في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة الخامسة عشرة وتمايلتُ فإذا نظري شاخص إلى السماء وأنا أهوي إلى الأرض. وبدت لي أصابع كثيرة تريد أن تتلقفني. وتكوّرتْ حول وجهي وجوه عديدة. ثم علتني حمرة قانية، وقد امتدت الأيادي إلي: - مالك أصاحبي..؟ - الصباط ! - راه مزيان.. وكان علي أن أقول إنه الحذاء الطبي الطويل، لا الصباط الذي تعرفون. لكن لساني كف عن الكلام يأسا وقنوطا. ثم اعتنقني صديقان وسِرتُ بينهما وقد انمحت كل الصور من ذهني وأصبح قلبي فارغا هواءً.. ولم أكن أتمادى في كآبتي، فقد أودع الله فيّ نفسا طروبا تشقى بالحزن مثلما تسعد به، ولكنها لا تحب أن تعيش في إساره ولا أن تنفق أيامها في البكاء تحت شرفته. إنما يكفيني من الشجن ما يبعث في المشاعر حرارة الحياة.. بقدر الملح في الطعام، لا أكثر! وقد كان يسليني في كل مواجعي أنني مبدع فنان. أو هكذا كان يخيل إلي. وكنت أستعيد مواقف مؤلمة من حياتي فإذا صوتٌ يصرخ فيّ: ما أصلح هذا الموقف الدرامي لو كان مشهدا سينمائيا! وأرهف السمع للأصوات من حولي فأخالني في صالة سينما بحجم الشارع الممتد. وكنت أشعر كأنني أقف على خط رفيع يفصل الواقع والخيال، فإذا الناس والسيارات والحوانيت خيالات سينمائية تتراقص تحت بصري. وقد ارتبطت قاعة السينما في ذهني بالعيد. وكانت تمتلئ عن آخرها في عيد الفطر حتى تئطّ من الامتلاء. وما أن تُطفأ الأضواء حتى يعلو التصفيق والصفير. ولم تكن المشاهد المؤثرة تسلم من التعليقات الصاخبة، ويا ويل خصم البطل إذا أبدى رعونة زائدة فإن التهديدات تنبعث من جنبات الصالة كأنها الزلزال! ولم أكن شديد الإعجاب بالسينما الهندية، فقد كانت تنرفزني مبالغاتها الفارغة في كل شيء. ولم تكن مشاعر الحب بمنأى عن ذلك، ولذلك وجدتها في الكثير من الأحيان مشاعر "مصنعة" على أضواء الكاميرات في استديوهات التصوير. وكانت عندي أشبه ب"المعلبات" الخيالية البعيدة عن التدفق اليومي للحياة كما يعيشها البشر في أنحاء المعمور. على أنني كنت معجبا بالنزوع الإنساني لبعض الأفلام الهندية. وشاءت الصدف أن أشاهد أحد تلك الأفلام مرتين في أسبوع واحد. وكان من المفارقة الغربية أن القاعة انتفضت تحتج على "الشرير" في المرة الأولى. وهو عين ما حدث في المشهد ذاته والتوقيت ذاته في المرة الثانية. وقلت في نفسي: - زعما كلهم شافوا الفيلم مرتين ! وفهمت، بعد ذلك بأعوام، أن السلوك الاجتماعي لم يتغير في المرتين، لا الأفراد. وأن التجربة تعطي النتائج ذاتها إذا أعيدت في الظروف نفسها. ثم تعلمت، بعد أعوام أخرى، أن عين الصّلف العلمي قد تكمن في تعسف "العلوم التجريبية" على "العلوم الاجتماعية". وتلك قصة أخرى لا خبر عندها عن حديث الحنين السادر في عشقه! وإني لأذكر - عائدا إلى الحنين العاشق - يوم خرجت إلى الامتحان في السابعة صباحا، وكنت قد أرهقت عيني إذ لم تذوقا طعم النوم إلا قليلا. وقد لونتْ أشجار الزيتون مجال نظري بالأخضر البارد، فانقدح في نفسي إحساس بالنشوة غريب. وسرتُ أحث الخطا على الطريق الطويل. ولم يكن في ذهني غير تلك الأوراق التي قرأتها بالأمس والتي أرجو أن يكون منها الامتحان اليوم. وأحدس أن تلك النشوة لم تكن، على الحقيقة، سوى نشوة الامتحان. ورفعت رأسي إلى السماء كأنني أدعو الله في خاطري. ونظرت إلى الساعة فإذا هي السابعة والربع أو قريبا من ذلك. وأحاطت غمة قاتلة بقلبي حتى إنه ليكاد يختنق. ونظرت أسفل قدمي فلم أرى شيئا، ولكنني سمعت: - طق.. طق.. طق! [email protected]