أساتذة جامعة ابن زهر يرفضون إجراءات وزارة التعليم العالي في حق طلبة الطب    المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب ( 2024 ) : انفتاح سوق الاتحاد الأوروبي على استوراد العسل المغربي    النفط يرتفع بعد انخفاض غير متوقع في مخزونات الخام الأمريكية    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    للمرة الثانية فيومين.. الخارجية الروسية استقبلات سفير الدزاير وهدرو على نزاع الصحرا    تراجع أسعار الذهب وسط ترقب المستثمرين توقيت خفض أسعار الفائدة    شركة Foundever تفتتح منشأة جديدة في الرباط    نوفلار تطلق رسميا خطها الجديد الدار البيضاء – تونس    تنامي الغضب الطلابي داخل أمريكا ضد "حرب الإبادة" في فلسطين ودعوات لإستدعاء الحرس الوطني للتصدي للمتظاهرين    طقس الأربعاء... أجواء حارة نسبيا في عدد من الجهات    إقليم فجيج/تنمية بشرية.. برمجة 49 مشروعا بأزيد من 32 مليون درهم برسم 2024    تفكيك عصابة فمراكش متخصصة فكريساج الموطورات    بنموسى…جميع الأقسام الدراسية سيتم تجهيزها مستقبلا بركن للمطالعة    حيوان غامض يثير الفضول بجوار غابة السلوقية بطنجة.. وهذه هي حقيقة الأمر؟    هل تحول الاتحاد المغاربي إلى اتحاد جزائري؟    "إل إسبانيول": أجهزة الأمن البلجيكية غادي تعين ضابط اتصال استخباراتي ف المغرب وها علاش    جمعية أصدقاء محمد الجم للمسرح تكشف عن تفاصيل الدورة الثالثة للمهرجان الوطني لمسرح الشباب    تخفيضات استثنائية.. العربية للطيران تعلن عن تذاكر تبدأ من 259 درهما على 150 ألف مقعد    المرصد الوطني للتنمية البشرية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية يوقعان إتفاقية لإطلاق بحوث ميدانية لتحديد احتياجات الساكنة المستهدفة    إسرائيل تكثف ضرباتها في غزة وتأمر بعمليات إخلاء جديدة بشمال القطاع    ما هي القضايا القانونية التي يواجهها ترامب؟    الكونغرس يقر مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    ما حقيقة المقابر الجماعية في مجمع ناصر الطبي؟    رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك ب "الملياردير المتغطرس"    الصين تدرس مراجعة قانون مكافحة غسيل الأموال    نانسي بيلوسي وصفات نتنياهو بالعقبة للي واقفة قدام السلام.. وطلبات منو الاستقالة    بطولة انجلترا: أرسنال ينفرد مؤقتا بالصدارة بعد فوز كبير على تشلسي 5-0    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل للمباراة النهائية على حساب لاتسيو    توفيق الجوهري يدخل عالم الأستاذية في مجال تدريب الامن الخاص    الولايات المتحدة.. مصرع شخصين إثر تحطم طائرة شحن في ألاسكا    الصين: أكثر من 1,12 مليار شخص يتوفرون على شهادات إلكترونية للتأمين الصحي    إيلا كذب عليك عرفي راكي خايبة.. دراسة: الدراري مكيكذبوش مللي كي كونو يهضرو مع بنت زوينة        لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    محلل رياضي مشهور: أمرابط بمانشستر ليس اللاعب المتألق الذي رأيناه مع المنتخب المغربي في قطر    "الأحرار" يحسم الاقتراع الجزئي بفاس    سيراليون دعمات الوحدة الترابية للمملكة.. هو الحل الوحيد لي عندو مصداقية    رحيمي والعين قصاو بونو والهلال وتأهلو لفينال شومبيونزليگ    موقف بركان قوي واتحاد العاصمة ضعيف وها الأحكام اللي يقدر يصدرها الكاف فقضية الغاء الماتش بسبب حماق الكابرانات    لومبارت كوساك : الفلاحة .. العلاقة بين المغرب والاتحاد الأوروبي "غنية جدا"    المنتخب الجزائري لكرة اليد شبان ينسحب من مواجهة المغرب بسبب خريطة المملكة    إليك أبرز أمراض فصل الربيع وكيفية الوقاية منها    الأمثال العامية بتطوان... (580)    الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    الأديب عبد الرفيع جواهري ضيفا على برنامج "مدارات"    تفتيش شابة على متن حافلة ببني ملال يسفر عن مفاجأة    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    آيت طالب: أمراض القلب والسكري والسرطان والجهاز التنفسي مزال كتشكل خطر فالمغرب..85 في المائة من الوفيات بسبابها    جائزتها 25 مليون.. "ديزي دروس" و"طوطو" يترأسان لجنة تحكيم مسابقة في فن "الراب"    ضمن جولة إقليمية.. حموشي يقود وفدا أمنيا مغربيا إلى الدوحة ويتباحث مع مدير "أمن الدولة"    العلاج بالحميات الغذائية الوسيلة الفعالة للشفاء من القولون العصبي    هذه هي الرياضات المناسبة إذا كنت تعاني من آلام الظهر        وفاة الشيخ اليمني عبد المجيد الزنداني عن 82 عاما    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    الأسبوع الوطني للتلقيح من 22 إلى 26 أبريل الجاري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تبيان المضمر من خطاب الأستاذ عبد الإله بنكيران
نشر في هسبريس يوم 22 - 01 - 2019

وأنا أتصفح جريدة "أخبار اليوم" في عددها ليوم 15 يناير 2019، استرعى انتباهي ما جاء على لسان الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، الأستاذ عبد الإله بنكيران، في شأن الملكية واليسار، والوحدة الترابية وإمارة المؤمنين. فتساءلت مع نفسي عن دلالات هذا التصريح ومقاصده.
فهل يمكن اعتباره تصريحا لخلط الأوراق وتوجيه الرأي العام الوطني عما يتداوله عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول مسلكيات بعض عضوات وأعضاء حزب العدالة والتنمية القياديين؟ التي كان بالإمكان اعتبارها تدخل ضمن إطار الحياة الشخصية للأفراد لو لم تقترن بما يتناقض وما يقدمونه للمجتمع من منظومة أخلاقية بديلة، مستمدة من شرع الله وحقه على عباده كما يعتقدون.
أم ردة فعل على إعادة فتح النيابة العامة لملف أحد قيادييه المتورط في جريمة قتل الشهيد ايت الجيد بنعيسى؟ وما صاحب تقديمه من تصريحات يشككون من خلالها في المؤسسات التي يتولون مسؤوليتها من داخل الحكومة، ومن تجييش للأنصار والمليشيات برئاسة الأستاذ بنكيران أمام المحكمة في مشهد جعل المتتبعين يعتقدون وكأنهم أمام فيلم من أفلام آل باتشينو. أو حتى للرد على بعض مواقف أعضاء حزبه التي يمكن أن يفهم منها أنها منحازة للمواقف المطالبة بالملكية البرلمانية، ولو أن موقفها يمكن أن يأخذ تأويلات متعددة، والتأكيد على كونه، ومعه حزبه، ما زال مدافعا على الملكية كمؤسسة دستورية تسود وتحكم.
أم إنه تصريح يأتي في سياق التهجم على قوى اليسار التي يتواجد مشروعها المجتمعي على نقيض ما يعتقد به؟ والتي طالما عبر عن حقده تجاهها وذلك منذ النشأة، إبان مرحلة وزير الداخلية السابق المرحوم ادريس البصري، التي يعتبرها الآن كذلك مسؤولة عن حملة التشهير التي طالت أعضاء وعضوات حزبه؟ وبما أن عملية تخوين المناضلين الشرفاء لا تستقيم في الأدبيات السياسية المغربية دون التشكيك في وطنيتهم واتهامهم بالتآمر على العرش والوطن، كان من الطبيعي أن يعتبر اليسار عنصر فتنة ودعاة إلحاد وخونة للوطن والعرش، وهي تهمة طالما حوكم وعذب وأعدم بسببها كثيرون من المناضلين الشرفاء.
أم إن كل هذه القراءات لا تهم إلا الظاهر من التصريح ولا تلامس ما تبطنه من استراتيجية غير معلنة في تفكير حزب العدالة والتنمية، ومن خلالها حركات الإسلام السياسي، في كيفية التعاطي مع الدولة والمجتمع حتى، وإن استهلتها بالدفاع عن العرش وإمارة المؤمنين التي نعرف جيدا أنها تتعارض واستراتيجيتها القاضية بإقامة دولة الخلافة والولاء المطلق لمرشدها العام؟
وبالتالي، فهل يمكن اعتبار هذا التصريح دفاعا عن العرش والملكية؟ وهل هو دفاع عن الدين والوطن مما يتهددهما من قوى اليسار؟ أم هو دفاع عن قوى الإسلام السياسي ومن ضمنها حزب العدالة والتنمية وما يبطنه من قيم مناقضة لقيم الديمقراطية والحداثة؟
من أجل محاولة تلمس الأجوبة لمجمل ما طرحته من أسئلة، لا بد من الوقوف عند ثلاثة عناصر أساسية وردت في تصريح الأستاذ بنكيران.
1. الإسلام السياسي والمسألة الديمقراطية والملكية
عندما نتحدث عن المسألة الديمقراطية كآلية لنظام الحكم في العصر الحديث، فإننا نستحضر كل المخاضات العسيرة التي مرت منها هذه المسألة، وما قاسته الشعوب من معاناة مع أنظمة الحكم الاستبدادية والشمولية من أجل أن تفرض نفسها كشريكة في الحكم والسلطة من خلال مؤسسات تشريعية وتقريرية منتخبة بشكل حر وديمقراطي، تربط المسؤولية بالمحاسبة، وأجهزة تنفيذية تخضع لآليات المراقبة تشتغل وفق المقتضيات التي يقرها مبدأ فصل السلط، الذي يشكل، إلى جانب الانتخابات الحرة والنزيهة بين الفرقاء السياسيين، أحد اعمدة أنظمة الحكم الديمقراطية.
كما لا يفوتنا في هذا السياق التذكير بما عانته النخب الفكرية من قمع ونفي وإعدامات من أجل تسييد قيم الديمقراطية والحداثة والمضامين الجديدة لنظرية العقد الاجتماعي التي تجعل من الشعب شريكا في العملية السياسية الديمقراطية. ويمكن الاستشهاد هنا بما عاناه جان جاك روسو من حيف وتهديد بالقتل من طرف الحكام ورجال الدين المسيحيين بأوروبا، الذين اعتبروه محرضا للشعوب على حكامها، وملحدا، رغم كونه كان من أشد المعارضين للمتهجمين على المعتقدات الروحية، كيف لا وهو القائل "لا علم بدون أخلاق ولا حضارة بدون ضمير". فعملوا على تهميشه ونفيه في أواخر سنوات عمره، ليموت ويدفن بعيدا، في قرية نائية بفرنسا، قبل أن يعترف به رجالات الثورة الفرنسية بعد عشر سنوات من مماته، ليعيدوا دفنه في مقبرة العظماء بباريس. هذا في الوقت الذين كان فيه رجال الدين المسيحيون، من أمثال أستاذنا، يزكون الاستبداد والحكم المطلق ويعتبرون أن ما يحل بالشعب من فقر وأمراض ومجاعة هي قدر إلهي وعقاب الله لعباده عما يقترفون من خطيئة وخروج عن طاعة الحاكم.
أقول قولي هذا من أجل وضع كلام الأستاذ عبد الإله بنكيران في سياق ما راكمته الشعوب من تضحيات في سبيل إحقاق الديمقراطية والحرية.. وأن ما صرح به من كونه يدافع على الملك والملكية بالقول إنه ضد الملكية البرلمانية ومع الملكية التنفيذية والتقريرية التي تتجسد في شعار الملك يسود ويحكم، فهو بذلك يتماهى مع ما كان يصرح به رجال الدين المسيحيون في دفاعهم المستميت على نظام الحكم المطلق، ولا أظنه بذلك يدافع عن الملكية أو الملك ونحن في القرن الواحد والعشرين، بل يدافع عن حقيقة تصوراته المذهبية والفكرية المنافية للديمقراطية والحداثة، حتى وإن اعتمد هذه الأخيرة كآلية تكتيكية وليس قناعة استراتيجية للوصول إلى السلطة من أجل توفير المزيد من الشروط للتحكم في مفاصل الدولة والمجتمع في انتظار ما يمكن أن تتطور إليه الأحداث، حتى يستظهر ما يبطنه في استراتيجيته التي هي استراتيجية الإسلام السياسي السني، التي تروم إقامة دولة الخلافة على عموم البلاد الإسلامية في حدها الأقصى، وفي التحكم في مؤسسة العرش في حدها الأدنى، عندما تضعف هذه الأخيرة وتفقد شرعية وجودها، وينأى المجتمع عنها بعد أن ينسب إليها كل الاخفاقات في تدبير السياسات العمومية، وذلك بحكم المسؤولية السياسية للملك بصفته رئيسا للدولة، حتى وهو غير خاضع للمحاسبة، وهو ما يتنافى أيضا حتى مع الأنظمة الديمقراطية الرأسية.
وبالتالي، فدفاعه عن الملك بالشكل الذي يدعيه، وفي القرن الواحد والعشرين بما تشهده شعوب العالم بصفة عامة، والمغرب بصفة خاصة، من تحولا ت عميقة، ونزوع إلى الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، لا يمكن اعتباره دفاعا على العرش، بل هو في عمقه يسعى إلى إضعافه في أفق تقويضه أو احتوائه، بعد أن يفقد المجتمع ثقته فيه نهائيا نتيجة ما يعيشه من إحباطات متكررة، وأوضاع اقتصادية وسياسية صعبة ترخي بظلالها على فئات اجتماعية واسعة أصبحت في غالبيتها مدركة، حتى وإن لم تعلن ذلك علانية وبشكل جهور، أن الملك بصفته رئيسا للدولة يتحمل القسط الوافر من المسؤولية حتى وإن لم يكن خاضعا للمساءلة القانونية والدستورية، وهو ما يمكن استنتاجه كذلك مما وصل إليه المجتمع من مراحل متطورة في وعيه الجمعي، الذي فقد الثقة في الوسائط والمؤسسات، وأصبح يتجه نحو رفع مطالبه إلى الملك مباشرة بصفته رئيسا للدولة.
إذن، في مثل هذه الأوضاع والظروف الدولية والوطنية، فإن من يريد أن يطور نظام حكمنا السياسي، ولا أقول الدفاع عن العرش، هو من يتجرأ بقول الحقيقة للحكام، وتنبيههم إلى ما هم عليه، وإلى ما يحيط بنا من أخطار تمس استقرارنا السياسي والاجتماعي، وأن لا خلاص إلا بتوفير شروط الانتقال إلى الملكية البرلمانية كمدخل من مداخل الانتقال إلى الديمقراطية، وليس الدفاع عن الحكم المطلق وما يصاحبه من فساد سياسي واقتصادي يشكل سمة ملازمة لأنظمة الحكم اللا ديمقراطية، سواء كانت ملكية أو جمهورية، التي تشكل البيئة الحاضنة لترعرع كل أنواع التفكير السلفي والخرافي.
كما أن الأستاذ بنكيران والرعيل الأول من جماعته، حتى وإن أبدوا هذا الدفاع المشكوك فيه عن الملك والعرش، بحكم الوعد الذي قطعوه على أنفسهم أمام شيخهم الدكتور الخطيب في هذا الشأن، إلا أن لا ضمانة مع المنتسبين إلى حزبهم من الشباب المتشبع بالفكر السلفي ومنهج النبوة، الذين يكفرون الحاكم والمحكوم، وكل من يخالفهم الرأي، ويعتبرون أنفسهم في حل من الوعد الذي قطعه أسلافهم من الرعيل الأول لحركة الإخوان المسلمين.
2. اليسار والمسألة الديمقراطية والملكية
صحيح أن اليسار بكل مكوناته قد عمل في مرحلة تاريخية على إحداث التغيير بالقوة، ومنه من تبنى نظرية العنف الثوري من أجل إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، خاصة في أواخر الستينات ومرحلة السبعينات من القرن الماضي، التي كانت تشهد مدا واسعا للفكر اليساري ليس على مستوى المغرب فقط، بل على مستوى العالم، وهي المرحلة كذلك التي عمد الملك الراحل الحسن الثاني خلالها إلى تعليق العمل بالمؤسسات الدستورية، ليتحول على إثرها إلى الحاكم المطلق والمستبد بالشأن السياسي، مع كل ما رافق تلك المرحلة من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حق معارضيه من التقدميين واليساريين، لكن ابتداء من أواخر السبعينات وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي التي اتسمت بانهيار حائط برلين وانهيار الكثير من الأنظمة الاشتراكية عبر العالم، عمد الكثير من اليساريين المغاربة إلى إحداث مراجعات فكرية تؤسس لفعل سياسي جديد يقطع مع العنف الثوري كآلية لحسم السلطة، ويتبنى النضال الديمقراطي الجماهيري عبر ما يتيحه ما سمي آنذاك بالهامش الديمقراطي الذي أتى نتيجة للتضحيات التي قدمها المجتمع المغربي وفاعليه السياسيون من وسط وأقصى اليسار، وليس الإسلاميين أمثال الأستاذ عبد الإله بنكيران، الذي كان يضع وجماعته حينها يده في يد وزارة الداخلية ويقدم فروض الطاعة والولاء، والتعبير عن استعداد جماعته لوأد اليسار من الشارع واجتثاثه من الجامعات كما ورد في رسالته الشهيرة إلى وزير الداخلية المرحوم ادريس البصري سنة 1986.
بالإضافة إلى الوضع المأزوم الذي وصل إليه نظام الحكم في المغرب وما شهده من عزلة داخلية وخارجية توجت بمحاولتين انقلابيتين في ظرف سنة واحدة، ويمكن إضافة كذلك التطورات المأساوية التي شهدتها الأقاليم الصحراوية... كل ذلك أدى بالملك الراحل إلى إطلاق ما سمي آنذاك بالمسلسل الديمقراطي والاجماع الوطني، إيذانا بعودة المؤسسات الدستورية في أواسط السبعينات من القرن الماضي.
وقد توجت هذه المراجعات السياسية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات بنقاشات حادة بين صفوف أغلب مكونات اليسار حول المسألة الديمقراطية التي تم اعتبارها خيارا استراتيجيا، واعتبار المرحلة مرحلة للنضال من أجل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وبالتالي تبني الدفاع عن مجموع القيم الإنسانية التي تجد أصولها الفكرية والفلسفية في أنظمة الحكم الليبرالية والرأسمالية دون أن يغفل اليسار عن جوهر مرجعيته التي تحازب الفئات الشعبية المتضررة في المجتمع.
وفي سياق تبني القوى التقدمية واليسارية لاستراتيجية النضال من أجل الديمقراطية، كان لا بد من تغيير الموقف من المؤسسة الملكية بالنسبة للكثير من مكونات اليسار في اتجاه تبني موقف الملكية البرلمانية بديلا للملكية المطلقة، كمدخل من مداخل الانتقال إلى الديمقراطية وتطويرا لها، وليس دفاعا عنها، بما ينسجم ومطالب الشعب المغربي في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وذلك بعد أن اقتنع غالبية اليساريين المغاربة بكون الديمقراطية كآلية للحكم والسلطة ليست بالضرورة صفة ملازمة لنظام الحكم الجمهوري، كما الاستبداد ليس بالضرورة صفة ملازمة لنظام الحكم الملكي.
إذن، فمطلب الملكية البرلمانية عند اليساريين المغاربة هو نتيجة صيرورة تاريخية من التضحيات والمراجعات الفكرية والسياسية، تهدف إلى تطوير نظام حكمنا السياسي بما ينسجم ومتطلبات التغيير الديمقراطي، وليس تهجما على العرش والملك، أو دفاعا عنهما، كما يروج الأستاذ عبد الإله بنكيران وجماعته.
3. اليسار والموقف من الوحدة الترابية
مما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد كون اليسار الجديد، وفي مرحلة الصراع العنيف مع الملكية والنظام السياسي المغربي الذي كان قد علق العمل بجميع المؤسسات الدستورية وأعلن حالة الاستثناء التي مارس من خلالها أبشع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في حق معارضيه، وخاصة اليساريين منهم، وفي تعاطيه مع مشكل جهة الصحراء الغربية التي كانت ما تزال تحت الاحتلال الإسباني، تصدر مواجهة هذا المشكل ثلة من المناضلين الصحراويين الذين كانوا يدرسون في الجامعات والمعاهد المغربية وكان بعضهم ضمن صفوف مناضلي اليسار الجديد، الذي كان في الآن نفسه يشهد مدا جماهيريا واسعا، خاصة في الحقل الطلابي.
فكان موقف اليسار الجديد من قضية الصحراء موقفا انفعاليا أكثر مما هو عقلاني ومفكر فيه، وأن مساندته لجبهة البوليساريو في مراحل معينة لم تكن موقفا استراتيجيا يروم فصل الصحراء عن عمقها المغربي، بقدر ما كان موقفا تكتيكيا يروم تأسيس بؤرة ثورية في الجنوب لتشكل قاعدة خلفية في مواجهة النظام السياسي. وهو الموقف الذي أملته ظروف المرحلة وما كانت تشهده من صراع مرير مع نظام الحكم وما يتسم به من استبداد.
لكن وفي إطار تطور عملية الصراع السياسي في المغرب، والمراجعات السياسية التي أقدمت عليها جل مكونات اليسار في شأن نظام الحكم والمسألة الديمقراطية، كان من الطبيعي أن يطور اليسار موقفه من قضية الصحراء، وكان من رواد المنتقدين لانفراد الدولة في تدبير هذا الملف في إطار موقف هلامي قائم على مغربية الصحراء. وهو الموقف الذي لا يستحضر التعقيدات التي أوصلته الدولة إليها بتدبيرها السيء لهذا الملف، وبعد أن أصبح متداولا بين أروقة الأمم المتحدة.
فكان أول من عبر عن موقف مغاير ومتقدم في شأن هذه القضية هي حركة الديمقراطيين المستقلين عندما طالبت في صيف 1997 بالحل السياسي المتفاوض عليه على أساس لا غالب ولا مغلوبا، وبما يضمن حق الأقاليم الصحراوية في الحكم الذاتي في إطار جهوية سياسية تشمل باقي الجهات التاريخية في المغرب، وبما يخدم بناء وحدة المغرب الكبير.
وهو الموقف الذي تبناه المؤتمر الاندماجي لليسار الاشتراكي الموحد المنعقد بالدار البيضاء في سنة 2000 بعد أن أجريت عليه بعض التعديلات من طرف باقي المكونات الأخرى، وخاصة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي. كما طورت بعض مكونات اليسار الأخرى كذلك موقفها من هذه القضية مطالبة بالحل السلمي المتفاوض عليه. هذا دون أن نغفل أن اليسار كان دائما في أدبياته يطالب بتحرير ما تبقى من الثغور المحتلة.
إذن، فموقف اليسار تاريخيا من الوحدة الترابية هو موقف ثابت، حتى وإن خضع في مراحل تاريخية معينة لحسابات تكتيكية أملتها ظروف الصراع العنيف مع نظام الحكم، ولا مكان للمزايدة عليه في هذا المجال من طرف الأستاذ عبد الإله بنكيران وجماعته، الذي أبدى عجزه حتى في إبداء الرأي في هذه القضية، عندما اقترح الملك محمد السادس صيغة الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية سنة 2003 وطالب الأحزاب بتقديم مقترحاتها في هذا الشأن.
خلاصة
إذن، فالأستاذ بنكيران، مع كل احتراماتي له، لا يدافع عن الملكية ولا على الملك، بل يدافع عن مبررات وجود جماعته ومرجعيتها المنافية لقيم الديمقراطية والحرية، التي لا يمكن أن تستمر وتتقوى إلا في إطار نظام حكم شمولي يستمد مشروعية حكمه من الله ومن أهل البيت، الذين ينتسب هو أيضا إليهم حسب تعبيره، مما يجعله وريثا شرعيا للحاكم باسم الله، وليس من الشعب الذي يجب أن يبقى ضمن إطار الرعية التي عليها واجب الطاعة للحاكم والمرشد أو الفقيه.
وما تهجمه على اليسار واتهامه بالكفر والإلحاد وخيانة الوطن سوى محاولة يائسة لإظهار ولاء زائف، على حساب تضحيات اليسار من أجل مغرب حر، ديمقراطي ومتعدد يقر بالحريات بما فيها حرية المعتقد وحق ممارسة الشعائر الدينية للمغاربة، مع التنصيص على فصل الشأن الديني عن الشأن السياسي حتى لا يترك المجال مفتوحا لأستاذنا الجليل وجماعته، أو غيره من السلفيين، للتوظيف السياسي لموروثنا الروحي والديني، واقحامه في الصراعات والأمور السياسية التي هي شأن دنيوي، وحتى لا يتحول هذا الإرث الروحي والديني المشترك بخصوصياته المغربية إلى مجال للمنازعات المذهبية والطائفية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.