فى الخامس عشر من شهر مايو الجاري (2016) مرّت ثمانية وستون عاماً على" ذكرى نكبة فلسطين"، التي عانى منها الشعبُ الفلسطيني، وقاسى من جرّائها الكثير منذ 15/5/1948 إنطلاقاً من وعد "آرثر جيمس بلفور" المشؤوم 1917، ومروراً بالتقسيم اللعين 1947، والإحتلال الصّهيوني العسكري لما يقارب 80 فى المائة من أرض فلسطين، وإعلان إقامة "دولة إسرائيل" عام 1948، وتشريد ما يقارب المليون فلسطيني بعد إحتلال مدنهم، وقراهم،ومداشرهم، وضِيَعِهم ،وأراضيهم، وتشريدهم وإبعاد بعضهم الى قطاع غزّة، والضفّة الغربيّة، ونهر الأردن، وإلى عددٍ من الأقطار العربية المجاورة، ثمّ وصولاً إلى "النّكسة " عام 1967، حيث تلا تلك الأحداث والفواجع،والمواجع سلسلة متواصلة من المعاناة ، تلو المعاناة ما فتئ هذا الشعب يقاسي منها الكثير، فى ظلّ ما تشهده الأوضاع فى مختلف بلدان وأوطان بني طينتنا، وأبناء جلدتنا فى الظروف الرّاهنة من نزاعاتٍ مذهبيّة ،ومن مواجهاتٍ أيديولوجيّة ، وحروب دينيّة ، وصراعات طائفيّة ، وخلافات عرقية ،وتطاحنات سياسيّة ، ومشاكسات كلامية، ونزاعات لسنيّة، ومهاترات يومية وو..كلّ هذا المخاض العسير، وهذا الأوارالمستعر، الله وحده يعرف ما هي عاقبته، وما هو مَآله ومُنتهاه...! صّبر، جَلد،وأناة.. أحداث تاريخية مؤلمة، مفاجآت غيرسارّة خبّها القدر لأبناء فلسطين الذين رمت الأقدار بالعديد منهم خارج وطنهم، وبعيداً عن أرضهم، وعن ذويهم ، وأحبّائهم ، وخلاّنهم قهراً وقسراً،وعُنوة ، فانتشر منهم الكثير فى بلاد الله الواسعة فى غياهب المهاجر، ومحاجرالإغتراب، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه،ولكنّهم على الرّغم من نأيهم عن أرضهم ،وبُعدهم عن طنهم، ظلّوا مشدودين إلى جذورهم ، متشبّثين بحقوقهم ، فقد ألهمهم الله، وأعطاهم،وحباهم طاقة كبرى من الصّبر، والجَلد،والأناة، والتحمّل، والتمرّس، والمواجهة، والمقاومة، والتحدّى، والإصرار. فقد عملت الصّهيونية العالمية منذ إبعاده إخواننا الفلسطينيين وإقتلاعهم ، وإقصائهم من بلدهم عام 1947 بلا كلل،ولا ملل، وبدون هوادة من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشّعب وإستئصاله من جذوره ، وطمس شخصيّته ، وإجتثاث هويّته ، ومحو كلّ أثر له، بل إنّهم حاولوا محو حتى جغرافيته وتضاريسه، وتاريخه، وتراثه في حملات متوالية بإستعمال مختلف ضروب الحيل والأكاذيب، والدسائس، والخسائس، والمكر، والمكائد لتحقيق هذه الغاية الدنيئة. ثمّ إنطلقت الثروات والإنتفاضات الواحدة تلو الأخرى ، حيث طفق هذا الشّعب فى كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي الحديث، حاملاً رمزَ كفاحه وثورته الكوفية الفلسطينية المرقّطة، أوالمنديل الفلسطيني المميّز، وغصن الزيتون الأخضر، وأعاد هذا الشعب الصامد إحياء هويّته وجذوره ،وإحياء ذاكرته التاريخية، والثقافية، والتراثية الجماعية من تحت الأنقاض. الأبطال الفلسطينيون الشّهداء ما زالوا يروون ثرى أرضهم الفيحاء، وما فتئت الآلة الحربية الإسرائيلية تقتّل ،وتنكّل بهذا الشعب بدون رحمة ولا شفقة ،وتزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب وظلمات جحيم السّجون الإسرائيلية، ليُحْرَمُوا ليس فقط نعمة صلة الرّحم مع ذويهم، وأهاليهم، وأقربائهم والهواء الطلق، والنّسيم العليل، وزرقة السّماء، ونور الضياء ، بل ليُحْرَموا كذلك نعمة القوت اليومي لسدّ الرمق، والعيش الهانئ الرّغيد، وما إنفكّت الأنفس تتنفّس الصّعداء، وتعدّ العدّة للمراحل القادمة من كفاح هذا الشعب،وما برحت ألسنة اللّهب تتصاعد، وأعمدة الدخان تتعالى فى كلّ مكان.. إنّهم يستشهدون من أجل بلادهم لأنّهم صادقون في حبّهم لها . نكون أو لا نكون.. الأصدقاء، والأشقّاء الأبعدون منهم والأقربون لم يقتنعوا بعد، بأنّ المسألة ،مسألة نكون أو لا نكون.. بقاء أو لا بقاء ليس ، إنّهم فقط يذرفون الدّموع حرّى ساخنة، وينزوون بأنفسهم لينظموا كلماتٍ مسجوعةً ، مشحونة بالغضب والإنتقام.. وتمرّ الأيام، وتتوالى الليالى، وفي رحمها، وزخمها، وخضمّها تتولّد، وتستجدّ الأحداث، وينسوا أو يتناسوا ما فات،المآسي ما زالت تترى وتنثال أمام أعينهم، وعلى مرأى ومسمع منهم ،فيشاطرهم العالمُ طوراً أحزانَهم، وأحياناً يجافيهم.. ويكتفون بالتفرّج ،والتحديق والتصفيق، والتهليل،والتعليل، والتحسّر، والتأوّه،والتأثّر بلغة باكية شاكية كئيبة حزينة مذلّة ... أمّا الآخرون فإنّهم يتعنّتون، ويتمنّعون، ويتمسّكون بكلّ" شبر" سطوا عليه، وبكلّ "مدينة طاهرة" عَلِقوا بها، يبسطون نفوذهم، وتأثيرهم ليس على الأرض وحدها، بل على العقول، والألسن، والأفئدة، والقلوب،والكيان، والوجدان، وهم ماضون في غطرستهم، متمادون فى تبجّحهم ،مُمْعِنُون فى كبريائهم... ما أكثرَ لوحات الشّرف التي يزهون بها، التي تمتلئ بها دورُهم ، وتعلو جدرانَ قصورهم وبيوتاتهم ، وما أكثرَ النياشين والأوسمة التي تنمّقُ صدورَهم ، وما أكثرَ ما يعودون القهقرى ليعانقَوا التاريخَ ، ويستلهمون منه الدروسَ والعبرَ، ويستشفّون منه معنوياتٍ جديدةً لإستئناف مسيرتهم.. ! إنهم قوم رحماء بغيرهم ،يذوذون عن حوضهم وجيرانهم بسلاحهم، ولكنّهم قوم مشهود لهم ومشهورون بالصّفح والتسامح..! رحماء بالصّغير والكبير، والقويّ والضعيف ، معروفون بهذه الثنائية المركبّة التى تجمع بين الجَلد واللين، والبأس والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة.!. أمّا الآخرون.. فلقد إقتدّت الرّحمةُ من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ ،لا يفرقون بين الصّغير والكبير، إنّهم ينكّلون بدون تمييز، ويسجّل التاريخ عليهم همجيّة "المجازر" ويدوّن لبني طينتنا روعة "المفاخر"، ورونق المظاهر..وما إنفكّ العالم يتفرّج بدون إكتراث ،ولا مبالاة .! الإضرابات المتوالية للأسرى الفلسطينيين التي تعرفها السّجون الإسرائيلية الرّهيبة بين الفينة والأخرى تزيد من تأجيج الوضع القائم على مختلف المستويات، هذه السّجون التي لا تعرف معنىً للشّفقة والرّحمة،حيث تضرب إسرائيل عرضَ الحائط بكلّ العهود العالمية، والمواثيق الدّولية ذات الصّلة بحقوق الإنسان أو حقوق "الأسرى"المعترف بها فى كل مكان ، ناهيك عن سوء المعاملة التي يُوسمُ بها هؤلاء داخل هذه الدهاليز المظلمة ، وتعرّضهم لأقسى وأعتى ضروب التعذيب والتنكيل التي يعانون منها بدون إنقطاع ، ممّا أدّي ببعضهم إلى الإستشهاد داخل هذه الأقبية السّوداء المعتمة ، وما إنفكّت براكين الغضب الفلسطينية الهادرة تقذف حِمَمَها وشظاياها إلى عِنان السّماء من جرّاء هذه المعاملات التي لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة ، ولقد بلغ هذا الغضب مداه عند إستشهاد بعض الأسرى الفلسطينيين داخل هذه السّجون، وإستمرار المواجهات الشّعبية ،والجماهيرية على جميع الأصعدة مع قوات الإحتلال، والمطالبة بالردود الحاسمة على هذه الجرائم الآثمة، وسواها من التجاوزات الخطيرة التي تقترفها السّلطات الإسرائيلية بدون خجل أو وجل ، ممّا ينذر بقرب إنطلاق إنتفاضات جديدة صاخبة التي يحسبُ لها الخصمُ العنيدُ والعدوّ العنيف ألف حساب، والتي قد تقلب موازين الأمور. التصالحُ والتصافح ثمانية وستّون حولاً،مرّت على أمّ النكبات.. و ما زالوا يتستّرون،ويستذرّون عطفَ العالم ويَسْتَجْدُون رحمته ، ويصفون له فداحةَ الأهوال،وسوءَ الأحوال وقساوة الفظائع التي تُرتكب في حقّنهم ، إنّهم قومٌ حالمون ، ما إنفكّوا مُنشغلين بأمورهم ، مُنبهرين مَشدوهين بالأوار المستعر وسط مرابضهم، وأرباضهم ، و داخل بيوتاتهم، وأحيائهم، وأفئدتهم. أمّا الآخرون فمنذ أن دنست أقدامُهم أرضَ السّلام، ما برحوا يفتكون بهم وينكّلون . إخواننا الفلسطينيون ما فتئوا يعانون مختلف ضروب التعنّت والتنكيل الإسرائيلي على الأرض فى مختلف المناطق والجهات الفلسطينية، كما أنّهم ما برحوا يعانون الشّقاق الداخلي، والتشرذم، والخلافات، وأمسى التصدّع قاب قوسين أو أدنى من أن يُصيبَ صرحَ الوحدةَ الوطنية المنشودة ، وما زال الأمل معقوداً على التصالح، والتسامح، والتصافح ، والتقارب والتصافي، وإقصاء التجافي، والتداني، والتفاهم ، ورأب الصّدع ،وجبر الخاطر، وإلتئام الفصائل، والبحث عن البدائل، وتسخير وتفجير كلّ الطاقات، وإستغلال كلّ الخِبْرات ، والنبش في الثريّا و الثّرىَ، و التراب والتراث...! آهٍ من تلك الأيّام كلٌّ منهم يحملً صخرته السيزيفية على كاهله ويمضي، مرسوم على محيّاه الجانب المقطّب من وجه "الجيوكاندا" أو " موناليزا لليوناردو دافينتشي"، فلا هو بالحزين، ولا بالجذل، ولا بالباسم ولا الباكي،ولا الشاكي، صيفه قائظ مستعر، وخريفه شاحب مكفهرّ، وشتاؤه صقيع منهمر، وربيعه مزهر مزدهر... كلّ يحمل همومَه، وقلقَه، وهواجسَه،ونكده،وضنكَه، وأوهامَه ، وأثافيَه فوق ظهره ويسير، ولا أحد يبالي به، ولا بآلامه ومعاناته، ولا أحد يكترث بأحزانه،وأشجانه، وعذاباته.. ! تاريخهم حافل عتيد، وماضيهم أثيل مجيد ، وتراثهم زاخر باهر،. إنهم قومٌ كُثر ، والكثرة قوّة (!) قالها يوما فارسٌ مغوار من حيّهم : لا يسألون أخاهم حين يندبهم / في النائبات إذا قال برهانَا... ! وقالها آخر : حشدٌ على الحقّ عيّافُو الخَنَا أنُفٌ /إذا ألمّت بهم مكروهةٌ صَبرُوا....وردّ آخر: وأقسم المجدُ حقّا ألاّ يحالفُهم /حتى يحالفَ بطنَ الرّاحة الشّعرُ.. ! وأردف آخر : تعيّرنا أنّا قليل عديدنا / فقلت لها إنّ الكرامَ قليل...! وبالاضافة لهذه الذخائر، لديهم الأنفة والشّموخ ،والسّؤدد، والعزّة والمجد، والأبراج الشّاهقة التي تناطح عنان السّماء ، و.....ولكنّ أعوادهم هشّة ضعيفة واهية ،إنطلقوا يتوقون بلا بَوْصَلة ولا هادٍ نحو بطولات فردية، دونكيشوتية ،ودانتية،وعلائيّة تمرّدية، وهمية لا طائل تحتها.. ! إنهم قوم رحماء بغيرهم ، وإن كانت بهم غلظة وفظاظة. مشهود لهم ومشهورون بالصّفح والتسامح، وإن كانت بهم أثَرَة وكبرياء . مع ذلك إنهم قومٌ رحماء بالصّغار والكبار،معروفون بهذه الثنائية المركّبة التي طالما تغنّى بها شعراؤهم، ونبغاؤهم، وحكماؤهم،وأجدادهم إنهم ما إنفكّوا يقولون : " نحنُ قومٌ تذيبنا الأعينُ النّجْلُ /على أنّا نذيبُ الحديدَا...طوعُ أيْدى الغرامِ تقتادنا الغيدُ / ونقتادُ في الطّعان الأسودَا... وترانا يومَ الكريهة أحراراً / وفي السِّلمِ للغوانيِ عبيدَا..."!!! لقد كشفت لهم الأيامُ عن مدى ضعفهم، ووهنهم ،وخذلانهم، وخيبتهم ، ولزمت الكآبةُ مُحيّانهم ، وسكنت الحَسْرةُ قلوبَهم. وعزاؤهم الوحيد أنّ الحروبَ سجالٌ، والأيّامُ دولٌ...والتقهقرُ دهرٌ طويل، والحضارةُ برهةٌ خاطفة ..!! * عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوتا- (كولومبيا)