يرى عمر الكتاني، أستاذ التعليم العالي والخبير الاقتصادي، أن لجوء الحكومة بشكل مفرط إلى الاقتراض الخارجي أمر سلبي، وستكون له نتائج سلبية مستقبلاً. كما يعتبر أن التوجه نحو منح الدعم المالي المباشر للفقراء، بعد رفع دعم صندوق المقاصة، ليس خياراً صائباً، واصفا ذلك بريع الفقراء. ويؤكد الخبير الاقتصادي، في هذا الحوار مع هسبريس، أن الريع وضعف مردودية الاستثمار العمومي ينتجان نسب نمو ضعيفة، ناهيك عن ارتباط الاقتصاد الوطني بقطاع الفلاحة بشكل كبير، حيث يتضرر في كل سنة منخفضة التساقطات المطرية. ويؤكد الكتاني أن التنمية يجب أن تبدأ من البادية لأنها تضم 40 في المائة من ساكنة المغرب، مشيرا إلى أن الفقر يعمها بشكل كبير، وهو ما ينتج فوارق اجتماعية كبيرة في الوصول إلى الخدمات الأساسية مقارنة بالمدن. ما قراءتك لمضامين مشروع قانون مالية 2020؟ أولاً، هذا المشروع يأتي في مرحلة دقيقة بالنسبة إلى الاقتصاد المغربي، من حيث التوازنات المالية وارتفاع المطالب الاجتماعية، المتمثلة في الرفع من الأجور والحفاظ على القدرة الشرائية. والملاحظ أن الحكومة ماضية في سياسة الاقتراض لتغطية تبعات القانون المالي الخاص بالسنة المقبلة، حيث سيصل الأمر إلى 10 مليارات دولار، وهو ما يعادل 97 مليار درهم، إذا احتاجت إلى ذلك لأن الأمر مرتبط بالسنة المطرية والقطاع الفلاحي بصفة عامة. هذه أوضاع دقيقة جداً تحتاج إلى مجهود تنظيمي وتخطيطي، وأيضاً للشعور بالغيرة الوطنية من خلال الاحتياط في اتخاذ تدابير من قبيل اللجوء إلى الاقتراض بوتيرة ستكون لها نتائج سلبية على الاقتصاد المغربي. في هذا الصدد أثمن ما قاله والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري، فإذا استمر المغرب في هذا الطريق سنصل إلى سيناريو 1980، أي سياسة التقويم الهيكلي، وهذا يعني أن المؤسسات الدولية هي التي ستُسير الاقتصاد المغربي مقابل الحصول على القروض لأداء أجور الموظفين ووضع الميزانية. نحن نمضي إلى هذا السيناريو لأسباب أخرى، من بينها أن الدولة تبذل مجهودا كبيرا في الاستثمار، لكن الإنتاجية لا تتجاوز 3 في المائة. والسبب وراء ذلك هو اقتصاد الريع، والحل هنا هو تبني سياسة التقشف عبر تقليص كل الامتيازات غير المنتجة من الناحية الاقتصادية لكي تكون مداخيل الدولة كافية للمصاريف. لنضع الأمر في إطار، لكي نؤدي ديوننا التي وصلت إلى 82 في المائة من الدخل الوطني يجب على المغاربة ألا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينفقوا سنة كاملة، لأن الديون المتراكمة كبيرة، لكن رغم ذلك نرى أن الحكومة مستمرة في الاستدانة. ولذلك، أرى أن مشروع قانون المالية الحالي يستمر في السياسات السابقة نفسها، أي اللجوء إلى القروض الخارجية، وتعويم الاستثمار الاجتماعي عن طريق مشاريع صغيرة ذات مردودية ضعيفة. أضف إلى ذلك أن الدولة لم تستوعب أن سعيها لتقديم دعم مالي مباشر، بعد رفع دعم صندوق المقاصة، ستكون له تبعات خطيرة لأنه بمثابة ريع للفقراء، مقابل ريع الأغنياء والموظفين السامين، وريع رخص الاستغلال. بمعنى أن هذه الأموال لا إنتاجية وراءها ولا أثر لها على تشغيل الشباب. هل ترى أن الدعم المباشر غير مجدٍ؟ ما السيناريو الأمثل في نظرك؟ أذكر هنا تقريراً سابقاً للبنك الدولي يشير إلى أن أغلب استثمارات الدولة توجد في المدن مقابل استثمار غير كافٍ في البوادي، وحتى إن وُجد هذا الاستثمار فهو يهم القطاع الفلاحي، وهذا من الأخطاء الكبيرة التي ترتكب، لأن السنة التي نسجل فيها نسبة تساقطات ضعيفة لا يجد الفلاح ما ينتجه. وحسب إحصائيات سابقة للمندوبية السامية للتخطيط، فإن 85 في المائة من الفقر موجود في البادية، وهذا كان من المفروض أخذه بعين الاعتبار، وأن تكون قوانين المالية لسنوات عديدة مركزة بشكل أساسي على قطاع البادية. سيناريو إعطاء هؤلاء الفقراء ريعاً في شكل دعم مالي لن يجعلهم منتجين، بل مستهلكين. وهناك خطورة تتمثل في كون جزء من هذا الدعم سيستفيد منه الأبناء العاطلون، وربما تصرف نسبة منه في المخدرات، لذلك فهو حل غير مجدٍ. وعوض ذلك، أرى أن على الدولة أن تقوم بتعليم وتكوين الأبناء العاطلين ودعمهم في انطلاقة عملهم، كي يُصبحوا منتجين ودعامة لأسرهم. الاستثمار يجب أن يكون في الموارد البشرية المؤهلة لبناء قطاع البادية، عبر مدارس التكوين المهني. وفي هذا الصدد أرى أن الوضع يستوجب اختيار 150 قرية مهمة في المغرب لتحويلها إلى مدن تتوفر على الخدمات الأساسية، لأن انعدام الخدمات الأساسية في القرى يدفع سكانها إلى الانتقال إلى المدن من أجلها. ما يقع اليوم هو الاستثمار في البادية بشركات ومؤهلات ويد عاملة قادمة من المدن، وهذا بمثابة استغلال للفلاح وإبقائه في وضعية الفقر لتدفعه الأوضاع فيما بعد إلى الهجرة إلى ضواحي المدن للاستمرار في الفقر. كيف ننمي البادية؟ ننميها بتكوين الإنسان الذي يشتغل فيها مهنا عدة مثل الكهربة أو الصباغة أو البناء ليكون مؤهلاً لتقديم الخدمات محلياً دون الاضطرار إلى جلبها من المدن. هناك إحصائيات للمندوبية السامية للتخطيط تقول إن 55 في المائة من الفقر بالمغرب سببه التعليم. هذا معطى مهم جداً، بمعنى أن إخراج الإنسان من الفقر يجب أن يبدأ بتعليمه، لكن التعليم والتكوين لحد الساعة لا يزالان ضعيفين في البادية. يسجل المغرب منذ سنوات نسب نمو أقل من المتوقع، ما السبب في نظرك؟ أحد الأسباب هو ضعف مردودية الاستثمار بسبب اقتصاد الريع، وهذا الأمر يجب مواجهته بالمراقبة والمحاسبة. نرى أن المجلس الأعلى للحسابات يعطي تقييمات حول أموال غير مبررة في عدد من البرامج والمشاريع، ويتبين أن كل مشروع استثماري يكلف أكثر من الكلفة الواقعية، لكن لا تتم محاسبة المسؤولين مع الأسف. من بين أسباب ضعف نسب النمو أيضاً تحكم الأمطار فيها، لماذا؟ لأن 40 في المائة من السكان يعيشون في البادية، والمعايير الدولية تقول إن 10 في المائة من السكان في القرى يمكن أن توفر أغذية ل100 في المائة للسكان، مما يعني أن لدينا 30 في المائة فائضة وإنتاجيتها ضعيفة بسبب الأمية. سنوياً، نتوقع نسبة النمو بناءً على 70 مليون قنطار من الحبوب، وهذا يعني أن النمو الاقتصادي يعتمد على إنتاج قطاع فلاحي لا يمثل إلا 13 في المائة من الدخل الوطني. كيف ل13 في المائة أن تتحكم في ثلثي النمو الاقتصادي؟ لأنه حين تتساقط الأمطار يلجأ 40 في المائة من السكان إلى المدن للاستهلاك، وهذا يعني أن المدن تستغل البادية لأنها لا تتوفر على الخدمات الأساسية. لذلك فإن تحقيق التنمية يبدأ من البادية عبر الاستثمار في سكانها، بالتعليم والصحة والتكوين، وهذه أمور واضحة ولا تعقيد في قراءتها. بصفتك خبيرا اقتصاديا، كيف ترى حكومات ما بعد دستور 2011؟ كل الحكومات التي جاءت بعد دستور 2011 كانت نيتها إصلاحية، لكنها واجهت المنظومة الرأسمالية الريعية المستغلة لباقي الاقتصاد، بدعم من الدولة مع الأسف. سأعطيك مثالاً، قانون المالية الحالي سيُحدث 23 ألف منصب، لكن ثلثي الوظائف مُخصصان لوزارة الداخلية، معنى هذا أن وزارة واحدة تأخذ صلاحيات الوزارات الأخرى، وتتم الزيادة في تنميتها بالأطر. لا أقول إن وزارة الداخلية لا تقوم بالمحافظة على الأمن في المغرب، فهذا شيء مفروغ منه، خصوصاً في الظروف الحالية. لكن الأمن من المنظور الواسع لا يعني فقط رجال الأمن، بل يشمل أيضاً القطاع الاجتماعي، ونشر التعليم في البادية. بعبارة أخرى يجب أن نعالج الأسباب عوض الاستثمار في النتائج. اليوم هناك نقاش حول النموذج التنموي الجديد، وأرى أن البديل هو الاستثمار الاجتماعي في البادية، وهذا يجب أن يكون من طرف الدولة، وبمساهمة القطاع الخاص والمجتمع المدني، وهذا يمكن دعمه من خلال مبادرات عدة، من بينها صندوق الزكاة، وصندوق الوقف، وتعبئة صندوق خاص بالجماعات القروية والحضرية لدعم القطاع الاجتماعي.