في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة التاسعة والعشرون: تحجز اليد الحانية أشعة الشمس أن تؤذي عينيّ. ثم تتعبُ فينسرب الشعاع بين الأصابع. وإذا به يميل بكليّته نحو الشمس يصرفها بالظهر والكتفين. وأنا راقد على ساعده كمشةُ لحم وعظم! وإني لأنظر إلى أبي يشدّد في الأمر ويعيد، فتنبعث نبرات صوته - على غير العادة - جادة لا هزل فيها: - إياك واللعب على الطريق!.. ثم أسمع في صوتها نبرتَه. ويتدفق الحنين في الأرجاء. وأغلق عيني ثم أفتحهما فإذا الزمن ينساح قادما من الحضن الدافء، ذاهبا إلى الحضن الدفء. ويرن صوتها في أذني كأنه صوته هو: - إياك.. والطريق! ولقد أحيت طفلي الراقد من موات، وكنت أحسبه لا يقوم من رقدته. ولكنها هدهدته وغنت له أغنيات الطفولة حتى قام يتمطى، ويسألني في عجب: أين دفنتني كل هذه الأعوام؟ وقلت له: هذه زوجي. فقال: هذه أمي. وإنها لتواسيني بالكلمة فتصنع مني رجلا آخر، على ما قد يعتريني من السآمة وتقلب المزاج. وتعرضُ مخيلتي شريط الذكريات فأراها تحمل هذا الكلّ وتحمل عنه كأي امرأة عميقة الثقافة، نقية العواطف، قد جمَعَتِ الهموم في هم واحد: هذه الأسرة الصغيرة وهذا الطفل الكبير! وإنك لمحظوظة يا نُفيستي!.. وما يكون الحظ غير ما تكرعين فيه!؟ فهل تذكرين كيف قضت يومها تلمُّ الأوراق. وإذا بها تحدثني بيقين من رأى وسمع: - ربما ستعيش تجربة مهنية جديدة.. هذا حدسي! وقلت لها: - إنك لفألي الحسنُ فألق الظرف في الصندوق. وصدق الحدس أو كاد. وما هي إلا أيام حتى وجدتني في الرباط. وكانت زوجي تسرع الخطا وتحثني على الإسراع. ولم تلبث تنظر إلى الساعة وتحسب الدقائق المتبقية عن موعد الامتحان. وقالت، وأنا أهم بركوب سيارة الأجرة: - ناجح.. بإذن الله.. وتحركت مشاعري.. وإني لأنظر إليها من خلف الزجاج فتشير إليّ أن الله معك. وتعصف بذهني الذكريات، فأراني فتى غضا يعشق النبات فيدرس أياما في المدرسة الفلاحية ثم يعود خائبا. وتوقف تدفق الأحاسيس وقد رن الهاتف. وقالت زوجي: - سأنتظرك في أي مكان هنا.. بالقرب من المحطة. وفكرت أن ساعات الامتحان قد تكون طويلة. وودت لو أنجزته في ساعة ثم عدت. وأغراني خاطر بذلك ثم استعذت بالله من الشيطان الرجيم، فإن العجلة منه وإنها تفضي إلى الندامة. ودخلنا قاعات الامتحان. وبدا أن النجاح وسط هذا الجمع الغفير إنجاز في حد ذاته. وإني لأعرف أن زوجي تلهج بالدعاء في هذه الأثناء. ورق قلبي إليها فكأنه يضخ الحنين، لا الدماء. ثم هجم علي الحماس فدفنت رأسي في الورقة وانطلقت يدي تكتب وتشطب حتى اكتمل المكتوب. وانتهى الشطر الأول من الامتحان. وخرجنا للغذاء. وإني لأهم بالخروج حتى لمحتها تجر الحقيبة وتلوح بيديها. وقالت: - نتغذى سوية ثم عد إلى امتحانك.. فقلت، وقد اعتراني إحساس أشبه بالذهول عن العالم: - ناجح إن شاء الله.. وكل خسارة بعدك تهون! وكان من فألها علي أن دخلت غمار تجربة مهنية جديدة في مؤسسة إعلامية رائدة، هي وكالة المغرب العربي للأنباء. [email protected]