في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة العاشرة كانت حرارة الصيف تشتد. والقلوب تكاد تبلغ الحناجر من حر القيظ والعطش. ومن عجبٍ أن لحظاتي الجميلة في هذا الفصل كانت في القيلولة. كنت أعشق تمدّدي على اللحاف قبالة النافذة، والمذياع تحت أذني. وكان تيار الهواء، البارد حينا والساخن أحيانا، ينعش أحلامي، وينقلني عبر الأثير إلى حيث تُطل الفرحة من خلف أستار الغيب. وكانت القيلولة، في موسم الصيف، ثابتا من ثوابت الدار. وطالما تسللتُ إلى مرقد أبي لأستل المذياع من بين يديه. وكنت أقدّر الوقت اللازم لاستغراقه في النوم، فمرة أصيب ومرة أخطئ، ثم أقوم، بلا ضجيج، وأنكفئ على رأسه محاذرا أن ألمسه، وأنتشل الراديو ثم أعود مسرعا إلى لحافي ونافذتي. وكنت أسمع صوته الخافت من خلفي: - لا عليك.. خذه! ومع أنني أستطيع أن آخذه، بلا حاجة إلى كل ذلك العناء، فقد كنت أصر على انتشال الراديو من بين يدي والدي ساعة استغراقه في النوم، وكأنني في مشهد تمثيلي! وحين جاء رمضان ولم أكن قد جاوزت الثامنة من عمري، صمت أياما طويلة وقائظة. وكان يؤتي بي إلى مائدة الإفطار أتهادى بين والديّ، من فرط التعب. وأذكر أن أبي كان يصحبني إلى السوق، فيقول الناس، حين يروا اصفرار جلدي وذبوله: - هذا الولد صائم.. مسكين! ولا أنسى بائع الشباكية الشاب، وهو يبتسم في وجهي ويمد لي قطعة، ثم يومئ إلى والدي: - تهلاّ فيه.. كأنه الأمس.. يا للأيام كيف تمضي مسرعة لا تلوي على شيء! تنسرب الساعات من خط الزمن كأنها قطرات الماء تنسرب من بين الأصابع! فنكبر ونشيخ، وندرك أن حقيقة الحياة تكمن في أنها لا تدوم على حال. ثم نرجو ذلك الرجاء المستحيل: - ليتنا بقينا أطفالا..! وهل يعود اللبن في الضرع، يا طفلي العزيز؟ وكان الطفل يتكئ، أحيانا، على عكاز طبي، ثم لا يلبث أن يضيق به. وإنه ليذكر يوم جاءه المعلم بعصا خشبية طويلة ثم قال له: - هذه تسندك وتعينك على المشي.. وكانت أشبه بالعصي التي يتكئ عليها العجائز ويهش الرعاة بها على أغنامهم. صفراء فاقع لونها. ولكنه المعلم وأمره نافذ. والأدهى أنها كانت طويلة، بل تكاد تكون أطول مني. وقد اتكأت عليها أياما خوفا وطمعا. ثم ألقيتها، بعد أن تسببت لي في آلام فظيعة في ساعدي وكتفي وظهري وسائر جسدي. ولا أشك أن معلمي إنما أراد أن يساعدني، بحسن نية. ولو خيرت لاخترت أن تمتد عصاه ضربا على يدي على أن أتكئ عليها بتلك الطريقة المرهقة. وكان من فأل هذا المعلم عليّ أنه كان يلزمنا بصياغة موضوع إنشائي من سطور قليلة، ونحن في الفصل الثالث ابتدائي. وإني لأراني، الآن، عاكفا على الكتابة، مسرورا بذلك أيما سرور. ثم فكر والدي في اقتناء آلة طبية معينة، غير العكاز. وكانت هذه الآلة أشبه بحذاء طويل بمواصفات خاصة. ثم حملنا عصا الترحال. وتلك قصة أخرى.. [email protected]