إحباط محاولة للهجرة السرية بضواحي الجديدة    الملك محمد السادس يهنئ بوتين بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب يُقلص عدد الأطفال العاملين ب 94 %    غلاء أسعار الأضاحي.. بايتاس: الحكومة قامت بمجهود كبير واتخذت إجراءات    بايتاس: القطيع الوطني في حالة صحية جيدة وسيتم الإعلان عن امتحانات طلبة الطب قريبا    عشرات القتلى في حريق مهول بمنطقة سكنية بالكويت    السعودية تطلق تجربة التاكسي الجوي لأول مرة في موسم الحج    تزايد الدعم الدولي لمقترح الحكم الذاتي بالصحراء المغربية يقبر مخططات الجزائر    النيابة العامة تمنح "مومو" خبرة الهواتف    الأرصاد الجوية تفسر أسباب تقلبات الطقس مع بداية فصل الصيف بالمغرب    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم يتعلق بإحداث وتنظيم المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين    الحكومة تعيد تنظيم المركز السينمائي المغربي    مهرجان أكورا للسينما والفلسفة: فيلم بلجيكي يحصد جائزة ابن رشد للفيلم الطويل    بايتاس يؤكد التزام الحكومة بتعهداتها لحل أزمة طلبة الطب والصيدلة    الحكومة تُعلّق على فاجعة تلميذة آسفي    بشرى للسائقين.. إسبانيا تعترف بالبيرمي المغربي    المجلس الإقليمي للدريوش يصادق على مشاريع جديدة ويناقش واقع الماء والكهرباء بالإقليم في دورة يونيو    أول تعليق لعموتة بعد قيادته الأردن للفوز على السعودية في عقر دارها    فاش.. رئيس مقاطعة يضع اسم والده على شارع مكان "يوسف بن تاشفين"    دياز: المغرب يختم الموسم بفوز كبير    فعاليات تطالب باستئصال ظاهرة تشغيل الأطفال من خلال الحوار الاجتماعي    "تقرير أممي يكشف عن كمٍ غير مسبوق من الانتهاكات ضد الأطفال في غزة والضفة الغربية وإسرائيل" – الغارديان    تزايد الإقبال على اقتناء الملابس التقليدية بمناسبة عيد الأضحى    الإيسيسكو تجدد التأكيد على التزامها بالمساهمة في القضاء على تشغيل الأطفال    كيف انطلقت بطولة كأس الأمم الأوروبية؟    توقيع اتفاقية تعاون بين جهة الشرق وجهة اترارزة الموريتانية    إعادة انتخاب المغرب عن جدارة في اللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة    حقيقة الانسولين الروسي الذي سيدخل السوق المغربية لعلاج مرض السكري؟    أول تعليق لمدرب الكونغو بعد الهزيمة الثقيلة أمام "أسود الأطلس"    رغم المرض .. المغنية العالمية "سيلين ديون" تعد الجمهور بالعودة    الارتفاع يستهل تداولات بورصة الدار البيضاء    أسعار النفط ترتفع وسط تفاؤل حيال الطلب    قدوم أكثر من 1.5 مليون حاج من خارج السعودية عبر المنافذ الدولية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    حكيمي يكشف السر وراء الفوز الساحق على الكونغو    الخلاف الحدودي السعودي-الإماراتي على الياسات: نزاع حدودي أم صراع نفوذ؟    تحقيق للأمم المتحدة: النطاق "الهائل" للقتل في غزة يصل إلى جريمة ضد الإنسانية    تقرير: المغاربة أكثر من رفضت إسبانيا طلبات تأشيراتهم في 2023    إذاعة فرنسا العامة تطرد كوميديا بسبب نكتة عن نتنياهو    اليد الربعة: تجربة جديدة في الكتابة المشتركة    لوحات فريدة عمرو تكريم للهوية والتراث وفلسطين والقيم الكونية    المنتخب المغربي يتألق بتحقيق فوز عريض ضد الكونغو برازافيل    أقصى مدة الحمل بين جدل الواقع وسر سكوت النص    اليونسكو.. تسليط الضوء على "كنوز الفنون التقليدية المغربية"    إطلاق مشروع "إينوف فير" لتعزيز انخراط الشباب والنساء في الاقتصاد الأخضر    تطورات مهمة في طريق المغرب نحو اكتشاف جديد للغاز    توقيع على اتفاقية شراكة للشغل بالمانيا    "الأسود" يزأرون بقوة ويهزون شباك الكونغو برازافيل بسداسية نظيفة    القناة الرياضية … تبدع وتتألق …في أمسية فوز الأسود اسود    أفاية: الوضع النفسي للمجتمع المغربي يمنع تجذّر النقد.. و"الهدر" يلازم التقارير    غباء الذكاء الاصطناعي أمام جرائم الصهيونية    ندوة أطباء التخدير والإنعاش تستعرض معطيات مقلقة حول مرضى السكري    الأمثال العامية بتطوان... (622)    رفيقي يكتب: أي أساس فقهي وقانوني لإلزام نزلاء المؤسسات السياحية بالإدلاء بعقود الزواج؟ (2/3)    ارتفاع درجات الحرارة من أكبر التحديات في موسم حج هذا العام (وزارة الصحة السعودية)    خبراء يوصون باستخدام دواء "دونانيماب" ضد ألزهايمر    دراسة علمية أمريكية: النوم بشكل أفضل يقلل الشعور بالوحدة    الرسم البياني والتكرار الميداني لضبط الشعور في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا الثريا التي تازا بي افتخرت....
نشر في هسبريس يوم 05 - 08 - 2019

جاذبة هي العمارة الدينية التاريخية ومثيرة لسؤال رمزية التراث في زمن عولمة وسرعة وتدفق قيم ثقافات وغيرها، لما هي عليه معالم هذه العمارة التي تملأ وتطبع المجال العتيق لمدن المغرب الأصيلة، من بروز وموقع وامتداد يعود لمغرب العصر الوسيط. وبقدر ما تعطي هذه العمارة لمدن البلاد العتيقة هويتها الإسلامية بقدر ما تشهد على أثر سلفٍ من تشييدٍ وبناء وتميز على امتداد قرون. وقد أحيطت عدد من المدن خلال هذه الفترة بعناية سلطانية غير مسبوقة، كما يسجل لملوك بني مرين ما بها من تشييد وإغناء لها بدور علم وإقامة طلبة ومدارس وزوايا وجوامع كبرى، منها جامع تازة الذي يعود إلى القرن السادس الهجري باعتباره من تحف البلاد العربية الإسلامية في بعدها التاريخي الرمزي الروحي. وقد عُرفت هذه المعلمة الشامخة بهذا الاسم منذ زمن العصر الوسيط، وحظيت باهتمام ورعاية الملوك المرينيين الذين جعلوا من تازة عاصمة مؤقتة لهم.
وفي علاقة بجامع تازة التاريخي الموحدي المريني هذا، كانت دولة الموحدين التي حكمت البلاد حتى منتصف القرن السابع الهجري بتقدم عمراني جعلها بمنزلة وموقع حضاري رفيع. عِلماً أن ما هو زخرفة في بداية فترة حكم عبد المومن بن علي الكًومي كان بحرج فكري جعل البناء في عهده خالياً من كل زخرفة سيراً على نهج ابن تومرت في ثقافة تقشف وزهد. لكن ما أن فتح عبد المومن بن علي بلاد الأندلس حتى بدأ ينهل من حضارتها وعمارتها وبدائع زخارفها لكي لا يوصف بتخلف عما بات تحت نفوذه من أقاليم جديدة، فكان أول عمل له في فن البناء والتشييد بعد فتح تازة هو جامعها الذي كان يشبه في تخطيطه تخطيط جامع تنمل.
وقد تم بدء بناء جامع تازة هذا عند تأسيس عبد المومن بن علي لتازة عام 529ه، مشتملا في بنيته الأولى على بيت صلاة من ثلاثة بلاطات وأربعة أساكيب. مع أسكوب محراب بثلاث قباب وبصحن الجامع مجنبتان متصلتان ببلاطين شرقي وغربي لبيت الصلاة، وقد وضعت الصومعة في ركن الجامع الشمالي وكان ما أضافه بنو مرين من زيادة في بيت الصلاة واضحاً وبنوع من التميز عن عمارة الموحدين. وحتى يكون جامع تازة ظاهراً من جميع الجهات ومن بعيد أيضاً تم تشييده في موضع يعد نواة للمدينة، بموقع مرتفع في جزئها الشمالي يطل من خلاله على ممر شهير يصل شرق البلاد بغربها وجبال الريف بالأطلس، ولعل ما أخذ بعين الاعتبار في اختيار موقعه المتميز جعله بخاصية مجالية متفردة في البلاد الإسلامية.
وتؤكد ميزة اتساع صحن جامع تنمل شكل صحن جامع تازة الموحدي، الذي ورث شكله عن مساجد دولة المرابطين بفاس التي يعتبر مسجد قرطبة نموذجها الأول. مع أهمية الإشارة في هذا الإطار إلى أن الموحدين بنوا مساجد عظمى داخل المدن المغربية التاريخية، حققت تقابلا في داخلها وخارجها وبدت أكثر انتظاماً وفخامة من الجوامع الأخرى. وجامع تازة الشهير بالمغرب والغرب الإسلامي، الذي شكل انتقالا بين عمارة الموحدين وعمارة المرينيين، يرجع إلى أواخر القرن السابع الهجري 691ه زمن أبي يعقوب يوسف الذي كان وراء زيادة فيه، حيث أصبح الجامع يشتمل على سبعة بلاطات وثمانية أساكيب وتميزت أسطوانة محرابه المريني الجديد بأروع قبة إسلامية.
وكان للوح تأسيسي عبارة عن نقش يخص ما أضافه ملوك بني مرين من زيادة على ما كان قائماً على عهد الموحدين فضل في فك غموض يهم تحديد معالم الجامع الموحدي وحدوده مع أسماء وتواريخ مساعدة. وقد جاء هذا النقش بخط مغربي من خمسة عشر سطراً، يحتوي كل واحد منها على سبع كلمات وبه أخطاء إملائية على الشكل التالي: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد، أما بعد أمر أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف أسماه الله وخلده ببنا الزيادة التي زيدة (كذا) في هذا الجامع شرفه الله، وذلك أربعة بلاطاة (كذا) في قبلته وبلاطان شرقي وغربي (مع) الصحن الذي وابتديء في مفتتح ربيع الأول من العام المنصرم (...)، وكان الفراغ منه أواخر شوال إحدى وتسعين وستمائة".
وحول جوامع المغرب خلال فترة المرينيين بالمغرب لا نجد ما هو شاف من المعلومة التاريخية حول سبل الإنارة بها، فالإشارات الوحيدة في هذا الباب تلك التي تهم فاس وسبتة وتازة وتهم ما يتعلق بالثريات واستعمال زيت الإنارة. وكان صاحب "روض القرطاس" قد أورد معطيات بقيمة هامة حول ثريا تازة، مشيراً لتاريخ صناعتها 693ه بعد الانتهاء من توسيع جامعها من قِبل يوسف بن يعقوب المريني، إضافة لكلفة صناعتها ووزنها وعدد كؤوسها. قائلا: "وسنة ثلاث وتسعين وستمئة فرغ من بناء جامع تازة، وعملت الثريا وزنها إثنتان وثلاثون قنطاراً من النحاس وعدد كؤوسها خمسمئة كأس وأربعة عشر كأساً، وأنفق في بناء الجامع وعمل الثريا.. ثمانية آلاف دينار ذهباً". وثريا جامع تازة هذه مكونة في قسمها الرئيسي من شكل مخروطي صنع من البرونز، بشعاع مترين وخمسة وأربعين سنتمتر وبعلو متر واحد وأربعين سنتمتر.
وإضافة لما تتميز به هذه الثريا في بلاد المغرب والغرب الإسلامي والعالم الإسلامي عموماً، فالذي يزيد من تفردها كون جزئها الأسفل يحتوي قصيدة شعر منقوشة عليه، بمعاني بالغة لشاعر مجهول إلى حين ما هو مؤسَّس، وهي قصيدة شهيرة عند أهل تازة لارتباطهم وجدانياً بهذه التحفة الفنية المرينية التي زين بها جامع مدينتهم الأعظم، اعترفاً بفضلها وفضل موقعها وأهلها زمن نشأة دولة بني مرين.
ولعل من الإشارات الهامة التي تحتويها هذه القصيدة، هناك تاريخ تعليقها 694ه بخلاف ما هناك من لبس تعبيري فيما جاء عند ابن أبي زرع، ما يطرح سؤال تأخير ونقل وتعليق هذه الثريا في جامع تازة. وكان الوزير الاسحاقي عند زيارته لتازة في إطار رحلة حجية شهيرة، قد أورد في مذكراته أن من جملة ما رآه وأثار انتباهه في هذه المدينة ثرياها العجيبة التي يضرب بها المثل، مشيراً إلى أنها لا مثيل لها وأنها عنقود عظيم مرصع بمراكز قناديل متماسكة في الهواء بسلسلة نحاسية وعليها أبيات شعرية منقوشة.
وإذا كانت ثريا تازة تشكل بحق عملاً وصنعاً وإبداعاً ونبوغاً حرفياً مثيراً، فإن أصولها تنحدر من نموذج موحدي سابق هو ثريا جامع القرويين التي أنجزت بداية القرن الثالث عشر الميلادي بأمر من السلطان محمد الناصر، وتتكون الثريتان معاً، تلك التي بتازة وتلك التي بفاس، من قاعدة سفلى بطبقات محاطة بجسم دائري كان مخصصاً لحمل قناديل يسرج بها الزيت.
يبقى أن ثريا تازة هذه التحفة الفنية المرينية المتفردة التي تسكن جامع المدينة الأعظم منذ نهاية القرن السابع الهجري، باستثناء ما ورد عنها من إشارات محدودة في نص ابن أبي زرع التاريخي الأصيل، وما ورد عنها أواسط القرن الماضي في مؤلف" هنري تيراس" القيم الذي خصصه لتاريخ جامع تازة، ولعله دراسة بمحاور متكاملة جاءت بمعطيات على درجة عالية من القيمة العلمية التاريخية حول ما هو حضاري وعمراني يخص هذه المعلمة الدينية الشامخة، بالنظر لما احتوته من أسئلة عميقة وتحليل وتفسير ومقارنة وأشكال قياس وتصاميم وأبعاد هندسية وغيرها، يبقى الذي يسجل باستثناء هذه الإشارات المصدرية المحدودة مع إحاطات ارتبطت بدراسات لفرنسيين تعود لفترة الحماية، هو أنه ليست هناك أية أبحاث دقيقة تاريخية وأركيولوجية حديثة العهد توجهت بعنايتها لهذه المعلمة، من أجل تنوير وتنقيب وكشف ومعرفة وتحليل أوسع يخص عددا من جوانبها التي تحكمها أسئلة عدة عالقة في حاجة لأجوبة علمية شافية مؤسَّسَة. ناهيك عن كون هذه الثريا المتفردة التي يزخر بها تاريخ وتراث وعمارة تازة التاريخية، ما تزال بدون إشعاع مؤثر ايجاباً على المدينة من حيث ما يمكن أن تسهم به في التنمية المحلية عبر أساليب إدماج وتدبير عقلانية، من شأنها تحريك وإنعاش وانقاذ المجال العتيق لتازة الذي بات بشبه موت سريري منذ سنوات إن لم نقل منذ عقود.
مع أهمية الإشارة حول ثريا تازة المتفردة إلى أنه حتى وضعها الحالي وفكرة إحاطتها وعزلها بسياج خشبي من الأسفل، كيفما كان مبرر الفكرة وهذا الإجراء، أثر على مشهدها وجماليتها وقوة تعبير هندستها وشموخها التاريخي وقيمتها الحضارية وعظمة محتوياتها وطريقة تعليقها وإثارتها لكل زائر ومتأمل وباحث...، بل وضعها الحالي على إثر هذا الإجراء والعزل غير المناسب استيتيقيا، جعلها باهتة بموقع ليس الذي ينبغي أن يكون وهي تتوسط جامعاً تاريخياً موحدياً مرينياً شامخاً منذ نهاية القرن السادس الهجري.
وكيفما كان مبرر الإجراء، فإن فكرة سياج محيط بها أفقدها كثيراً من هيبتها وإثارتها، وأسهم إلى حد ما في تغييب جمالها وتفردها وشكلها وتموقعها وما تضفيه من تكامل على محيطها فيما وضع حولها من أشرطة وروبورتاجات وغيرها، بل في تسطيح قيمتها والتقليل من شأنها التاريخي والاستخفاف برمزيتها، خاصة وأنها تسكن وتزين جامعاً من أقدم وأعرق الجوامع ببلادنا، الذي بقدر ما ينبغي أن يحظى به من عناية خاصة بقدر ما ينبغي أن تحاط به تحفه من رعاية وصيانة وإبراز وتعريف، حفظاً لعبق زمن جامع تؤثثه أعظم ثريا في المغرب والغرب الإسلامي والعالم الإسلامي، إلى حين حسن استثمار ما هو تاريخي رمزي وما هو مادي ولا مادي تراثي بجعل موارد زمن تازة ضمن أسس رهان تنمية استشرافية بها ومستدامة.
*باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس مكناس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.