دَلفَت الحجرة الدراسية في الساعة الثامنة صباحا، بالضبط كعادتها منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة، ترتدي وِزرتها البيضاء التي لم تتخلَّ عنها يوما لدرجة أنها كانت موضوع تنويه (إلى جانب قدراتها المعرفية والتربوية) من طرف أحد مفتشيها التربويين. فارتداؤها كان التزاما شكليا حرصت دوما عليه. كانت تتحرك بسرعة، بِهِمّة عالية، بنشاط وحيوية لم يعد يتمتع بها شباب اليوم الذي يستيقظ ليلا وينام نهارا. أَلْقَت تحية الصباح، وتنقلت بين الصفوف تستنهض الهمم كما لو كانت مقبلة على معركة. لقد كانت تعتبر التدريس فعلا معركتها الشخصية والانتصار فيها لا مساومة فيه. فأقبلت تحُثّ هذا وتُمازح ذاك، تَرْبِت على كتف تلك وتوقظ الأخرى، كتدابير أولية ومقدمات ضرورية قبل اقتحام عتبة الدرس الفلسفي الذي ستقدمه لتلامذتها، محاوِلة ما أمكنها ذلك، أن تجعله سهلا قابلا للاستيعاب وأن تُلبسه حُلة تستميلهم وتجعلهم يحبونه أو على الأقل يتفاعلون معه. لم يكن الأمر سهلا، فطول المقررات الدراسية وتكدس فقراتها مقابل الغلاف الزمني الضيق المخصص لمادة الفلسفة كان يجعل مهمتها صعبة؛ فلا الأستاذ قادر على إنجازها في ظروف مريحة، ولا التلميذ مهيأ لاستساغتها وتقبلها، وهو الرافض للدراسة أصلا. لقد حملت هذه السيدة على عاتقها مهمة التدريس بأمانة ستُسأل عنها وكواجب تحبه، تعشقه وتستميت في سبيل إنجازه على وجهه الأمثل. لهذا كانت تحرص على أن تقدم كل يوم لتلامذتها رسالة تربوية أو قيمة أخلاقية. إذ أنها إلى جانب ما يتضمنه المقرر، تحاول أن تغرسها في وجدانهم وتقتنص الفرص المؤاتية والمناسبة لذلك. يومها كان مفهوم الدرس المركزي هو "الشخص" وتحديدا الإشكال الذي يتحدث عن "الشخص بين الضرورة والحرية"؛ حيث يطرح السؤال الرئيس: هل الشخص حر في اختيار مستقبله ونمط شخصيته؟ أم أنه مقيد في ذلك بإكراهات تتجاوز إرادته؟ في لحظة تجاوب رائع، صمتَت لبرهة ثم رفعت رأسها ونظرت لتلامذتها الذين صمتوا بدورهم لصمتها لتطلب رأيهم في فكرة أن يبادر كل واحدة وواحد منهم لوضع قائمة يُدوّنون فيها أحلامهم كمشاريع مستقبلية وكرهانات يتحدَّون بها واقعهم وذواتهم، مع ترتيبها من الأهم فالمهم، وجعلها مفتوحة تقبل إضافات جديدة مستقبلا ومدى الحياة. لتكون بوصلة تُوجههم لرسم خطوات مسارهم الدراسي والمهني من جهة، ووثيقة تمكنهم فيما بعد من وضع محصلة تساعدهم على تقييم ما أنجزوه وكذا التعرف على دورهم الشخصي في صنع حياتهم. فلا حياة ولا مشاريع ولا مخططات ولا مستقبل بدون أحلام. وهي فكرة اقتبسَتها من فيلم أجنبي شاهدَته الأستاذة وراقها كثيرا. كانت أحداث الفيلم تدور حول صداقة تربط بين مريضين من مرضى السرطان جمعتهما غرفة مشتركة داخل المستشفى؛ نفس المعاناة جعلتهما يتقاربان، يتحدثان كثيرا ويتسامران في الليالي التي يجافيهما فيها النوم رغم اختلاف وضعهما المادي، فأحدهما كان غنيا والثاني كان فقيرا. وفي إحدى الليالي سرد هذا الأخير لصديقه قائمة أحلامه التي لم يتمكن من إنجاز الكثير منها في حياته نظرا للإكراهات المادية، لكنه لم يشطب عليها. فما كان من الغني إلا أن اقترح عليه أن يساعده في تحقيق أحلامه شريطة أن يتقاسم معه لحظات السعادة والفرح، إذ يظهر هنا دور الغير في بناء مستقبل الشخصية كنقطة أساسية في الدرس. أعجبَتها جدا فكرة قائمة الأحلام وبدأت تبثها لتلامذتها، فلا بد لأي مشروع حياتي من أرضية نظرية تبدأ بالحلم لتنتهي بالتحقق الفعلي على أرض الواقع. ظلوا ينظرون إليها بصمت، قبل أن يهمس أحدهم في أذن صديقه وقبل أن يبتسم آخر ابتسامة لم تتمكن من تحديد هويتها، هل هي ابتسامة بلهاء أم ابتسامة مكر وخبث، قبل أن يتفوه تلميذ آخر بحذر بكلمات تحمل حسرة، استهجانا واستخفافا بالفكرة. وفي الأخير تجرأ أحدهم وأجاب مخاطبا الأستاذة: هي فكرة جيدة ومثيرة أستاذتي، لكن ليس لدينا أحلام في الواقع، حلمنا الوحيد والأوحد قارب مطاطي ينقلنا في ليلة ظلماء تنطفئ فيها الأنوار إلى الضفة الأخرى. وبعده تجرأ الباقون ليؤيدوا نفس الجواب متبنين الحلم نفسه. لم يصدمها الحلم ولكن صدمها الإجماع على حلم واحد، ليطرح الإشكال هذه المرة داخلها: لم هذا الإجماع؟ لمَ يتعلق الأمر بحلم واحد؟ أين باقي الأحلام؟ فترة المراهقة هي فترة خصوبة الأحلام وتناسلها.. فما الذي أجهضها أو وأد جذورها؟ ما الذي جعل حلم الهجرة غير النظامية أشبه بخلية سرطانية تلتهم خلايا الأحلام السليمة؟ أدركَت حينها أن الأحلام ليست دائما ممتعة وشيقة كما قد نعتقد، فها هي تتداخل معانيها مع الكوابيس. هل هو حلم أم كابوس أن يمتطي مراهق أو طفل غضّ قاربا مطاطيا لا يعرف مصيره؟! أليس كابوس الحلم الذي يقود نحو الموت، بدايته مخاطرة ونهايته موت قد يكون محققا. والغريب أن الإجماع طال الآباء والأمهات أيضا، إذ أجمعوا بدورهم على نفس الحلم وبات همهم الأول توفير المال اللازم الذي سيدفعون لتجار البشر أو النخاسين الجدد الذين سينقلون الأبناء للضفة الأخرى أو للعالم الآخر، قبل أن يعودوا أدراجهم لمنازلهم ينتظرون أخبار القرابين التي قدموها ليَمّ نَهِم لا يتورع عن ابتلاع أطفال في عمر الزهور. وأدركَت أيضا أن الأحلام ليست أمرا سهلا، لأنها ليست اختيارا ذاتيا فحسب، بل تحتاج لشروط موضوعية تساهم في تشكيلها وتكوينها؛ فالواقع بما يقدمه من أنماط الحياة وبما يُتيحه من إمكانات وفرص، مسؤول عن توجيه النشء نحو آفاق يحولونها لأحلام يسعون لتحقيقها باختياراتهم الدراسية والمهنية أحيانا، أو عن طريق المغامرة أحيانا أخرى. وبقدر انفتاح آفاق الواقع ودروبه تتسع وتتنوع مساحة الأحلام؛ فلا يحلم بالسفر من لم يشاهد صور المناطق التي تغري بزيارتها، ولا يحلم بالثروة من لم يتعرف على آثارها العملية في حياة الترف والبذخ، ولا يحلم أن يصبح طبيبا من لم يعرف معنى الطب ودوره الإنساني والاجتماعي. ثم إن طفلا من الرعاة الرحل لن يحلم إلا بامتلاك قطيع من الأغنام أو الإبل وخيمة واسعة، صلبة أعمدتها ومشدود وثاقها. فالمجتمع هو من يسوق القيم التي تصبح أحلاما سواء كانت قيما مادية أو جمالية أو فنية. لقد تذكَّرت الأستاذة حينها موقفا لمسؤول حكومي تناقلته وسائل الاعلام أثناء زيارته لمؤسسة تربوية تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة، فسأل طفلا منهم وهو مزهو بإنجازاته عما إذا كانت لدية رغبة أخرى، إيحاء منه للحاضرين المهللين وللرأي العام أنه وفر لهم كل احتياجاتهم، فأجابه الطفل ببراءة بليغة: "بغيت امرأة". الشيء الذي أثار ضحك كل الحاضرين وأحرج المسؤول بالتأكيد. لقد كان جوابا تلقائيا، عفويا وفوريا كاشفا لحقيقة الوضع. وما أضحك المسؤولين أبكى صاحبة الوزرة البيضاء؛ لقد عرى جواب الطفل الواقع ببشاعته، وكشف أن المؤسسة التربوية المروج لها إعلاميا لم تتمكن من الارتقاء برغبات الطفل مما هو بيولوجي فطري تمليه قوانين الجسد إلى ما هو اجتماعي ثقافي مفكر فيه. والجواب كان دليلا قاطعا على فشل تلك التجربة. لكن التأويلات حملته أبعادا أخرى مفبركة، إذ حتى هذه الفئة حرمت من أحلامها. استنتجت صاحبتنا في الأخير هول الواقع المخزي الذي يضع الشباب بين مطرقة اليأس والإحباط وسندان البحر. وكأن طارق بن زياد يخطب فيهم من جديد لكن هذه المرة قائلا: البحر أمامكم والضياع وراءكم.. لتتيقن أن الأحلام هي صناعة لا يتقنها إلا مواطن حر داخل وطن حر يسع الجميع. اعتذرَت الأستاذة لتلامذتها في آخر الحصة عن جرائم لم ترتكبها في حقهم.