ليست الفلسفة إيديولوجيا أو عقيدة أو ديانة، بل إنها فقط " تفكير حول "، حول الإنسان والإنسانية، حول الإنسان ومحيطه، وحول علاقاته مع الآخرين، وذلك بآليات تبعد الإنسان عن سوء الفهم والتعصب والتطرف، وتمنحه أسس التفكير المعتمد على التحليل والمقارنة والنقد والمراجعة والاستدلال العقلي. وتؤمن الفلسفة بالحوار وتقبل الاختلاف وتدعم الاعتراف بالآخر، وتدافع عن قيم التسامح والسلم والتعايش في إطار الحقوق. ارتبط القول الفلسفي في كثير من العصور والحضارات، ومنها الحضارة العربية الإسلامية، بدفاع الفلاسفة عن الفلسفة وشرعيتها وإبراز منافعها، منهم سقراط وأفلاطون والكندي وابن سينا ومسكويه وابن باجة وابن طفيل وابن رشد، ونجد نفس الاتجاه في الزمن الراهن في أغلب بقاع العالم. وأنا بدوري، عبر هذه المساهمة، بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، أرى من واجبي الدفاع عن الفلسفة. 1 – ماضي الفلسفة بالمغرب: مارس المغاربة الفكر الفلسفي والعلمي منذ أقدم العصور بلغات متعددة مثل اليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والفرنسية والإسبانية، لذلك تمكنوا من الإسهام الفعلي في حضارات متعددة، كان أروع تمظهراتها في الحضارة المغربية الأندلسية التي ساهمت بقدر كبير في مكانة بلادنا في التاريخ كفاعل مهم وكأساس من أسس العصر الوسيط، وبعدها كجسر حضاري مع النهضة الأوروبية. وهكذا ساهم الفكر الفلسفي المغربي – الأندلسي،خلال القرون الوسطى، في تنشيط وإغناء الفكر العلمي والاشتغال العقلي والمنطقي وفي تشكيل حل التوفيق بين الفكر والواقع، بين النقل والعقل، بين الشريعة والحكمة، لأن الفلاسفة يعتقدون بقوة أن الحق لا يضاد الحق وأن تفتح العقل على الفكر هو انفتاح على الأفضل بالنسبة للإنسان والإنسانية. ولذلك نجد في هذه الحضارة كثيرا من الصوفية والفقهاء وعلماء الكلام ينسبون أيضا إلى الفكر الفلسفي والعكس صحيح. وعلى عكس ما هو رائج، فإن القول الفلسفي، رغم انحساره وتقلص دائرة رواجه خلال عدة قرون، لم يتوقف كلية في فضاءات المغرب الكبير، بل بقي مبثوثا في برامج المدارس الدينية ومن خلال الكتابات العلمية والتاريخية والفقهية والمنطقية والصوفية وفي الحكم الشعبية والشعر الشعبي والأمثال وغيرها. ويمكن اعتبار أن الفكر النهضوي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكذا تأسيس الجامعة المغربية في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، كانت بداية استئناف القول الفلسفي بالمغرب، بالموازاة مع الاتصال بالفكر العالمي. وقد ساهمت الجامعة في انتشار الفكر الفلسفي وآلياته التحليلية والنقدية ومفاهيمه،وفي انتشار الروح الفلسفية في الخطاب الثقافي والإعلامي والكتابات العلمية والدينية والتاريخية والأدبية والسياسية والحقوقية والأخلاقية وكثير من التمظهرات الفنية مثل الرواية والمسرح والرسم وغيرها. 2– حاضر الفلسفة بالمغرب : يشهد حاضر الفلسفة والدرس الفلسفي بالمغرب تراجعا نسبيا سواء من حيث المضامين أو من حيث الحضور المجتمعي وعلى الساحة الثقافية، أو من حيث جودة الخطاب، رغم الحضور القوي للمفاهيم الفلسفية وللإرث الذي تركه رواد الدرس الفلسفي بالمغرب أمثال الحبابي والجابري ووعزيز والسطاتي ويافوتوأومليل وطه وبنعبد العالي وسبيلا وغيرهم، ورغم " نضال " وتفاني بعض مدرسي الفلسفة وبعض المشتغلين بها. ويتممحاربة الفلسفة في الوقت الراهن بواسطة عدة آليات ولعدة أسباب منها : - بواسطة الأفكار والأحكام الخاطئة والجاهزة، المستوحاة إما من أقاويل بعض الأقدمين أو من بعض الفقاعات "الثقافية" التلفزية، أو بسبب سوء الفهم أو بسبب غلبة الجهل والاستيلاب. - الجديد والمؤسف حقا، هو أن تتم محاربة الفلسفة بواسطة بعض الأكاديميين والإداريين والمحسوبين على الثقافة والجامعة والإعلام، حيث يدعون،بدافع من الجهل، إلى تحجيم وتقزيم الفلسفة عن طريق مقاومتهم لإنشاء شعب الفلسفة، أو باقتراح دمجها بشعب أخرى، أو بالتضييق الإداري والمعنوي والأكاديمي على بعض المشتغلين بها، أو بحرمانها من مناصب مالية، وغيرها من الأساليب التي لا تشرف حضارة المغرب ولا تخدم أهداف التنمية والتقدم. هذا لا يعني أن كل المشتغلين بالفلسفة أناس يمثلون الكمال والمثال، وهم لا يدعون ذلك في الأغلب، إلا أن منهم من يعمل في الاتجاه المعاكس للأهداف النبيلة للفلسفة وبتضاد مع الأخلاق العلمية، فيساهم بعضهم بسلوكاتهم المصلحية الضيقة في محاولة للنيل من نقاء ونزاهة ورقي تطلعاتنا نحو رقي وسمو الفكر، إلا أنهم يسيئون لأنفسهم لأن الوطن أكبر منهم. - نظرا للحاجة إلى مدرسين للفلسفة، في فترة سابقة، تمت الاستعانةبعدة تخصصات أخرى للقيامبمهمة تدريس الفلسفة وكانت لها حسنات مشهودة، إلا أنه في الوضع الحالي، لا يعقل أن يدرس الفلسفة كتخصص، من حصل على مادتين حول الفلسفة في الفصل الأول من الإجازة، في أحسن الحالات، لذا آن الأوان اليوم لأن تسند مهمة تدريس الفلسفة إلى أصحاب التخصص للرفع من الجودة. 3 – مستقبل الفلسفة بالمغرب : تحديات كبيرة تنتظر المغرب في المستقبل المنظور، من أجل تأهيل الإنسان المغربي، وتنمية الوطن، ومن أجل دعم مسيرته نحو التقدم والديموقراطية، ومواجهة كل العراقيل الفكرية والإيديولوجية التي تحول دون تحقيق تطلعات بناته وأبنائه، وكذا لكي يتبوأ المغرب المكانة التي يستحقها والتي تتوافق مع تاريخه المجيد في مصاف الدول المتقدمة. أمامنا تحديات تخص التعليم والتكوين، لكن أيضا تحديات تتعلق بالأمن الروحي والتنمية الثقافية والتنوير الفكري، أمامنا مهام مساندة ودعم الفكر المتنور المستجيب لحداثة عصرنا ولأصالة هويتنا، داخل كل مجالات نشاطاتنا ومؤسساتنا العامة والسياسية والحزبية والثقافية وجمعيات المجتمع المدني ووسائل التواصل والإعلام. لا حضارة ولا تقدم بدون تنوير للفكر وبدون تأهيل للإنسان. من بين الاقتراحات التي يمكنها ، في نظري المتواضع، أن تساعد على تحقيق بعض آمالنا في إصلاح التربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي ودعم الفكر الفلسفي: - وضع ميثاق جديد للتربية والتكوين يشرف على إنجازه أهل الاختصاص أساسا. - وضع ميثاقجديد للتعليم العالي والبحث العلمي يشرف على إنجازه أهل الاختصاص أساسا. - إنشاء " المعهد العالي للفلسفة " كما هو الحال في أغلب الدول الأوروبية والآسيوية وأستراليا والأمريكتين، وبعض الدول الإفريقية ( أتوفر على تصور متكامل حول هيكلته وتركيبته ومهامه وأهدافه...). - تخصيص 120 منصبا للفلسفة في مجال التعليم العالي، وبشكل استعجالي . نظرا لأهمية هذه التحديات، ولضرورة المرور إلى سرعة أكبر ونجاعة حقيقية، بعيدا عن تنازعات سياسوية أو توافقات غير متوازنة، أعتبر في اعتقادي المتواضع، أن المرحلة تحتاج إلى قرار سياسي حاسم من طرف صاحب الجلالة ( مع كل التقدير والاحترام الواجب لجلالته ). *أستاذ التعليم العالي، رئيس شعبة الفلسفة بالرباط