ربع نهائي كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة.. الناخب الوطني: طموح أشبال الأطلس "الذهاب إلى أبعد نقطة ممكنة"    برشلونة يقترب من حسم لقب الدوري بفوز مثير 4-3 على ريال مدريد    تاراغونا- كتالونيا مهرجان المغرب جسر لتعزيز الروابط الثقافية بين المملكتين بحضور السفيرة السيدة كريمة بنيعيش    الوساطة السعودية تنجح في وقف التصعيد الباكستاني الهندي    إحالة أربعة أشخاص على النيابة العامة لتورطهم في سرقة باستعمال دراجة نارية بالدار البيضاء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    سبتة.. إحباط محاولة تهريب أزيد من 11 ألف قرص مهلوس نحو المغرب    الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو في الأقاليم الجنوبية    "فاموس تطوان والفوز بداية البقاء".. البرلماني الطوب يدعم المغرب التطواني قبل مواجهة السوالم    برقية تهنئة من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس إلى قداسة البابا ليو الرابع عشر بمناسبة انتخابه لاعتلاء الكرسي البابوي    وزير الخارجية الفرنسي: العلاقات مع الجزائر "مجمدة تماما" بعد تبادل طرد الموظفين    خطأ غامض يُفعّل زلاجات طائرة لارام.. وتكلفة إعادتها لوضعها الطبيعي قد تتجاوز 30 مليون سنتيم    شجرة الأركان في يومها العالمي رمز للهوية والصمود والتحدي الأمازيغي المغربي .    جمعية الشعلة تنظم ورشات تفاعلية للاستعداد للامتحانات    البابا ليون الرابع عشر يحث على وقف الحرب في غزة ويدعو إلى "سلام عادل ودائم" بأوكرانيا    المحامي أشكور يعانق السياسة مجددا من بوابة حزب الاستقلال ويخلط الأوراق الانتخابية بمرتيل    مراكش تحتضن أول مؤتمر وطني للحوامض بالمغرب من 13 إلى 15 ماي 2025    نجم هوليوود غاري دوردان يقع في حب المغرب خلال تصوير فيلمه الجديد    الحزب الشعبي في مليلية يهاجم مشروع محطة تحلية المياه في المغرب للتستر على فشله    مشروع النفق البحري بين المغرب وإسبانيا يعود إلى الواجهة بميزانية أقل    سعر الدرهم يرتفع أمام الأورو والدولار.. واحتياطيات المغرب تقفز إلى أزيد من 400 مليار درهم    انهيار "عمارة فاس".. مطالب برلمانية لوزير الداخلية بإحصائيات وإجراءات عاجلة بشأن المباني الآيلة للسقوط    إسرائيل تستعيد رفات جندي من سوريا    شراكات استراتيجية مغربية صينية لتعزيز التعاون الصناعي والمالي    الصحراء المغربية تلهم مصممي "أسبوع القفطان 2025" في نسخته الفضية    "سكرات" تتوّج بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب    ميسي يتلقى أسوأ هزيمة له في مسيرته الأميركية    رفع تسعيرة استغلال الملك العام من 280 إلى 2400 درهم للمتر يغضب المقاهي ويدفعها للإضراب    موعد الحسم.. هذا توقيت مباراة المغرب وسيراليون في ربع نهائي كأس إفريقيا    شاهد.. سائحات يطلبن من لامين يامال أن يلتقط لهن صورة دون أن يعرفن من يكون    "الاتحاد" يتمسك بتلاوة ملتمس الرقابة لسحب الثقة من الحكومة    مزور: الكفاءات المغربية عماد السيادة الصناعية ومستقبل واعد للصناعة الوطنية    بوتين يقترح إجراء محادثات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول انطلاقا من 15 ماي    الصحراء المغربية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    تحريك السراب بأيادي بعض العرب    القاهرة.. تتويج المغرب بلقب "أفضل بلد في إفريقا" في كرة المضرب للسنة السابعة على التوالي    غ.زة تعيش الأمل والفلسطينيون يحبسون أنفاسهم    سلا تحتضن الدورة الأولى من مهرجان فن الشارع " حيطان"    زلزال بقوة 4,7 درجات يضرب جنوب البيرو    في بهاء الوطن… الأمن يزهر    موريتانيا ترغب في الاستفادة من تجربة المغرب في التكوين المهني (وزير)    بعد فراره لساعات.. سائق سيارة نقل العمال المتسبب في مقتل سيدة مسنة يسلم نفسه لأمن طنجة    الأشبال: الهدف التأهل إلى المونديال    جناح الصناعة التقليدية المغربية يفوز بجائزة أفضل رواق في معرض باريس    الأسهم تحفز تداولات بورصة البيضاء    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    الموت يفجع الفنان المغربي رشيد الوالي    مهرجان مغربي يضيء سماء طاراغونا بمناسبة مرور 15 سنة على تأسيس قنصلية المملكة    بينالي البندقية.. جلالة الملك بوأ الثقافة والفنون المكانة التي تليق بهما في مغرب حديث (مهدي قطبي)    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملكية الوطنية والمواطنة
نشر في هسبريس يوم 30 - 07 - 2019

لقد ظلت خطب العرش ولازالت فرصة لتجديد أواصر البيعة والولاء، وتقوية لحمة العروة الوثقى بين الملك والشعب، وتأكيد مشاعر الوفاء والمحبة والتمسك بثوابت الأمة ومقدساتها، وهي أيضا مناسبة سنوية لاستعراض المنجزات والأوراش التنموية، وبسط معالم السياسة الداخلية والخارجية، وتوجيه البوصلة نحو الرؤى والإستراتيجيات والآفاق المنتظرة، وخطاب العرش لهذه السنة، الذي يصادف الذكرى العشرين لتربع الملك محمد السادس على عرش أسلافه المنعمين، جاء كمرآة عاكسة لأبرز ما تحقق من إصلاحات عميقة خلال العقدين الأخيرين. وفي هذا الصدد لا يمكن أن ينكر منكر حجم التحولات متعددة المستويات التي طالت الدولة والمجتمع على حد سواء، بدءا بالإصلاحات القضائية والحقوقية وتجويد الترسانة القانونية، مرورا بالارتقاء بقدرات الاقتصاد الوطني، وتأهيله ببنيات تحتية كبرى، من موانئ كبرى، وعلى رأسها ميناء طنجة المتوسط، ومطارات وسكك حديدية وطرق سيارة ومناطق صناعية ولوجستية، وانتهاء بالمجال الاجتماعي الذي يختزل في حجم ما أنجز من مراكز استشفائية جامعية ومستشفيات إقليمية ومراكز صحية، ومن جامعات عمومية وجامعات خاصة ومؤسسات التكوين المهني، وما تحقق على مستوى محاربة مدن الصفيح والسكن غير اللائق ودور الشباب وملاعب القرب، وكذا ما تم تنزيله على أرض الواقع من مشاريع صغرى مدرة للدخل في إطار "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"…إلخ.
وبقدر ما يمكن تثمين ما تم تحقيقه من منجزات، بالقدر ما نجازف في القول إن آثار التقدم لم تصل إلى عدد من المجالات التي لازالت تتقاسم مفردات الهشاشة والفقر والإقصاء، بشكل يجعل الملايين من المغاربة بعيدين كل البعد عن قطار التنمية، وبمعزل عما تعرفه الدولة من تحولات وإصلاحات عميقة. وهذا يجعلنا أمام مفارقة غريبة الأطوار، تجعلنا نقف أمام "مغرب" بسرعتين: مغرب البراق وميناء طنجة المتوسط والمطارات والموانئ والجماعات والطرق السيارة والطاقات المتجددة والنماء الاقتصادي، ومغرب آخر يتموقع في دوائر النسيان، إلى درجة أن بعض المناطق من هذا الوطن الحبيب يكاد لا يسمع لها صوت، ولا نعرف بوجودها على الخريطة إلا في زمن الأزمات والمآسي (تبقال، شمهروش، إجوكاك...)؛ مغرب يتمكن من بناء مركب مينائي يعد الأكبر في إفريقيا وفي المجال المتوسطي، وفي الآن نفسه يعجز عن بناء مركز صحي في مدينة أو دار شباب في قرية أو يمد السكة الحديدية نحو الجنوب (جنوب مراكش)، أو يشق طريقا تفك العزلة عن المدن والقرى النائية في الريف والأطلس، التي تعاني الأمرين في مواسم الأمطار والثلوج ...إلخ.
وهذا واقع مقلق، اعترف به الملك، بقوله: "لقد أنجزنا نقلة نوعية على مستو ى البنيات التحتية، سواء تعلق الأمر بالطرق السيارة، والقطار فائق السرعة، والموانئ الكبرى، أو في مجال الطاقات المتجددة، وتأهيل المدن والمجال الحضري. كما قطعنا خطوات مشهودة، في مسار ترسيخ الحقوق والحريات، وتوطيد الممارسة الديمقراطية السليمة. إلا أننا ندرك أن البنيات التحتية، والإصلاحات المؤسسية، على أهميتها، لا تكفي وحدها. ومن منطلق الوضوح والموضوعية فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية هو أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات لم تشمل، بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي. ذلك أن بعض المواطنين قد لا يلمسون مباشرة تأثيرها في تحسين ظروف عيشهم، وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق ا لاجتماعية، وتعزيز الطبقة الوسطى".
ما أشار إليه الملك يعكس رؤية مواطنة، تعترف بالإنجازات وتثمنها، وفي الآن نفسه تقر بما يكتنفها من مظاهر المحدودية والقصور، من منطلق أن آثار التقدم لازالت بعيدة عن فئات عريضة من المغاربة، الذين لا يتلمسون ثمار التنمية التي لازالت بعيدة المنال عنهم؛ وهي وضعية غير سوية، تكرس مشاعر النفور وعدم الثقة في الدولة والمؤسسات، وتسائل بجلاء السياسات العمومية والجهوية، التي لا تساير مسلسل الإصلاحات العميقة، ولا تواكب الأوراش التنموية الكبرى، ما يكرس مقولة "مغرب الهامش" ويعمق الفوارق المجالية ويحرم فئات عريضة من المواطنين من الاستفادة من الخدمات الضرورية، وعلى رأسها الصحة والتعليم والنقل والشغل، والماء والكهرباء والطرق التي تعد عصب الحياة، خاصة في المجالات النائية والجبلية، التي تصارع قوى الطبيعة وجبروتها، بعيدا كل البعد عن دوائر الاهتمام السياسي والإعلامي. ويكفي النظر إلى الفاجعة الأخيرة التي كانت قرية "إجوكاك" بإقليم الحوز مسرحا لها قبل أيام، لتلمس حقيقة "المغربي المنسي" وحجم ما تعيشه الساكنة من خصاص في الطرق والمراكز الصحية والمؤسسات التعليمية والماء والكهرباء والمرافق العمومية وغيرها..وهي صورة مؤلمة عبر عنها جلالة الملك بقوله: "ويعلم الله أنني أتألم شخصيا، ما دامت فئة من المغاربة، ولو أصبحت واحدا في المائة، تعيش في ظروف صعبة من الفقر أو الحاجة"، مضيفا في نفس الإطار: "لن يهدأ لي بال حتى نعالج المعيقات، ونجد الحلول المناسبة للمشاكل التنموية والاجتماعية".
ولم يكتف الملك محمد السادس بتوجيه البوصلة نحو مكامن الخلل والقصور، بل كان أكثر موضوعية وجرأة في مساءلة النموذج التنموي القائم، الذي تبين بالملموس أنه أصبح متجاوزا، ولم يعد قادرا على تحقيق الأهداف والمقاصد التنموية، وقد قال في هذا الصدد: "لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية". ونموذج تنموي مختل ومرتبك وقاصر، يفرض التعجيل في التفكير في بلورة "مشروع تنموي جديد" يحمل تنموية شاملة، تستثمر ما تم إنجازه من إصلاحات وما تم فتحه من أوراش تنموية كبرى، ويحمل رؤى وتصورات جديدة، تتأسس على "القدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا"، بشكل يجعل جميع المغاربة على قدم المساواة أمام الفعل التنموي. وبروح مواطنة، قرر الملك إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، قائلا في هذا الصدد: "قررنا إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي سنقوم في الدخول المقبل، إن شاء الله، بتنصيبها، وقد راعينا أن تشمل تركيبتها مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا".
وهذه اللجنة ليست بحكومة ثانية ولا بمؤسسة رسمية موازية، وإنما هي هيئة استشارية، لها مهمة محددة في الزمن، وهي مطالبة كما أشار إلى ذلك الملك بأن تأخذ بعين الاعتبار التوجهات الكبرى للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها في عدد من القطاعات، من قبيل التعليم والصحة والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي، في اتجاه تقديم الاقتراحات الضرورية القادرة على تجويدها والرفع من نجاعتها.
وقد برزت مرة أخرى روح الملك/ المواطن، من خلال دعوة اللجنة إلى أن "تباشر عملها، بكل تجرد وموضوعية، وأن ترفع لنا الحقيقة، ولو كانت قاسية أو مؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول. إن الأمر لا يتعلق بإجراء قطيعة مع الماضي، وإنما نهدف إلى إضافة لبنة جديدة في مسارنا التنموي، في ظل الاستمرارية. ويبقى الأهم هو التحلي بالحزم والإقدام، وبروح المسؤولية العالية، في تنفيذ الخلاصات والتوصيات الوجيهة التي سيتم اعتمادها، ولو كانت صعبة أو مكلفة". والاعتماد على "لجنة" لبلورة نموذج مشروع تنموي ليس معناه القطع مع الماضي، ولكن هو إضافة لبنة جديدة في المسار التنموي في ظل الاستمرارية، التي تتأسس على تثمين التجارب الناجحة ودعمها بما يحقق نجاعتها، وفي الآن نفسه تجاوز كل أشكال ومظاهر القصور والمحدودية، بالانفتاح على رؤى ومبادرات تنموية جديدة.
وقد ظل هاجس التنمية والارتقاء بالأوضاع الاجتماعية للمواطنين حاضرا في صلب جميع الخطب الملكية، وفي هذا الصدد، ورغم دعوته إلى تنصيب لجنة تنظر في مشروع النموذج التنموي المرتقب، طالب الملك بأن يتواصل العمل بالمزيد من الالتزام والمسؤولية في تدبير الشأن العام والتجاوب مع قضايا وانتظارات المواطنين، محددا خارطة طريق تتأسس معالمها على الخصوص كما قال جلالته في "الرفع من مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية، ومن أداء المرافق العمومية"، داعيا في هذا الصدد الحكومة إلى "الشروع في إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عمادا للنموذج التنموي، في صيغته الجديدة". وليس المقصد الأساس أو الغاية المنشودة هي تنزيل "مشروع تنموي جديد"، بل في أن يشكل هذا المشروع التنموي مدخلا للمرحلة الجديدة التي يتجه إليها المغرب تحت القيادة الملكية الرشيدة، قوامها المسؤولية والإقلاع الشامل واللحاق بركب البلدان المتقدمة.
مرحلة جديدة حبلى بالرهانات والتحديات الداخلية والخارجية لا مناص من كسبها، وقد حددها الملك في أربعة، أولها: "رهان توطيد الثقة والمكتسبات"، و"رهان عدم الانغلاق على الذات، خاصة في بعض الميادين التي تحتاج للانفتاح على الخبرات والتجارب العالمية"، و"رهان التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية"، وكذا رهان "العدالة الاجتماعية والمجالية". وبما أن أي مرحلة جديدة تحتاج إلى نفس جديد وإلى جيل جديد من الكفاءات والقدرات، من أجل ضمان حسن التنفيذ والإنجاز والخلق والإبداع وإحداث التحول الجوهري المأمول، فقد كان هذا التوجه حاضرا في خطاب الملك محمد السادس، إذ قال في هذا الاتجاه: "فالمرحلة الجديدة ستعرف إن شاء الله جيلا جديدا من المشاريع، ولكنها ستتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيئات السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة".
وهذه رسالة واضحة المعالم موجهة إلى الحكومة والأحزاب السياسية من أجل أن تتحمل مسؤولياتها المواطنة بالتخلي عن منطق الصراعات الخفية والمعلنة، والابتعاد عن واقع الحسابات والمكاسب، وأن تفتح المجال للكفاءات والطاقات والقدرات الشابة، القادرة على مسايرة روح وفلسفة الإصلاح الملكي، بما يضمن نجاح "المشروع التنموي المرتقب" الذي يعول عليه في تحقيق العدالة المجالية وقيادة المغرب نحو ركب البلدان المتقدمة؛ وعليه فاٌلإصلاح الحقيقي يحتاج إلى مواطنين يستحضرون المصلحة العليا للوطن، وإلى سواعد أمينة وقلوب رحيمة ومبادرة، قادرة على الانخراط والإسهام الجماعي في بناء ورفع قواعد وطن جديد، يسع جميع المغاربة بعدالة ومساواة وإنصاف؛ وبالتالي لا مناص من القطع مع التعيينات التي تتحكم فيها الولاءات والمرجعيات الحزبية، وفتح الطريق أمام من تتوفر فيه شروط الكفاءة والاستحقاق وخدمة الوطن بصدق وأمانة وإخلاص.
وموازاة مع هاجس التنمية المجتمعية، يحضر هاجس الوحدة الترابية، الذي يكاد يحضر في مختلف الخطب الملكية، لذلك فقد خصص الخطاب الملكي حيزا زمنيا لملف الوحدة الوطنية والترابية، الذي تعزز بعدة مكاسب على الصعيد الأممي والإفريقي والأوربي، تفرض مواصلة التعبئة المجتمعية على كل المستويات، لتعزيز هذه المكاسب، و"التصدي -كما قال جلالة الملك- لمناورات الخصوم. ويبقى المغرب ثابتا في انخراطه الصادق، في المسار السياسي، تحت المظلة الحصرية للأمم المتحدة؛ كما أنه واضح في قناعته المبدئية بأن المسلك الوحيد للتسوية المنشودة لن يكون إلا ضمن السيادة المغربية الشاملة، في إطار مبادرة الحكم الذاتي".
وبرؤية ثاقبة، تستحضر الواقع وما يفرضه من تعاون واندماج مغاربي، وتقدر حجم مشاعر الأخوة المتبادلة بين الشعبين المغربي والجزائري، فقد التزم الملك بنهج "سياسة اليد الممدودة للأشقاء في الجزائر"، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "ذلك أن التحديات الأمنية والتنموية، التي تواجهنا، لا يمكن لأي بلد أن يرفعها بمفرده. ومن هذا المنطلق فإننا نؤكد مجددا التزامنا الصادق بنهج اليد الممدودة تجاه أشقائنا في الجزائر، وفاء منا لروابط الأخوة والدين واللغة وحسن الجوار، التي تجمع، على الدوام، شعبينا الشقيقين؛ وهو ما تجسد مؤخرا، في مظاهر الحماس والتعاطف، التي عبر عنها المغاربة، ملكا وشعبا، بصدق وتلقائية، دعما للمنتخب الجزائري، خلال كأس إفريقيا للأمم بمصر الشقيقة، ومشاطرتهم الشعب الجزائري مشاعر الفخر والاعتزاز بالتتويج المستحق بها، وكأنه بمثابة فوز للمغرب أيضا. فهذا الوعي والإيمان بوحدة المصير، وبالرصيد التاريخي والحضاري المشترك، هو الذي يجعلنا نتطلع، بأمل وتفاؤل، للعمل على تحقيق طموحات شعوبنا المغاربية الشقيقة، إلى الوحدة والتكامل والاندماج". وهي رؤية حكيمة لا بد أن يكون لها صدى لدى الساسة في الشقيقة الجزائر، لأن ما يجمع البلدين الشقيقين وما يواجههما من رهانات وتحديات تنموية وأمنية يفرض وضع اليد في اليد والجنوح نحو "مصالحة الأشقاء"، وبناء جو من "الثقة"، بشكل يضمن الخير والنماء للبلدين الجارين .
هكذا إذن هي الخطب الملكية، يمكن أن تقرأ من عدة زوايا لما تحمله من مضامين ودلالات عميقة. وقد حاولنا من خلال هذا المقال التفاعل مع خطاب العرش، الذي يصادف الذكرى العشرين، من خلال توجيه البوصلة نحو "الملكية: الوطنية والمواطنة"، وقدرتها على القرب المستدام من المواطن والاستجابة لقضاياه وتطلعاته، من منطلق الإحساس بعظمة الأمانة وجسامة المسؤولية، التي تشكل قوة دافعة، تجعل من "خدمة الشعب" الشغل الشاغل للملك محمد السادس، حتى ينعم جميع المغاربة، أينما كانوا، على قدم المساواة بالعيش الكريم؛ وهي دعوة إلى الإجماع الوطني حول ثوابت الأمة ومقدساتها، والتعبئة الجماعية في الانخراط الإيجابي في المرحلة الجديدة، التي سيؤسس لها "النموذج التنموي الجديد"، بما يتطلب ذلك من مواطنة ومسؤولية وتحلي بالتضحية ونكران الذات، واستحضار المصلحة العليا للوطن، واستثمار ما ننعم به من أمن واستقرار وسكينة من أجل بناء صرح وطن جديد يجسد "بيتنا المشترك". وعلينا جميعا -كما قال جلال الملك - أن "نساهم في بنائه وتنميته، وأن نحافظ على وحدته وأمنه واستقراره. مغرب يتسع لكل أبنائه، ويتمتع فيه الجميع، دون استثناء أو تمييز، بنفس الحقوق، ونفس الواجبات، في ظل الحرية والكرامة الإنسانية". وهي فرصة للترحم على كل الشرفاء والأحرار الذين استشهدوا دفاعا عن الوطن ووحدته الترابية عبر التاريخ، ومناسبة لتحية كل من يرسم لوحات الرقي والتميز والإبداع والجمال. وتحية مماثلة لكن من يتجند ويضحي من أجل وطن عزيز، نتقاسم فيه نفحات التاريخ وأريج الجغرافيا..
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.