عيد العمال.. الكونفدرالية ببني ملال "تحتج" في مسيرة حاشدة    تفاصيل إحداث قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء يوفر أزيد من 20 ألف منصب شغل    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    العثور على جثة شخص داخل منزل بشارع الزرقطوني بعد اختفائه لثلاثة أيام .    الساحة الفنية المغربية تفقد أحد أعمدتها برحيل الفنان محمد الشوبي    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    اللاعب المغربي الذي أبهر العالم بأدائه المجنون … !    الصين تدرس دعوات أمريكية لاستئناف الحوار بشأن الرسوم الجمركية    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    حين يتحول الانفعال إلى مشروع سياسي: في تفكيك خطاب بنكيران حول "القضية" و"الحمار"    الفنان محمد الشوبي يرحل إلى دار البقاء    اسرائيل تشن هجوما على منطقة مجاورة للقصر الرئاسي في دمشق لحماية "الدروز"    وفاة الفنان محمد الشوبي بعد صراع مع المرض    طنجة: سخان ماء يتسبب في حريق.. وتدخل عاجل للوقاية المدنية يجنّب المأساة    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    "أشبال المغرب" يستهلون كأس إفريقيا بفوز شاق على منتخب كينيا    متطوعون ينقذون محاصرين بزاكورة    دفاع الجديدة يعود بالتعادل من بركان    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    الدمناتي: مسيرة FDT بطنجة ناجحة والاتحاد الاشتراكي سيظل دائما في صفوف النضال مدافعا عن حقوق الشغيلة    تيزنيت: الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب ينظم تظاهرته بمناسبة فاتح ماي 2025 ( صور )    عندما يهاجم بنكيران الشعب.. هل زلّ لسانه أم كشف ما في داخله؟    وزراء خارجية "البريكس" وشركاؤهم يجتمعون في ريو دي جانيرو    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    في عيد الشغل.. أمين عام حزب سياسي يتهم نقابات بالبيع والشراء مع الحكومة    صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    كلية الناظور تحتضن ندوة وطنية حول موضوع الصحة النفسية لدى الشباب    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    لماذا أصبحت BYD حديث كل المغاربة؟    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    عمر هلال يبرز بمانيلا المبادرات الملكية الاستراتيجية لفائدة البلدان النامية    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    "تكريم لامرأة شجاعة".. ماحي بينبين يروي المسار الاستثنائي لوالدته في روايته الأخيرة    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    أغاثا كريستي تعود للحياة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي    دول ترسل طائرات إطفاء إلى إسرائيل    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم العدالة الانتقالية
نشر في هسبريس يوم 19 - 07 - 2017

ما المقصود بمفهوم العدالة الانتقالية؟ وما علاقته بقضايا التحديث بصفة عامة، والتحديث السياسي بصفة خاصة؟
بالعودة إلى بعض وثائق المركز الدولي للعدالة الانتقالية، سنعثر على توضيحات مرجعية للمعاني التي يحيل إليها هذا المفهوم الذي أصبح واسع الانتشار لدى المنظمات الحقوقية العالمية والوطنية، وفي كل النصوص المرتبطة بالقانون الدولي في الوقت الراهن.
في وثيقة بعنوان "تاريخ العدالة الانتقالية ونظريتها"، جاء ما يلي: "تقوم العدالة الانتقالية على معتقد مفاده أن المطالبة بالعدالة الجنائية ليست شيئا مطلقا، ولكن يجب أن تتم موازنتها بالحاجة إلى السلم والديمقراطية والتنمية العادلة وسيادة القانون".
إن العدالة الانتقالية نتاج للخطاب الدولي حول حقوق الإنسان، وتشكل جزء منه.
غير أن هناك ثلاث خصائص في تمييز مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم حقوق الإنسان واستقلاله بذاته:
- "التركيز على الشمولية في التعامل مع إرث الانتهاكات، فأهداف وأدوات العدالة الانتقالية تتجاوز المحاسبة المعروفة على انتهاكات حقوق الإنسان من خلال المحاكمات".
- "الأولوية التي يحظى بها التوازن والإدماج. فالعدالة الانتقالية لا تسعى إلى عدالة بأثر رجعي بأي ثمن، أو تركز على المحافظة على السلام على حساب حق الضحايا في العدالة، ولكنها تؤكد عوض ذلك على إرساء توازن بين الأهداف على اختلافها وتنافسها...".
- "التركيز على منهج يرتكز على الضحايا للتعامل مع ماض عنيف، سواء من حيث مساره أو نتائجه...".
في الجانب النظري والعملي، "تهدف العدالة الانتقالية إلى التعامل مع إرث الانتهاكات بطريقة واسعة وشاملة تتضمن العدالة الجنائية، وعدالة إصلاح الضرر، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الاقتصادية".
تتضمن أهداف العدالة الانتقالية ما يلي:
"وضع حد لجرائم حقوق الإنسان الجارية ممارستها، والتحقيق في الجرائم وتحديد المسؤولين ومعاقبتهم، ومنح تعويض للضحايا، ومنع ارتكاب جرائم حقوق الإنسان في المستقبل، وإعادة بناء علاقات بين الدولة والمواطن، وتعزيز السلام والديمقراطية وتحسينهما، وتشجيع المصالحة الفردية والوطنية".
تستند فلسفة العدالة الانتقالية بهذه المعاني سالفة الذكر إلى تصور سياسي قوي لمفهوم الحق، وإلى تصور حقوقي كوني لمفهوم العدالة، وإلى تصور فلسفي حداثي لمفهوم الإنسان. وهذه التصورات مجتمعة ومتكاملة، تنمي استراتيجيات مؤسساتية قوية من أجل مواجهة كل أنواع الماضي السياسي العنيف أو المسلح، انطلاقا من فرضية أساس تعتقد أن السير نحو المستقبل يقتضي تصفية شاملة ونهائية لكل نزاعات الماضي التي لم تتم تسويتها بعد بالطرق السلمية أو الديمقراطية.
في هذا السياق الدقيق، يحيل مفهوم العدالة الانتقالية إلى سياسات واستراتيجيات دولية ووطنية، رغم أن لكل حالة وضعها الخاص، وفي غياب واضح لنماذج موحدة حول كيفية مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية.
ومع ذلك، توجد مبررات وعوامل عالمية قوية لمواجهة كل أشكال الماضي السياسي العنيف من هذا المنظور، أهمها:
1. تقوية الديمقراطية: "إن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم على أساس أكاذيب (...) ويتم ذلك بشكل كبير من خلال إرساء المحاسبة مثل مكافحة الإفلات من العقاب، ومن خلال بناء ثقافة ديمقراطية".
2. الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي: "إن نسيان الضحايا والناجين من الفظائع يعتبر شكلا من أشكال إعادة الإحساس بالظلم والإهانة".
3. من المستحيل تجاهل الماضي: فهو دائما يطفو على السطح؛ لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة بناءة وشافية.
4. "لنمنع ذلك في المستقبل. طبقا لهذا المبرر، نرى أن مواجهة الماضي تخلق نوعا من الردع (....) للحيلولة دون ارتكاب أعمال شنيعة في المستقبل".
بقراءة وتأمل هذه الأرضية الفلسفية والسياسية والحقوقية القوية التي تسند مفهوم العدالة الانتقالية وتمنحه شرعية دولية متزايدة، نلاحظ ما يلي:
أولا: ليست العدالة الانتقالية مجرد ملفات للانتهاكات جاهزة لتصفيتها حقوقيا أو قضائيا بعجالة، بمعنى آخر لا يتعلق الأمر بتسويات سريعة ومغلقة لملفات آنية وطارئة.
إن العدالة الانتقالية ليست مطلبا قضائيا عاديا اكتسب صبغة دولية، وليست مجموعة مطالب حقوقية، بل مجموعة من المقتضيات المعقدة التي يتكامل فيها المطلب القضائي بالتشريعي والسياسي والحقوقي والإنساني.
ثانيا: يتجاوز مفهوم العدالة الانتقالية حيزه الحقوقي كجبر للضرر أو تعويض مادي للضحايا. إنه يتحول إلى شرط دولي لإنجاح كل مشاريع التنمية البشرية وحيازتها لدعم أممي.
هذا ما تثبته وثيقة أممية خاصة بمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، جاء في تصديرها ما يلي: "لا سبيل لنا للتمتع بالتنمية بدون الأمن، ولا بالأمن بدون التنمية، ولن نتمتع بأي منهما بدون احترام حقوق الإنسان".
ثالثا: في السنوات الأخيرة بشكل خاص، أصبحت قضايا إقرار العدالة الانتقالية ذات العلاقة بملفات العنف السياسي (الاختطاف التعذيب، الاختفاء القسري....) شأنا دوليا على نطاق واسع ومتزايد ويتجاوز السياسات المحلية الخاصة بكل دولة على حدة. وهناك اليوم حضور واسع وقوي للمنظمات الأممية والحكومية وغير الحكومية في تدبير السياسات الوطنية في هذا الموضوع.
رابعا: انطلاقا من فلسفة العدالة الانتقالية، يتضح أن هناك معايير دولية ضاغطة في إنجاز التحديث السياسي أو الانتقال الديمقراطي عبر نافذة المقتضيات الأساس لهذه الأخيرة، غير أن الخبراء الدوليين في هذا النوع من الملفات المرتبطة بقضايا العدالة الانتقالية، يعتقدون بأنه ليس هناك وصفة وحيدة رغم وحدة المعايير وكونيتها: "من شأن تطبيق المجموعة نفسها من القواعد على تجارب مختلفة جذريا أن يفقد خيار إدماج مزيد من التجارب والمفاهيم المحلية".
إن الحركة الدولية لحقوق الإنسان هي ثمرة لزمان ومكان معينين، كما أن الحركة الأوروبية لما بعد عصر التنوير التي تمثلها قد تتخلى عن الثقافات غير الأوروبية، ولاسيما عندما تحاول فرض معايير على الديمقراطيات الناشئة التي لا توجد في الغرب الحديث.
خامسا: تعتبر حركة العدالة الانتقالية عبر العالم اليوم إدانة دولية قوية ومناهضة عالمية واسعة النطاق لكل أشكال الماضي العتيق الذي انبنى على الاستعمار أو الحروب الأهلية، أو انتهاك حقوق الإنسان في الحياة والحرية والعدالة، أو العنف السياسي بأنواعه المختلفة. وهذا يعني بوضوح أنه:
"بعد آلاف من السنين من إفلات الإنسان من العقاب على لا إنسانيته تجاه أخيه الإنسان، أصبح من المعلن بصورة مشتركة في أنحاء العالم أن جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الواسعة والمنتظمة لحقوق الإنسان، ما عاد يمكن تجاهلها ببساطة عند انتهاء الحرب –أو النزاعات".
ورغم أن أصول حركة العدالة الانتقالية على الصعيد العالمي تعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد القضاء على النازية وبداية سلسلة محاكمات نورمبرغ، فإن الظهور الدولي الحقيقي لهذه الحركة الحقوقية لم يبدأ إلا منذ سبعينيات القرن العشرين، إثر إقرار محاكم حقوق الإنسان في اليونان وبروز لجان تقصي الحقائق في جنوب أمريكا اللاتينية، خاصة في الأرجنتين سنة 1983 والشيلي سنة 1990.
وقد تعززت وتقوت هذه الحركة الدولية بإنشاء جنوب إفريقيا للجنة الحقيقة والمصالحة سنة 1995، وقامت أيضا محكمتان جنائيتان دوليتان في كل من يوغوسلافيا ورواندا، للنظر في الجرائم والفظائع المرتبطة بتحقيق العدالة الانتقالية في ضوء القانون الدولي.
كما ازدهرت هذه الحركة الدولية على نطاق واسع بإقرار وتأسيس كثير مما سمي بلجان الحقيقة عبر العالم، إضافة إلى إحداث المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 17 يوليوز بموجب اتفاقية روما، التي دخلت حيز التطبيق بتاريخ فاتح يوليوز 2002.
يعتقد خبير دولي في ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أن هناك خمسة عوامل تفسر الاهتمام المتزايد بإقرار العدالة الانتقالية على الصعيد العالمي:
1. تغير طبيعة وسائط الإعلام الإخبارية في أنحاء العالم. ففي الوقت الذي يكون من المرجح فيه أن نشاهد الفظائع التي ترتكب في مكان ما وتنقل إلى كافة أنحاء العالم، يكون منتظرا من حكومة ذلك البلد أن ترد بصورة ما.
2. إن النمو في حجم وتأثير دوائر حقوق الإنسان بصفة خاصة، وقطاع المنظمات غير الحكومية بوجه عام، قد أنشأ ضغطا جديدا من أجل مواجهة مسألتي العدالة والمساءلة. ولم تعد الحكومات تستطيع بسهولة حجب هذه المسائل عن النقاش أو تجاهل الانتهاكات التي وقعت في الماضي.
3. أصبح القانون الدولي واضحا بصورة متزايدة في أنه، على الأقل في ما يتعلق بجريمة إبادة الأجناس وجرائم الحرب، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والتعذيب، يحظر إصدار عفو شامل، وأن الحكومات يقع عليها التزام قاطع بالتحقيق في هذه الجرائم ومقاضاة مرتكبيها.
4. تغير طبيعة معظم الحروب. فبحلول نهاية القرن، كان ما لا يقل عن 93 في المائة من الصراعات العنيفة الرئيسية في أنحاء العالم لا يدور بين الدول، وإنما داخل الدول. وبما أن أطراف هذه الصراعات التي تدور داخل الدول عليها أن تعيش معا، فإنه يصبح من الضروري إقرار شكل من أشكال العدالة.
5. هذه الزيادة في تواتر الصراعات داخل الدول قد واكبها توسع ملحوظ في الاستهداف النشط للمدنيين، وهذا ما أثار بدوره اهتماما واسعا بإقرار العدالة في حالات ما بعد انتهاء الصراعات كوسيلة للمعاقبة على هذا السلوك.
إن أحد الأهداف الإستراتيجية للعدالة الانتقالية بالنظر إلى فلسفتها الخاصة هو السعي إلى عدم تكرار الفظائع والانتهاكات التي تتم محاسبة ومساءلة المسؤولين عنها.
ومما لا شك فيه اليوم أن تثبيت العدالة الانتقالية على أرض الواقع لن ينجح في نهاية المطاف إلا عندما يسهم في الحد من ارتكاب الفظائع بصورة فعلية، لكي يعفينا من الاحتياج بعد ذلك إلى بذل جهود أخرى لإقرار العدالة في حالات ما بعد انتهاء الصراعات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.