في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة الخامسة والعشرون كان ضوء النهار ينبثق من الظلمة الخفيفة قبل الفجر. وتنفس الصبح فتبينتُ مشارف المدينة من خلف الزجاج. ولم تمض دقائق حتى لفظت الحافلة ركابها. وفكرت أن بيني وبين العاشرة صباحا ساعات طويلة. ولقد فرحت لذلك، فإنها عندي ساعات ثمينة، أخلو فيها إلى نفسي، وأتنسّم ريح البشائر القادمة. والفرحة تحب الخلوة. وإن المرء لا يشعر - على الحقيقة - بنشوة الإنجاز إلا حين ينفرد بنفسه فيعيد التفاصيل والجزئيات ويطرب لذلك غاية الطرب، ثم يعيدها في نفسه مرات أخرى إلى أن يكتفي بهجة وسرورا. وكان صباحا هادئا. ولم يكسر هدوءه سوى تلك الضوضاء التي أحدثها النادل وهو يُستّف كراسي المقهى وموائده. ثم هجم عليه التعب. ولم يكن قد نام ليلة البارحة. وبدا له أن يكتب ليطرد النوم. وهي عادته الأثيرة. ولقد يسرت عليه هذه العادة مواقف مؤلمة، فكان يكتب الكلمة تسبقه على الورق فينسج من حولها كلمات وجمل. وإنه ليرهق ذهنه ويستدعي إحساسه ثم يتوحد مع المكتوب ويغيب فيه، وإذا الحواس قد استيقظت وإذا النوم قد طار. وإن الكتابة لهي عصاه التي يتكئ عليها. أعني التُّكأة النفسية. أما الحسية فإن لها حكايات أخرى. وإني لأذكر يوم عملت منشطا لسهرات مهرجان فني. وكنت إذا انتهيت من عملي وقد غسق الليل آثرت أن أقضيه في المقهى. ولم يكن عندي من خيار آخر، فإن المدينة سياحية وإن مبيتي في الفندق سيكون أشبه بالتي تغزل في الليل ثم تنقض ما غزلت في الصباح! وقد كان نومي غفوات ثم عينان مفتوحتان. وكنت إذا اتخذت مكاني في المقهى قاومت جحافل النعاس الهاجمة فشربت القهوة وبللت وجهي وتعرضت لنسائم الليل. ولكن للنوم سطوة. وهي سطوة لا تقهر. فإذا كان التعبُ قرينَ النعاس فإنه يرخي العظام ويشتت الذهن ويبلد الإحساس. ثم أُلقيت في روعي فكرة. فكأنها طوق نجاة. وفتحتُ محفظتي. وبحثت عن القلم وسط أشيائي المبعثرة: منديل وصابون وفرشاة ومعجون أسنان. وإن شعورا غائرا لينبجس في قلبي يسيل بالشفقة علي، فأُكبر نفسي وأكتب: "هذه المشاعر بمثابة "تشحيم" لحياتي. أتعرف التشحيم؟ إنها الزيوت حين توضع بين مفاصل الآلات.." وأقضي الليل على تلك الشاكلة. أكتب عن مشاعر اللحظة وهواجسها. فإذا بلغ مني التعب مبلغه وشعرت بالفراغ يملأ ما تحت جمجمتي، درت بعيني باحثا عن أي إنسان. فإذا رأيته استوحيت منه حكاية، أي حكاية! وكأنها هلوسة التعب والرغبة في النوم. ثم إذا مللت اللعبة قلت إن علي أن أعبر عن الصورة الماثلة تحت بصري، ولو كانت نبتة زرع صغيرة قد انكسر ساقها، في جملة أو جملتين. وكنت أكتب لأطرد النوم، وليمضي الليل إلى حال سبيله. وربما لأستسيغ تعبي ووحدتي. ولقد كان الحذاء الطبي يشتد علي، فكأنها النار تلفح قدمي من استطالة الجلوس لساعات متتالية.. وقد كدت أن أنسى.. يا إلهي! ألست في الطريق إلى الإذاعة؟.. وإنما هي دقائق تفصلني عن العاشرة صباحا. وها قدمي تقودني - وهي تدخل دار الإذاعة - إلى حيث أقضي أعواما من عمري خلف الميكروفون. [email protected]