الرميد: قرار المحكمة الدستورية يؤكد ضرورة الإسراع بإقرار قانون الدفع بعدم الدستورية    وفاة الفنان المصري سيد صادق عن عمر ناهز 80 عاما    بورصة الدار البيضاء .. أداء إيجابي في تداولات الإفتتاح    العقود الآجلة للذهب تقفز إلى مستويات قياسية بعد تقارير عن رسوم جمركية أمريكية على السبائك    مسؤول أممي يرفض "احتلال غزة"    وقفة احتجاجية بمكناس تنديدا ب"سياسة التجويع" الإسرائيلية في غزة    مئات الأطباء المغاربة يضربون عن الطعام احتجاجا على تجويع إسرائيل لغزة    أمريكا ترفع مكافأة القبض على رئيس فنزويلا إلى 50 مليون دولار    العقود الآجلة لتسليم الذهب ترفع السعر    مدرب الرجاء يمنح فرصة لأبريغوف    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    الفرقة الوطنية تستدعي الكاتب العام لعمالة تارودانت على خلفية شكاية البرلماني الفايق    الموت يغيّب الفنان المصري سيد صادق عن عمر ناهز 80 عاما    الفنان المصري سيد صادق في ذمة الله    المغرب على رادار البنتاغون... قرار أمريكي قد يغيّر خريطة الأمن في إفريقيا    الدرهم المغربي بين الطموح والانفتاح النقدي... هل يطرق أبواب "العملات الصعبة"؟    كتاب إسباني يفجر جدلاً واسعاً حول علاقة مزعومة بين الملك فيليبي السادس وشاب مغربي بمراكش (صورة)    أطروحات يوليوز    كيوسك الجمعة | المغرب يحرز تقدما كبيرا في الأمن الغذائي    المجلس الأمني الإسرائيلي يقر خطة نتانياهو "للسيطرة على مدينة غزة لهزم حماس"    استخدام الذكاء الاصطناعي للتحقق من الصور يؤدي إلى توليد أجوبة خاطئة    المال والسلطة… مشاهد الاستفزاز النيوليبرالي    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    عمليتا توظيف مالي لفائض الخزينة    ضمنهم حكيمي وبونو.. المرشحين للكرة الذهبية 2025    المنتخب المغربي المحلي يستعد لمواجهة كينيا    حقوقيون: السقوط الدستوري للمسطرة الجنائية ليس معزولا عن منهجية التشريع المتسمة بانعدام الشفافية    الأرصاد تُحذر: موجة حر وزخات رعدية تضرب مناطق واسعة بالمملكة ابتداءً من اليوم    تدخل أمني بمنطقة الروكسي بطنجة بعد بث فيديو يوثق التوقف العشوائي فوق الأرصفة    تدخل سريع يخمد حريقا اندلع بغابة "ازارن" بإقليم وزان والكنافي يكشف حيثياته        الوداد يعقد الجمع العام في شتنبر    الارتفاع يسم تداولات بورصة البيضاء    الماء أولا... لا تنمية تحت العطش    لسنا في حاجة إلى المزيد من هدر الزمن السياسي    الملك كضامن للديمقراطية وتأمين نزاهة الانتخابات وتعزيز الثقة في المؤسسات    تيمة الموت في قصص « الموتى لا يعودون » للبشير الأزمي    «دخان الملائكة».. تفكيك الهامش عبر سردية الطفولة    السرد و أنساقه السيميائية        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة        يوليوز 2025 ثالث أكثر الشهور حرارة فى تاريخ كوكب الأرض    "أيميا باور" الإماراتية تستثمر 2.6 مليار درهم في محطة تحلية المياه بأكادير    صيف شفشاون 2025.. المدينة الزرقاء تحتفي بزوارها ببرنامج ثقافي وفني متنوع    سون هيونغ مين ينضم للوس أنجليس الأمريكي    المغرب يواجه ضغوطا لتعقيم الكلاب الضالة بدل قتلها    تسجيل 4 وفيات بداء السعار في المغرب خلال أشهر قليلة    "دراسة": تعرض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    من هم الأكثر عرضة للنقص في "فيتامين B"؟    الفتح الناظوري يضم أحمد جحوح إلى تشكيلته        الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    جو عمار... الفنان اليهودي المغربي الذي سبق صوته الدبلوماسية وبنى جسورًا بين المغرب واليهود المغاربة بإسرائيل    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    حين يتحدث الانتماء.. رضا سليم يختار "الزعيم" ويرفض عروضا مغرية    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاكمة الفلسفة
نشر في هسبريس يوم 18 - 10 - 2017

عادة ما ينذر تراجع الفلسفة وانحسارها عن المشهد الثقافي في أي مرحلة من مراحل التاريخ البشري بداية انحطاط الحضارة الإنسانية وتراجعها في كل المجالات التي طالها الإبداع والرقي خلال فترات العطاء الفلسفي والعلمي. وعادة ما يكون التطرف والجمود الديني سببا، بل من أهم أسباب هذا التراجع وذاك الإنحطاط.
فبقدر ما خلص اعتناق قسطنطين للمسيحية1 المسيحيين من الإضطهاد الذي عانوه من أباطرة الروم الوثنيين خلال الفترة القديمة، فإن التحالف بين المسيحية والإمبراطورية الرومانية قد شكل أكبر نكبة للفلسفة والعلوم في التاريخ القديم. حيث كان من بين أبرز مآسي هذا التحالف حرق مكتبة الإسكندرية التي بناها الإسكندر الأكبر2، والتي كانت تعد أكبر مكتبة خلال تلك الفترة، كما قتل الكثير من الفلاسفة والعلماء الذين ساهموا في رفع قواعد الحضارة الإنسانية خلال هاته الفترة، ومن أبرزهم العالمة الرياضية والفيلسوفة الوحيدة في الزمن القديم "هيباتيا" بعد أن سحلها المتعصبون من "أهل الإيمان!" في شوارع الإسكندرية، حيث دخل العالم بعدها في ظلام دامس قرابة خمسة قرون.
وخلال إشعاع الحضارة الإسلامية، أشهر الفقهاء سلاح التكفير في وجه الفلاسفة، وعملوا على تشريد وقتل الكثير منهم وإحراق كتبهم استنادا إلى أحكام متعسفة بنيت على قراءات سطحية لأعمال بعض الفلاسفة. كما حدث للعلامة فيلسوف وفقيه قرطبة الذي درس في جامعة القرويين بالمغرب إبان عصورها الزاهية؛ "إبن رشد"، والذي ضاعت كل النسخ العربية لمؤلفاته بعدما أحرقها فقهاء الظاهرية في الأندلس، في أكبر نكبة منيت بها الفلسفة الإسلامية في بلاد المغرب، ولم ينقذ تراثه الكبير من دائرة النسيان إلا المستشرق الفرنسي "إرنست رينان" الذي قدم أطروحته لنيل دكتوراة الدولة حول "ابن رشد والرشدية" ليقدم للعالم العربي والإسلامي ابن رشد مرة أخرى عبر ترجمات لاتينية وأخرى عبرية3 لأشهر مؤلفاته القيمة ككتاب "تهافت التهافت" و"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" الذي شكل محور فلسفة ابن رشد التوفيقية بين الدين والفلسفة بالإضافة إلى "شرح منطق أرسطو" الذي تفوق فيه الفيلسوف العربي على أرسطو نفسه في تقديم المنطق لجيل عصره والأجيال اللاحقة.
لا يستطيع أحد أن ينكر بأن أوروبا عصر النهضة تدين بالفضل الكبير لابن رشد4، حيث انكب معظم فلاسفة ومفكرو عصر النهضة على تراث Averroès كما يسميه الغرب. وقد كان فكره يدرس في جامعات أوروبا في الوقت الذي تنكر له مسلمو عصره، إذ تعرض في آخر حياته لمحنة كبيرة بعد أن اتهمه علماء الأندلس ومعارضيه بالكفر والإلحاد، ليبعده الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب إلى مراكش، حيث توفي فيها سنة 1198م.
لقد كان ابن رشد وآخرين ضحية قصور معاصريهم عن إدراك المعاني والبراهين التي كان يقدمها الفيلسوف بمنطق عقلاني مؤسس. وقد يعضدها بشواهد من النصوص القرآنية المحكمة، بيد أن الدهماء والعامة كانت غالبا ما تنساق وراء تأويلات بعض الفقهاء السطحيين الذين امتهنوا العقل وقدموا نصوصا واجتهادات دون تمحيص وتدبر، فانطبق عليهم قوله تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (محمد-24).
من جهة أخرى، فقد كان للعقل الفلسفي اليوناني دور كبير في إشعاع الحضارة العربية الإسلامية، خاصة بعد التلاقي الذي وقع إبان عصر المأمون العباسي، والذي اعتنق مذهب الإعتزال الذي يقدم العقل على النقل، حيث سعى إلى ترجمة كتب اليونان في بيت الحكمة الذي عرف أزهى مراحله خلال عهده5.
بيد أن مسيرة العقل سوف تبدأ بالتراجع بعد انتصار المتوكل لفقهاء النص من الحنابلة ضد المعتزلة6، ليخيم من جديد منطق الفقهاء المرتبط عادة بنصوص موروثة لم كافي للنقد والتحقيق، حيث اكتفى أغلب الرواة بتحقيق الأسانيد دون النظر في المتون التي قد تخالف العقل والمنطق السليم بل القرآن أحيانا، مما أدى إلى فرض الحصار على أية محاولة لإعمال العقل والاجتهاد أمام النص مهما شد مضمونه، إلى درجة حظر وتجريم دراسة الفلسفة على المسلمين كما فعل كل من ابن تيمية والغزالي فيما بعد بالرغم من كون الفقيهين قد درسا الفلسفة اليونانية خلال تحصيلهما العلمي!
وإذا كانت الفلسفة تعني محبة الحكمة بلغة أهلها (اليونان) فإن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها كما قال رسول الله (ص). وقد احتج ابن رشد على الغزالي بنفس منطقه بعد أن أورد في كتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال" عددا من الآيات القرآنية التي تدعو إلى التأمل والتفكر وإعمال العقل لإدراك عظمة الخالق والتبصر في حكمته. ليصل إلى أن "الحق (الفلسفة) لا يضاد الحق (الدين) بل يوافقه ويشهد عليه" أي أن الحقيقة التي يتوصل إليها عن طريق النظر العقلي الفلسفي لا تخالف الحقيقة الدينية التي يعتبر الوحي مصدرها الأساسي، خاصة وأن الفقهاء أنفسهم يستخدمون القياس العقلي في استنباط الأحكام التي لا يتطرق النص إليها.
لقد أبرز ابن رشد من خلال مرافعته النقدية للدفاع عن الفلسفة وإثبات مشروعيتها بأن حجج الفقهاء الذين عارضوا الفلسفة وحاربوا الفلاسفة واهية، ولا تستند إلى أدلة داحضة، خاصة وأن ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" قد فند كل اتهامات الغزالي للفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" وخاصة منهم ابن سينا الذي لم يفهم الغزالي فلسفته العميقة في الإلاهيات، لأن تخصصه كان في الفقه، وما فتواه التي كفر بها ابن سينا وحرم فيها تدارس الفلسفة إلا تعصبا زاده تشيع ابن سينا نقمة عليه.
لقد عرف المسلمون الكثير من الفلاسفة الفقهاء الذين تم التعتيم على آرائهم لصالح فقهاء النص بما يخدم السلطات التي أيدت هذا الحصار لكي تستطيع التحكم في انفلاتات العقل من رقابة الوصاية الدينية التي استخدمت النصوص كأسلحة لإخضاع كل من سولت له نفسه إبداء رأي مخالف للسائد من الأفكار والمسلمات.
وبعد أن كانت الفلسفة أم العلوم خلال عصور دون فيها العقل الإنساني أزهى انتصاراته في شتى المجالات، أصبحت تهمة قد لا ينجو صاحبها من حد الردة والمروق عن الدين!
وبعد أن سطر الفلاسفة العرب كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل وابن باجة ملاحمهم خلال انتصار الحضارة العربية والإسلامية، كان على المسلمين أن يبحثوا عن مؤلفاتهم ومخطوطاتهم في لغات أخرى غير العربية بعد قرون من الحصار والإهمال الذين طال كل هذا التراث! مما بات يستدعي من جهة وقفة تأمل تجاه بعض الأحكام الجاهزة التي أصدرها الفقهاء وثمنتها السلطة وكانت وراء العديد من النكبات التي مني بها الإسلام والمسلمون عبر التاريخ، ومن جهة أخرى تحرير العقل الفلسفي ورد الإعتبار إليه من أجل تحريك عجلة الفكر والتقدم في شتى مجالات الإبداع الإنساني.
الهوامش:
1- يروى بأن "قسطنطين" أحد أباطرة روما رأى في حلمه يسوع المسيح يوصيه باتخاذ رسم الصليب شعارا له على الألوية والأعلام في حربه ضد أحد خصومه (ألكستيوس)، وذلك في معركة جسر ملفيان خارج روما، سنة 213 ب.ع.
2- من أعظم القادة الفاتحين في التاريخ القديم. تتلمذ على يد أرسطو الفيلسوف اليوناني الكبير، وأسس إحدى أكبر وأعظم الإمبراطوريات. التي عرفها العالم القديم، والتي امتدت من سواحل البحر الأيوني غربًا إلى سلسلة جبال الهيمالايا شرقًا.
3 -تتلمذ الفيلسوف اليهودي ابن ميمون اليهودي على يد ابن رشد في قرطبة.
4- أنظر كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" –فصل ابن رشد- للمستشرقة الألمانية زغرد هونكه.
5- كان الفيلسوف الكندي من أبرز المشرفين في "بيت الحكمة" خلال عهد المأمون على ترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية إلى العربية.
6- أنظر مقالنا في نفس المنبر: "النزعات العقلانية في الموروث الإسلامي-2"
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية
[email protected]
www.sarhproject.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.