وأخيرا أطال الله تعالى في أعمارنا حتى سمعنا من يردد و يهتف بأعلى صوته في الشارع العام عاش الشعب عاش الشعب! هتاف كلفنا ربما عشرات الآلاف من الأرواح الطاهرة والدماء النقية التي سفكها المخزن طوال الستين السنة الماضية كاتما لهذا الشعار، إنه الشعار الحلم الذي راود المناضلين و الشرفاء و الوطنيين، إنه الشعار الذي لم نعتقد في يوم من الأيام أننا سندركه!و لكنها إرادة الله تعالى الذي يخرج الحي من الميت و يحي الأرض بعد موتها، الآن يرتاح المهدي بن بركة و سعيدة المنبهي و كمال عماري قريري العيون. المغاربة ورحلة عاش الشعب التي لم تقلع قبيل الاستقلال المعلول أو الاحتقلال بتعبير أسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله تحالفت الحركة الوطنية مع القصر على المضي في المطالبة بالاستقلال،و لأن الحماية الفرنسية لم يرق لها هذا التحالف، فقد أرادت استبدال السلطان محمد بن يوسف بقريب عائلي له من نفس السلالة الحاكمة هو الشريف بن عرفة، و حينها خرج إلى الوجود شعار "عاش الملك" و المقصود به السلطان بن يوسف نكاية في دمى فرنسا و عملائها الأوفياء، علما بأن حزبا كالشورى و الاستقلال كان دائما متحفظا من الإطلاقية في الشعار، حيث كان أول من بادر في منتصف الأربعينات إلى المسارعة إلى الخوض المبكر في نوع السلطة و دمقرطتها و دسترتها قبل الوصول إليها حتى لا نستبدل استعمارا باستعمار آخر و استبدادا أشقرا خارجيا بمحلي أسمر و طربوش أحمر و بْلِيغَة صفراء!بيد أنه بعد الاستقلال الناقص ركب المخزن على الشعار و استغله هذه المرة للهيمنة على السلطة و إقصاء الآخر السياسي المعارض كحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي نكل به المخزن تنكيلا تاريخيا، ثم استمر الشعار مهيمنا على الحياة السياسية المغربية، حتى تقزم الوطن في ظل انتفاخ السلطان الذي احتوى الوطن عوض أن يحتوي الوطن الجميع، و بذلك خفت صوت الشعب!بل أصبح من يرفع شعار عاش الشعب أو الحديث عن الشعب، ثوري انقلابي خارج الإجماع الوطني، و يا لها من مفارقة عجيبة لا تحدث إلا في المغرب، و الحال أن الشعب كمرجعية و مصدر للسلطة لم يعد لها معنى في ظل دولة المخزن الحديث اللهم الخروج و الاصطفاف و التهليل و التطبيل و المساندة المطلقة و اللا مشروطة لدار المخزن و "كولوا العام زين". و بذلك أضحى الشعب مجرد أكسيسوار تأثيثي في دار المخزن التي من دخلها مفقود و من خرج منها مولود! إننا نعيش منذ سنة 1956 الاستثناء عوض الأصل! فالأصل أن يقال عاش المغرب، عاش الشعب، و أن لا يختزل الشعب و الوطن في شخص الحاكم وحده لا شريك له، و إن كان يمثله و لكن هذا لا يعني الاحتكار إلى درجة الهيمنة المطلقة! و لو عددنا المرات التي قيل فيها عاش الحاكم و عاش الشعب منذ 1956 لوجدنا 99.99999% للحاكم 0.000001% للشعب، ولولا النضالات الكريمة للشرفاء لما قيلت تلك العبارات على ندرتها و قلتها! و ليس المغرب البلد الاستثناء الوحيد فقريب من هذا حدث في مصر عقب انقلاب الضباط الأحرار 23 يوليوز 1952، حيث عوض أن يقضي الضباط الثوار على الفساد و يعودوا إلى ثكناتهم راشدين مشكورين، قبعوا في السلطة، حتى أن الزعيم القومي جمال عبد الناصر و في حالة سكر ثوري قال " أنا الذي علمت المصريين الكرامة" ! ولا أجد تعبيرا أبلغ مما كتبه قائد الثورة الفعلي اللواء المظلوم محمد نجيب رحمه الله من طرف تلامذته واصفا الحالة المزرية في مذكراته: "لقد اخترق العسكريون كل المجالات وصبغوا كل المصالح المدنية باللون الكاكي" و الكاكي هو لون اللباس العسكري المصري. و إذا كانت مصر قد تحولت إلى اللون الكاكي فقد تحول المغرب إلى النسق الشخصاني العاشملكي عوض العاشعبي. لا "بَنَانْ" ولا عاش الشعب! في فبراير/مارس 1988 فتحت الحدود بين المغرب و الجزائر الشيء الذي جعلنا نحن في وجدة نشهد عملية غزو جزائرية غير مسبوقة، حيث كانت العائلات الجزائرية تزورنا بشكل دروي بحكم عوامل المصاهرة و القرابة و هي ظاهرة تكاد تمس جل العائلات الوجدية، إذ الكل تقريبا له امتداد عائلي هناك وراء الحدود المسماة بزوج بغال، في تسمية فرنسية استعمارية استهزائية ما نزال نجتهد على بقائها رسميا! هذه اللقاءات العائلية التواصلية عادة ما كانت تعرج على المواضيع السياسية، فكنا نتبجح عليهم بأن المغرب دولة منفتحة ليبرالية تعرف اقتصادا مفتوحا عكس الاقتصاد الجزائري المؤمم الاشتراكي حينئذ بحيث أن الكل يمر عبر بوابة أسواق الدولة المعروفة بسوق الفلاح!و لأن الجزائريين كانوا لا يعرفون عددا من المنتوجات كالفواكه و على رأسها "البَنَانْ" و ما أدراك ما "البَنَانْ" !والذي كان فاكهتهم المفضلة، إلى درجة التقديس،و إذا كان الحجاج يقصدون الديار المقدسة بنية الحج و العمرة فإن "الخاوا"-و هي التسمية الدارجة التي كنا ننعتهم بهم بل حتى مقتبسينها من قاموسهم- كانوا يزرون المغرب بنية أكل البنان و هو بمثابة الحج ،وشرب المونادا و أكل الكاوكاو و هي مرتبة أدنى من مرتبة أكل البنان! إلى درجة أنه كان يستحيل على جزائري اجتاز زوج بغال أن لا يكون اقتنى كمية من "البَنَانْ" .و في المقابل كان "البَنَانْ" فاكهة مقدسة عندنا مصونة الجناب، تعلق و ترفع فوق جميع الفواكه داخل محل بيع الفواكه و الخضر، فهي و إن كانت متوفرة إلا أنها كانت موقرة الجناب عالية المقام و كنا نهاب أكلها أو حتى الاقتراب منها لثمنها المرتفع و للهيبة المخيالية التي كنا نضعها فيها ،حتى أننا كان نقرن أكل "البنان" بالسقوط مريضا طريح الفراش، بل البعض كان يشدد على شروط أكل "البَنَانْ" بحيث لا يأكلها إلا من وقعت له حادثة خطيرة أو يعاني من مرض شديد قد يشارف على الموت! أما ما دون من الوعكات الصحية الروتينية فيكفي زيارة المريض و معك "لتر من الحليب"! هذا بالإضافة إلى نقدنا إياهم على عقليتهم الانفعالية المبالغ فيها، حتى كنا نقول لهم بأنكم " عشرة في عْقَلْ "!و في المقابل لم يكن ضيوفنا يكتفون بالاستماع إلى نقدنا المغربي الهادئ البارد بل كانوا يردون بعنفهم الثوري الجزائري و بأننا نحن المغاربة "دشرة في ماندا" نتيجة هزالة أجورنا ورواتبنا الميكروسكوبية التي كان الواحد يخجل من ذكرها و لو في السر !ثم كانوا يردفون بنعتنا بأننا لا نملك شيئا اسمه الشعب! عكسهم، حيث لهم قصر الشعب و أسواق الشعب و ما كان غير الشعب. كما كانوا لا يفوتون فرصة بتذكيرنا "ببوسان اليدين" للحاكم و الركوع و طقوس الله يبارك في عمر ...و الحال أن الجزائريين آخر واحد قد يلقننا دروس عن السيادة الشعبية و هم الذين عاشوا تحت سيادة اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير ثم بعد ذلك تحت وصاية المؤسسة العسكرية لجنرالات فرنسا الذين تغلغلوا في دواليب القرار إلى أن وصلوا إلى سدة السلطة بعد انقلاب يناير 1992. عاش الشعب على الرغم من أنف المخزن إلا أنه و مع نقدهم اللاذع لنا المصاحب بلكنة رهيبة من الحساسية من كل ما هو مغربي إلى درجة الكراهية المطلقة و المغرب فوبيا ! يصعب تجاوزه لأنه و مع ذلك فيه جانب معتبر من الصواب !لأننا طوال الستين السنة الماضية التي أعقبت استقلالنا المنقوص لم نول أهمية لمؤسسة الشعب و لصوت الشعب و لصورة الشعب و لنبض الشعب و لصرخة الشعب، فلم يكتف المخزن بتدجين و مخزنة الشعب و لكن عمل على تقزيمه إلى درجة القتل الرمزي المخيالي، فلا أثر للشعب في الحياة العامة و لا توجد منشأة معتبرة تحمل هذا الاسم و لا وجود لعبارة عاش الشعب أمام محيطات من الجمل الممجدة للحاكم و عاش الحاكم و لا شيء غير الحاكم! و المشكلة أن العهد الجديد الذي سوق نفسه على أنه قطيعة سياسية مع عهد الحسن الثاني السلطان العبقري الباني !كرس هو كذلك هذا الإقصاء للشعب في الفضاء العام، و كم تألمت عندما غيرت الجماعة الحضرية في وجدة منذ أقل من سنتين اسم لشارع رئيسي و تاريخي هو شارع أحفير إلى شارع ولي العهد! ثم غيرت أقدم و أشهر ممر بوجدة المعروف طريق مراكش التاريخي لتتم تسميته باسم والد رئيس الجماعة الحضرية لوجدة عمر حجيرة و أخو الوزير توفيق حجيرة حيث أضحى الشارع التاريخي يسمى اليوم بعبد الرحمان حجيرة! بل حتى قنطرة واد الناشف تم تسميتها منذ زهاء سنة بقنطرة محمد الخامس! أين شارع الشعب ؟و قنطرة الشعب ؟و سوق الشعب؟و أين الشعب نفسه؟ و كأن كلمة شعب كلمة تنتمي إلى قاموس العمالة و الخيانة و اللا وطنية!و لكن الحمد لله الذي جعلنا نعيش اللحظة التي ترفع الشعارات المدوية في الفضاءات العامة بعاش الشعب، و فعلا عاش و يعيش الشعب. [email protected]