حين يبخس من قدر القدوة وتهان الأسوة فاعلم أن منظومة القيم انهارت، وعلينا دق ناقوس الخطر. فالقدوة هو المربي، الأستاذ والعالم، هذه الرموز هي ملح البلاد والتي إن أهينت فهذا دليل على خطب كبير وخلل فظيع في منظومة القيم المجتمعية باختلاف الأعراق والأعراف أو ما يمكن توصيفه ب"الاحتباس القيمي" بحسب سعيد بنيس (انظر مقال الاحتباس القيمي) ، فالمساس بالقدوة كيفما كانت -خصوصا التي تؤدي واجبها بتفان وإخلاص- جريمة نكراء. فإلى زمن قريب جدا كان المعلم مكرما في أسرته ومجتمعه وله حظوة وشرف كبيرين في وسطه، كذاك كان الفقيه، فهو المحفّظ للقرآن والمتون، والمصلح بين الأزواج في الخصومات، وبين أفراد المجتمع في أغلب النزاعات، وهو الذي يلجأ إليه في أغلب الأحوال، فما كانت المحاكم كما هو الحال في زماننا ملأى بالدعاوى التافهة والتي يمكن حلّها في جلسة شاي. إن الخطب أعظم من إهانة أستاذ أو تعنيفه، بل أعتقد جازما أن الأمر يستحق منا وقفة للنظر في حيثيات الواقعة لتشخيص هذه الظاهرة النّشاز ووضع حدّ جذري لها كي لا ينتشر هذا الوباء في كل الأمصار، أقول إن طرد التلميذ أو سجنه حتى ليس حلا في نظري وإن كنت أميل إلى زجره كي يكون عبرة لأمثاله من المتطاولين على المعلم والأستاذ والمثل الأعلى في المجتمع، الأستاذ المربي، لكن كما يقال: "رُبّ نقمة في طيّها نعمة"، وأي نعمة هذه في رجل أهين بهذه الطريقة البشعة، وما خفي كان أعظم، لكن لا بد من التفاؤل إذا أردنا الخروج بنتيجة مرضية. لا شك أن ما قام به بعض التلاميذ في حق المنظومة التعليمية: إزاء الأساتذة واقعة ورزازات بثانوية سيدي داود، وبثانوية ابن بطوطة بالرباط، وكذلك الأطر الإدارية كما هو الحال في اعتداء تلميذ على مدير ثانوية 30 يوليوز بسيدي بنور بآلة حادة، شنيع وبعيد كل البعد عن القيم الإنسانية لكن أعتقد أن المشكلة معقدة أكثر مما نتصور، فالانحراف السلوكي يمكن أن ينتج عن المخدرات المنتشرة على هوامش جل المؤسسات التعليمية، وكذا التفكك الأسري والمشاكل النفسية الناتجة عن الهشاشة والفقر وضيق الحال، زيادة على غياب وازع أخلاقي، أو الضغوطات التي تعاني منها الأطر التعليمية والتربوية، كل هذه العوامل لا يمكن أن ينتج عنها إلا نحو ما رأينا أو ربما أكبر وأفظع إن لم يعالج الأمر بجدية بعيدا عن المقاربات الأمنية، نعم لهذه الأخيرة لكنها لا يجب أن تكون رأس الأمر بل هي مساعدة لحصول العوامل السابقة الذكر. كفى من التنديد والشجب والاستنكار، وكفى من التنصل من المسؤوليات وتحميل الأستاذ فوق ما يتحمل ويطيق، فكلنا مسؤولون، وكلنا معنيون، كل من جهته وحسب استطاعته لكن برغبة أكيدة في الإصلاح، وقد آن الأوان لإعادة النظر في منظومة القيم، والحرص على التربية، ثم التربية ثم التربية، في وقتها المناسب، من المصدر المناسب لأنها الأساس المتين الذي يحصن الإنسان، وأضرب لكم مثالا بسيطا جدا على هذا الأمر بما عايشناه في صغرنا، ففي تسعينيات القرن الماضي كان ولي الأمر يربي، والجار يربي، والأخ يربي، وربما لو جئت تشتكي إلى والدك من جاركم الذي نهرك أو ضربك لزادك الوالد نصيبا آخر لأنه على يقين أن الجار ما كان ليفعل ذلك عبثا. أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل وتغير الأمر ولم تعد التربية في محضنها الرئيس كافية، فقد تدخل فيها متطفلون كثر نحو الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا يستطيع أحد أن ينكر مدى إدمان الشباب عليها، بالإضافة إلى الغياب النسبي للمجتمع المدني والجمعيات الثقافية والرياضية، التي لها إسهام كبير في تأطير الشباب والمتنفس للعديد منهم، فلا بد من إعادة النظر في منظومة القيم، وإرجاع العلاقة التي عهدناها بين الأستاذ والتلميذ والمبنية على الاحترام والتقدير والتعاون على التحصيل العلمي، ثم إرجاع الثقة المفقودة بينهما، فلا سبيل إلى تحقيق كل ذلك إلا بتظافر جهود كل الفاعلين في المجال: أطر إدارية، أطر تربوية، نقابات، جمعيات المجتمع المدني، التلاميذ وأولياء الأمور. إننا في حاجة ماسة إلى إعادة الثقة بين هذه المكونات حتى تسير القاطرة في مسارها الصحيح، ونستطيع بذلك بناء هذا الوطن الذي قدم الكثير لأبنائه. *باحث جامعي