الأمازيغية. لكن هذا الجهل بميمون أمسبريذ، ككاتب أنتج نصوصا روائية وشعرية أمازيغية رائعة، شيء عادي وطبيعي. لماذا؟ لأن اللغة الحية، إذا كان من الممكن اكتسابها في البيت وفي الشارع وفي المعمل وفي السوق...، فإن التمكّن من قراءتها وكتابتها يشترط تعلمهما في المدرسة أو ما يقوم مقامها. والحال أن الأمازيغية لم تدخل بعدُ إلى المدرسة نعم أقول لم تدخل بعدُ إلى المدرسة حتى يتمكّن المغاربة، بعد سنوات، من قراءة الإنتاجات الكتابية الأمازيغية ونقدها والكتابة عنها.
يضاف إلى ذلك أن أمسبريذ لم يسبق له أن نشر كتابا أو ديوانا. ذلك أن كل كتاباته العربية والفرنسية والأمازيغية وهي التي تهمّنا في المقام الأول نشرها، مستخدما الحرف اللاتيني بالنسبة للأمازيغية، بشهرية "تاويزا" ما بين 1999 إلى حين توقّفها أواخر 2012. لهذا فقد كان معروفا لدى قراء هذه الشهرية، الذين كانوا ينتظرون بشوق كل شهر مقالاته العربية بتحليلاتها العميقة والثاقبة. ولما توقفت "تاويزا" في سبتمبر 2012، لاحظت أن السؤال المتكرر عند متتبعي كتاباته العربية، عند لقائي بهم، هو: «متى ترجع "تاويزا" لترجع كتابات ميمون أمسبريذ؟». لكن لا أحد من هؤلاء كان يسألني عن كتاباته الأمازيغية، مع أن ما نشره بالعربية لا يبلغ حتى عشر ما نشره بالأمازيغية. وهو ما يعني أنه غير معروف بتاتا ككاتب بالأمازيغية. ولهذا السبب اخترت لهذه المداخلة (التي شاركت بها في الملتقى التواصلي الرابع الذي نظمته مؤسسة أيت سعيد بالناظور أيام 7 و8 و9 غشت 2015) عنوانا بالأمازيغية، هو: "وي ش يسنن أ ميمون!!!" ("من يعرفك يا ميمون!"، بصيغة التعجب وليس الاستفهام)، والذي ترجمته إلى العربية كما يلي: "ميمون أمسبريذ، ذلك الكاتب الأمازيغي المجهول".
تتوزع كتاباته الأمازيغية بين القصة القصيرة والشعر والمقالات التحليلية. وتجدر الإشارة أن هذا الصنف الأخير من الكتابة الأمازيغية لا زال نادرا ضمن الإنتاج الكتابي الأمازيغي، الذي يتشكل أساسا من الكتابة الإبداعية الشعرية أولا ثم الروائية ثانيا.
سأتناول إذن في هذا العرض العناصر التالية:
كتابة جديدة ومن نوع جديد؛
نماذج من كتاباته القصصية؛
مصدر الإلهام: الطبيعة والأم؛
التحولات الاجتماعية والثقافية من خلال القصة؛
لا وجود للخيال، فكل شيء حقيقي وواقعي!؛
الصدق والأصالة؛
تحرير الشعر من الغناء، واللغة من الجسد؛
نضال من مستوى آخر.
والجدير بالذكر والتوضيح أنني س"أحلل" كتابات ميمون أمسبريذ الأمازيغية وأنا لست متخصصا في النقد الأدبي والروائي، بل فقط كقارئ حر، يفهم ويتذوق ما يقٍرأ، ويكوّن عن هذا الذي يقرأه رأيا وتصورا، ودون أن يكون ذلك مصاغا بلغة المصطلحات "التقنية" "للمتخصصين" في الدراسات الأدبية. ولهذا إذا حكم القارئ أن هذا العرض هو "انطباعات" أكثر منه دراسة أكاديمية، فإنني لن أتضايق من هذا الحكم ولن أعترض عليه. هذا إذا سلّمنا بوجود أدب أمازيغي مكتوب، وبوجود متابعة نقدية أكاديمية لهذا الأدب، وبوجود متخصصين في هذا الصنف من البحث والدراسة.
كتابة جديدة ومن نوع جديد:
يمكن القول إن الكتابة الأمازيغية انطلقت في المغرب، بصفة عامة، منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد انحصرت منذ البداية في كتابة الشعر، ثم ستظهر لاحقا الكتابة الروائية، بجانب قليل من الكتابات التحليلية.
إلا أن القارئ المتتبع للإنتاجات الكتابية الأمازيغية، سيلاحظ بسهولة أن جلّ هذه الكتابات حتى لا أقول كلها لا زالت تشكّل "البداية"، المشكّلة بدورها "للمرحلة الانتقالية" للأمازيغية من الشفوية إلى الكتابة، والتي قد تدوم عشرات السنين. وهذا الوضع "الانتقالي" يرجع إلى غياب تقليد وتراكم في الإنتاج الكتابي بالأمازيغية، مما يجعل كل كتابة أمازيغية هي بمثابة بداية أولى في هذا الميدان. لكن عندما نقرأ للكاتب ميمون أمسبريذ، يتكوّن لدينا انطباع، بل قناعة، أن كتاباته ليست "بداية" ولا "مرحلة انتقالية" للأمازيغية من الشفوية إلى الكتابة، وإنما هي كتابة تُبرز الأمازيغية كلغة كانت تُمارس بها الكتابة منذ قرون، كلغة كاملة ومكتملة، قادرة على التعبير عن كل الوضعيات والأحداث والمشاعر والأفكار المغرقة في التجريد، كلغة لا تختلف في شيء عن اللغات التي أنتجت تراثا ثقافيا وأدبيا، غنيا وراقيا.
وهذا ما لمسته ووقفت عليه، وباندهاش وانبهار، منذ قصته الأولى التي أرسلها للنشر في شهرية "تاويزا" في فبراير 1999، والتي كانت بعنوان "أوال نّيظن" (كلام آخر). ولما أخبرت الأستاذين الدكتور حسن بعقية والدكتور محمد الشامي بأنني توصلت بنص أمازيغي، سينشر في العدد القادم من "تاويزا"، فريد في أسلوبه ولغته، يجعل من الأمازيغية لغة راقية ومتطورة وصالحة فورا للكتابة والإنتاج الثقافي والأدبي، طفقا يسألان: "هل هذا النص يرقى لمستوى كتابة فلان أو فلان...؟"، مستعرضيْن مجموعة من الأسماء اللامعة في مجال الكتابة الأمازيغية، حتى يمكنهم تكوين "بروفيل" عن الكاتب الجديد. وأمام أسئلتهم وتحفظاتهم، شرحت لهم المسألة بطريقة بيداغوجية كما يلي: «تعرفون أننا نناضل في الحركة الأمازيغية من أجل أن تصير الأمازيغية في المستقبل لغة إنتاج أدبي وفكري وعلمي. هذا ما نريد أن تصل إليه هذه اللغة. فاعلموا أن كاتب هذا النص المعني قد بدأ من هنا، أي بدأ مما نطمح أن تصل إليه الأمازيغية في المستقبل». نعم هكذا يكتب أمسبريذ: لا نجد في كتاباته أثرا "للبداية" أو "الانتقال" من الشفوية إلى الكتابة. كل كتابته، معجما وأسلوبا وتعبيرا، تدلّ على أنه "بدأ" الكتابة، ليس من "البداية" كما في الكتابات الأمازيغية الأخرى، بل من "النهاية"، أي مما نريد أن "تنتهي" وتصل إليه الأمازيغية عندما تصبح لغة إنتاج كتابي حقيقي، بعد عشرات السنين حتى لا أقول بعد قرون من المحاولات والتجريب و"الانتقال" من الشفوية إلى الكتابة. هكذا تكون الكتابة الأمازيغية لأمسبريذ كتابة جديدة، فريدة ومتميزة، ومن نوع جديد قد لا يكون له مثيل في مجموع الإنتاجات الكتابية الأمازيغية الأخرى.
كيف يجعل ميمون أمسبريذ من الأمازيغية، التي لا تزال لغة شفوية ولم تنتقل بعدُ كلية إلى المستوى الكتابي، لغة روائية وإبداعية، راقية ورفيعة؟
رغم الغنى الكبير للغة الأمازيغية، إلا أنه يجب الاعتراف أن المعجم الأمازيغي، نظرا لغياب الاستعمال الكتابي لهذه اللغة، فقير عندما يتعلق الأمر بالكتابة، التي تحتاج إلى لغة مدرسية لتحويل اللغة المتداولة إلى لغة أبداع وإنتاج كتابي راقٍ. ولهذا فأن من يكتب بالأمازيغية فهو، في الغالب، مخيّر بين أمرين اثنين:
إما أن يكتب بالأمازيغية المتداولة، والتي تضم أزيد من ثلاثين في المائة من الألفاظ ذات الأصول غير الأمازيغية، مثل الألفاظ ذات الأصل العربي التي تشكل النسبة الأكبر. وفي هذه الحالة تكون الكتابة مطابقة للمتداول الشفوي، بمستواه اللهجي العامّي، بحيث نكون أمام مجرد نسخ وتسجيل لما هو منطوق، لا تتوفر فيه شروط الكتابة الحقيقية التي تمثّل استعمالا أرقى وأسمى لنفس اللغة المتداولة.
وإما أن يلجأ، لسدّ النقص المعجمي للأمازيغية التي يكتب بها، إلى استعمال ألفاظ أمازيغية تنتمي إلى مناطق أمازيغية أخرى، مثل استعمال كلمات طوارقية أو قبايلية أو شاوية أو زيانية أو نفوسية (ليبيا)... فرغم أن هذه الألفاظ "الجديدة" هي ألفاظ أمازيغية حقا، إلا أنها "غريبة" عن الأمازيغية المعروفة والمتداولة، ويحتاج استيعابها وإدراجها في الاستعمال التداولي والكتابي إلى تعلّمها في المدرسة ضمن أمازيغية معيارية موحّدة، وهو ما لم يتحقق بعدُ.
أما الكاتب ميمون أمسبريذ فهو خارج هذا التصنيف الثنائي: الكتابة بأمازيغية لهجية أو بأمازيغية "أجنبية". إنه يستعمل في كتاباته نفس الألفاظ الأمازيغية المعروفة والمتداولة، الخالية إذن من الكلمات الأمازيغية "الغريبة"، والخالية في نفس الوقت من الكلمات ذات الأصول غير الأمازيغية، حيث لا تصل مثل هذه الكلمات في كتاباته حتى نسبة خمسة في المائة. ومع ذلك فإن الأمازيغية التي يكتب بها، ورغم أن ألفاظها معروفة ومفهومة ومتداولة، ليست هي الأمازيغية المتداولة، بمظاهرها اللهجية العامّية والسوقية، بل هي أمازيغية مصاغة بأسلوب يجعل منها لغة "مدرسية" حقيقية ودون أن يسبق لها أن لُقِّنت في المدرسة، ودون أن تتضمن معجما خارج المعجم المعروف والمتداول. إنها أمازيغية معروفة ومألوفة ومفهومة في ألفاظها وكلماتها وتعابيرها، لكن من الصعب، بل من المستحيل، الكتابة بها، وبذلك الأسلوب الراقي والعذب والجميل الجذّاب، كما يفعل ميمون أمسبريذ. إن الأمازيغية التي يكتب بها تمثّل السهل الممتنع: هي سهلة لأنها أمازيغية معروفة ومتداولة، كما قلت. لكنها في نفس الوقت صعبة لأنه لا أحد كما يبدو من غير أمسبريذ بقادر على استعمالها الكتابي بنفس الأسلوب الرائع والبديع. وهذا ما قصدت عندما كتبت أنه بدأ من النهاية، أي من حيث نريد الوصول.
ولا شكّ أن للمستوى الفكري العالي للكاتب دورا في المستوى العالي لكتابته بالأمازيغية. فبالإضافة إلى مستوى الدكتوراه لتكوينه الأكاديمي، وإتقانه لعدة لغات أجنبية من بينها الفارسية، فهو مدمن على القراءة منذ صغره، إذ قرأ كتاب "النبي" وهو كتاب تأمل فلسفي لجبران خليل جبران وهو في سن المراهقة، كما يخبرنا بذلك في قصة "ثزورا" (السرطان). ولهذا يطغى الجانب التأملي والفكري والتساؤلي على كتاباته. وغني عن البيان أن هذا المستوى الفكري المتقدّم للكاتب، هو أحد الأسباب التي تفسّر كيف نجح في أن يجعل من لغة، لم تعرف بعدُ المدرسة والكتابة، لغةَ فكر وتجريد وكتابة راقية، لغة لا تختلف عن اللغات التي عرفت الكتابة والمدرسة منذ قرون.
إذا كان هذا هو أسلوب ومستوى الكتابة الأمازيغية لدى أمسبريذ، وإذا كانت هذه هي اللغة الأمازيغية التي يكتب بها، فما هي مضامين وموضوعات كتاباته القصصية؟
نماذج من كتاباته القصصية:
تتشكل موضوعات قصصه القصيرة من مشاهد عادية لأحداث اجتماعية أو من حياة الطفولة، في الغالب، مع ما يرافق ذلك من تصوير حي للطبيعة وللحياة الاجتماعية وللأشخاص، بمشاعرهم وآلامهم وأفراحهم وأحزانهم... لكن أسلوبه الإبداعي يجعل القارئ يعيش هذه المشاهد كما لو كانت وقائع ماثلة أمامه، يحياها وينخرط فيها، حتى أنه يكاد أن يحس بما يحس به أبطال القصة، فيحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، ويتألم لآلامهم، ويتفاعل معهم كما لو كان معنيا بأحداث القصة، تعنيه وتخصّه هو أيضا.
وهذه نماذج ملخّصة لبعض من قصصه القصيرة.
ففي قصته الأولى "أوال نّيظن" ("كلام آخر"، منشورة بالعدد 23 من "تاويزا" لشهر مارس 1999)، يحكي عن اجتماع عدد من السناء، المعروفات بالورع والتقوى، عند "تافقيرت مامّا" من أجل الذكر والتعبّد. يبدأ الحديث حول شؤون العائلة والأولاد والأزواج والمهاجرين منهم إلى الخارج. ثم ينتقل تدريجيا إلى أمور الدين، وتشرع إحداهن في الكلام عن الجنة والنار وعذاب القبر بأمازيغية تختلط معها مصطلحات دينية بالعربية لكنها بنطق أمازيغي، ثم تنطلق أخرى في الذِّكر مع لازمة ترددها الأخريات. وتدريجيا ترتفع أصواتهن وتتغير ملامحهن، ويجلسن على ركباتهن، ثم يقفن بعد أن يكن جالسات، وتتغير أصوات حناجرهن التي تزداد جهرا، وشيئا فشيئا ينزعن أحزمتهن وأغطية رؤوسهن ويشرعن في القيام بحركات تشبه الرقص: «يبدأن في القفز والرقص بشكل أوتوماتيكي كأنه عمل آلي مبرمج، لا تملك تلك النساء أمامه حولا ولا قوة»، يقول الكاتب. وبعد ساعة تقريبا من اللهث والهيجان، تعود تلك النسوة إلى حالتهم الطبيعية «فيربطن أحزمتهن ويغطين رؤوسهن ويعدن إلى أماكنهن ويتجاذبن الحديث عن الأولاد والأزواج والأرزاق كأن شيئا لم يحدث، أو كأن داخلهن شخصيتين متمايزتين»، كما يصفهن الكاتب.
هكذا يكتب ميمون أمسبريذ. يكتب عن موضوع عادي بسيط، عن مشهد عايشه في طفولته، لكن يحوّله، بما له من قدرة روائية ووصفية وإبداعية فائقة، وبما له من مهارات عالية في توظيف واستعمال لغة أمازيغية راقية في الكتابة، إلى موضوع حي يجعل القارئ يحس به ويلمسه ويعيشه. فعندما نقرأ هذا النص حول "الحضرة" النسائية، يُخيّل إلينا كأننا حاضرون داخل القاعة، نتفرج عن أولئك النساء ونشاهد حركاتهم ونسمع أصواتهن تتردد بمسامعنا.
في قصة "أمان إبرشانن" ("الماء الأسود"، منشورة بالعدد 25 من "تاويزا" لشهر يونيو 1999)، يتحدث عن معاناة طفل، هو بطل القصة، بالكتّاب القرآني أثناء تعلمه كتابة العربية، عندما وضع المعلم حروفا على اللوح المصبوغ بالصلصال، ليرسم الطفل/التلميذ نفس الحرف حتى يتعلم كتابتها. ولما كان المعلم يتفقد العملية، لاحظ أن الطفل/التلميذ لم يرسم الحروف بطريقة سليمة، فأمسك يده وأمره أن يحرّك القلم إلى الأعلى ليمكنه كتابة الحروف بالشكل المطلوب. لكن الطفل/التلميذ، ومن شدة الخوف، بدأت أصابعه ترتجف، ولم يستطع أن يحرّك القلم في أي اتجاه. بل إن كل المجهود العضلي، الذي بذله لتحريك القلم، تحوّل إلى ضغط على القلم القصبي، مما جعل الصمغ يسيل منه ويرسم خريطة سوداء على اللوح. وهنا يوجّه المعلم صفعة إلى الطفل/التلميذ على مستوى أذنه. آنذاك بدأ يرى كل شيء أسود، ويحس كأنه داخل مسبح ماء أسود كالصمغ. ومن هنا جاء عنوان القصة.
هنا كذلك يقدّم لنا الكاتب وصفا دقيقا لانفعال الخوف الذي انتاب الطفل/التلميذ حتى عجزت أصابعه عن الحركة. فرغم أن الموقف قد يبدو عاديا وبسيطا، لكن الأسلوب الروائي للكاتب جعل منه نصّا فيه كثير من الإبداع الفني الجذّاب، والذي حوّل الموقف، الذي يحكي عنه، إلى مشهد حي ينتصب أمامنا كشيء حاضر، محسوس وملموس.
أما في قصة "ميمون أيناو" ("ميمون الأبكم"، منشورة بالعدد 42 من "تاويزا" لشهر أكتوبر 2000)، فيحكي عن يوم التحاقه للمرة الأولى بالمدرسة، عندما تكلم مع زميله بالأمازيغية، فوجّه له المعلّم "سّي أمحمد" صفعة مع نهره قائلا: «ما تهدرش شلحا أ لحمار» (لا تتكلم الأمازيغية أيها الحمار). وعند الاستراحة، وبكل براءة الأطفال، سأل رفيقه: ماذا حل ب"سّي أمحمد"؟ فهو في الخارج شخص عادي يتكلم لغة البشر، لكنه في الفصل يتحوّل إلى مجنون يتكلم لغة الجن!
الطفل/ التلميذ، عندما تساءل كيف تحوّل المعلم "سّي أمحمد" من شخص عادي إلى شخص مجنون يتكلم لغة الجن، فهو يتحدث هنا باسم فهمه البسيط والبريء لظاهرة اللغة كما يفهمها ويفسّرها، كما يفعل جل الأطفال الذين يفسرون ما يلاحظونه من ظواهر حسب فهمهم المحدود والبريء. فقد سبق لهذا الطفل/ التلميذ، بطل القصة، أن لاحظ، منذ أن بدأ يعي ما حوله، أن كل من يمرض من العائلة ومن سكان الدوّار، كان يقال عنه بأنه مصاب بمسّ من الجِنّ، الذين يتكلمون لغة غير لغة البشر التي هي الأمازيغية. وهكذا ترسّخ في وعيه أن هناك لغتين في الدنيا، الأولى لغة البشر التي هي الأمازيغية، والثانية لغة الجنّ التي لا يفهمها إلا بعض "المتخصصين" من البشر، مثل "الفقيه" "سّي عيسى" الذي كان يخاطب الجنّ بلغتهم عندما كان يُستقدم لعلاج المسكونين بهؤلاء الجن. هذه هي خلاصة "فلسفة اللغة" عند الطفل/ التلميذ.
«ما تهدرش الشلحة، هدر العربية»، هي عبارة يقول عنها الكاتب بأنه سمعها طيلة حياته، وحتى عندما صار راشدا وتقدم به العمر. سمعها في الثانوية والجامعة، وفي الإدارات والمستشفيات، وعند الجمارك والشرطة بالمعابر الحدودية، ولو أنها بلا "حمار"، الذي وصفه به المعلم "سّي أمحمد". ولأنه كلما تكلم لغته الأمازيغية إلا ونهره المخاطَب: "تكلم العربية"، فقد أصبح يحتاط من الكلام لأنه كلما عزم على الكلام بالعربية (الدارجة طبعا)، انزلق لسانه، كما يقول، إلى الأمازيغية. وحتى يتجنب الإحراج الذي يسببه له لسانه الأمازيغي، وحتى لا يُنهر بتلك الجملة الآمرة "تكلم العربية"، يختم القصة بالقول بأنه اختار الصمت، فأصبح أبكم. ومن هنا عنوان القصة.
قصة "أريازن ن تايّوث" ("رجال الضباب"، منشورة بالعدد 33 من "تاويزا" لشهر يناير 2000) تتحدث عن ضيوف غامضين يأتون مرة في السنة، وفي فصل الربيع عندما يكون الضباب كثيفا، عند عمه "حدّو" الذي ينصب لهم خيمة خارج الدار، ويوفر لهم الأكل والعلف لبغالهم التي هي وسيلة تنقلهم، ويقضون عنده ثلاث ليال، لا أقل ولا أكثر. ولأن المساكن تقع في منخفَض يشبه واديا عريضا، كما يصف الكاتب الموقع، فإن الضباب الكثيف، الذي يغطّي المنخفض، يحوّل المكان إلى ما يشبه قشدة من الحليب، كما يعبّر عن ذلك في وصف فني رائع، ويجعل «الظلام مستمرا لا ينقطع: الظلام الأبيض بالنهار والظلام الأسود بالليل»، كما كتب. ويتساءل الكاتب، وهو طفل، عن طبيعة هؤلاء الزوار وعن علاقتهم بعمه. وينقل إلينا وصفا حيا عن الرائحة التي تنبعث من الخيمة، والتي هي مزيج من رائحة العرق، لكثرة الجلابيب والسلاهيم التي يلبسها الضيوف، ورائحة التراب المبلل بالضباب، ورائحة الغاز المحترق الذي يشتعل به المصباح، ورائحة الهواء المالح القادم من الشاطئ القريب من سكناهم. إنه وصف يجعل القارئ يحس كأنه جالس داخل الخيمة يشتمّ ذلك المزيج من الروائح والغازات.
في قصة "أمان إيزكّاغن" ("الماء الأحمر"، منشورة بالعدد 35 من "تاويزا" لشهر مارس 2000)، التي هي من قصصه المطوّلة والمؤثرة جدا، يحكي فيها عن مرض ألم به وهو طفل صغير، من أعراضه سيلان قطرات الدم من أنفه وحلقه. وعندما ينام يحلم أنه يسبح في بحر من "الماء الأحمر"، ومن هنا عنوان القصة.
عُرض الطفل، كما هي العادة، على "سّي بزاح" الذي كتب له طلاسم على البيض المسلوق. لكن حالته لم تزداد إلا سوءاً، فأصيبت أمه بالذعر لأنها أيقنت أنه سيموت، وأنه لن يتجاوز المرحلة الحرجة التي مات فيها أبناء سابقون لها. نُقل إلى ممرض بمركز "كرونا" الذي حقنه بإبرة في فخده آلمته كثيرا، ثم سقط مغشيا عليه في الشارع العام فتجمّع حوله الناس. ولما استفاق أجلسه أخوه بأحد المقاهي وطلب له مشروب "كروش" Cruch الذي سيتناوله لأول مرة، والذي قال عنه بأنه «ماء عجيب: فهو أحمر وبارد، لكنه في نفس الوقت يغلي ويفور».
بعد كل تلك المحاولات العلاجية التي لم يزدد معها إلا هزالا وخؤورا، يئست الأسرة من شفائه وأصبحت تتهيأ لمماته. في تلك الفترة سيزورهم خال أمه "حدّو" وتستقبله أمه بالنواح قائلة: إن ابني ميمون على فراش الموت. ولما عاينه الخال الذي وصفت له الأم والأب أعراض المرض، قال لهما: ألم تعرفا أن به علقة تسكن حنجرته وتمتص دمه؟ فأمرهما بأن يمنعا عنه الماء الذي تعيش منه العلقة حتى تضطر إلى الخروج، ونصحهما بأن يعطياه السجائر ليدخّنها حتى تختنق العلقة، مما سيدفعها إلى الخروج. وبهذه الوصفة ستخرج العلقة ويبرأ الطفل بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الهلاك.
هذه القصة يسردها بتفاصيل روائية رائعة تجعلنا نبكي مع الأم في معاناتها وخوفها من موت ابنها، كما تجعلنا نضحك في لحظات أخرى، خصوصا عندما يدخّن السيجارة الأولى، التي سيعطيها له الشاب عبد النبي الذي طلب منه أب الطفل ذلك. وقد كتب عن عبد النبي يصفه قائلا: «تسكن عينيه دمعتان قارتان، لا تبرحانهما ولا تسيلان ولا تيبسان. وعبر هاتين الدمعتين، اللتين تضبّبان عينيه، ينظر عبد النبي دائما إلى الأفق البعيد، ينظر إلى ما لا يُرى... وكنت كلما التقيته وجدته إما يدخّن السيجارة أو يلفّها. ولم يسبق لي أن رأيته يفعل شيئا آخر. وعندما يلفّ عبد النبي السيجارة، فهو يتعامل معها كما تتعامل الأم مع رضيعها، إذ يوليها كل العناية والرعاية، فتراه يديرها بين يديه ببراعة وإتقان، ويسوّيها بأصابعه بحذْق ومهارة، ويمرّر لسانه عليها برِفق ولطف، إلى أن تكتمل وتستقيم، كما لو أنها من صنع آلة متطورة».
أما في قصة "ثيمغارين ن تاظوفت" ("نساء من الصوف"، منشورة بالعدد 28 من "تاويزا" لشهر غشت 1999)، وهي من قصصه الطويلة كذلك، فهي أيضا قصة مؤثرة ومحزنة تحكي عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أحدثتها الأفرشة الخفيفة والرخيصة، التي دخلت من مليلية وغزت أسواق المنطقة، والتي ستقضي نهائيا عن مصدر رزق العديد من الأسر التي كانت تمتهن صناعة أفرشة الصوف، ومن ضمنها أسرة الكاتب. فمع دخول الأفرشة الإسبانية تراجع الطلب على الأفرشة الصوفية المحلية، كما تزامن ذلك مع فترة جفاف طويلة، وهو ما كان وراء هجرة القرويين إلى المدن وإلى الخارج، الشيء الذي خلخل البنية الاجتماعية وحتى الديموغرافية للمنطقة.
ومن أجمل ما في هذا النص، الذي يصوّر التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لمنطقة الريف الشرقي في أواخر ستينيات القرن الماضي، هو الموازاة الرائعة والعجيبة التي يقيمها الكاتب بين لون الأرض، وبين ملامح وجوه السكان، وبين ألوان الأفرشة، التي كان يصنعها العديد من هؤلاء السكّان: فعندما كانت الأرض مخضرة ويانعة، والموسم الفلاحي سخيا وجيدا، كانت الأفرشة ملونة بعدة ألوان، لأن السنة الفلاحية الجيدة كانت تجعل الفلاحين يقبلون على شراء الأفرشة، مما كان يرفع من أرباح صناعها، الشيء الذي كان يشجعهم على إتقان صنعها بالزيادة في أنواع الصباغة المستعملة لتلوينها. وهذه الحالة المنتعشة لرواج الأفرشة الصوفية المحلية، كانت تنعكس على وجوه الصناع التي تبدو ناضرة وبشوشة وراضية. أما عندما جفت الأرض وقل الزرع ودخلت الأغطية الإسبانية لتتنافس الأفرشة المصنوعة محليا، ركد الاقتصاد وتراجع الرواج وقلت المداخيل. فدفع ذلك صناع الأفرشة إلى التخفيض من عدد الألوان بالتقليل من الأصباغ المستعملة، للتخفيض من تكلفة هذه الأفرشة حتى يمكنها منافسة الأثمنة الرخيصة للأغطية الإسبانية. وهكذا، فبقدر ما نقصت ألوان الحقول نتيجة للجفاف، نقصت كذلك ألوان الأفرشة للتخفيض من تكلفتها المالية، وكل ذلك "النقص" انعكس على تغير في ملامح الوجوه التي غدت عبوسة ومتجهمة، شاحبة وباهتة، كئيبة وتعيسة.
كانت هذه إشارات جد مقتضبة لست قصصه من بين تسعة عشرة قصة قصيرة نشرها في "تاويزا" من 1999 إلى حين توقفت الشهرية أواخر 1912. ورغم أن هذه الإشارات قد "تخون" النصوص الأصلية أكثر مما تلخّصها، فإن الغرض منها هو تقديم فكرة تقريبية عن الموضوعات التي يتطرق إليها الكاتب في قصصه، والطريقة السردية التي يتناول بها تلك الموضوعات.
أما عندما نقرأ النصوص الأصلية، فإن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هو: من أين اكتسب الكاتب لغته الأمازيغية، الراقية والعذبة التي يكتب بها، وخصوصا أنه لم يتعلمها في المدرسة ولا درسها في الجامعة؟ من أين استمد معجمه الأمازيغي الغني والمعطاء، الذي يجيد توظيفه في الكتابة الأمازيغية؟
مصدر الإلهام: الطبيعة والأم:
(يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.