يشكل مؤلف إبراهيم حركات "المغرب عبر التاريخ" دراسة شمولية عن تاريخ الدولة بالمغرب، ويتجلى ذلك على الخصوص من خلال ما جاء في مقدمة الأجزاء الثلاثة لهذا العمل، حيث يقول الكاتب: "عملت على أن يكون الكتاب في ثلاثة مجلدات، أولها ينتهي بنهاية دولة الموحدين وحضارتهم، والثاني يؤرخ للمغرب من دولة المرينيين إلى نهاية السعديين، والثالث يؤرخ لدولة العلويين". ولعل هذا يظهر أن إشكالية التأريخ للدولة المغربية كانت إشكالية محورية لدى المؤلف، جسدها بشكل كبير من خلال تأكيداته المتكررة في المقدمة نفسها على هذه الإشكالية. وهكذا أشار الكاتب إلى أن "تاريخ أي دولة في العالم ليس مجرد أنوار ساطعة وحياة سعيدة على ممر الأيام". بالإضافة إلى ذلك، شكل هذا المؤلف أيضا طموحا علميا متميزا مقارنة بباقي الكتابات التاريخية الأخرى؛ فهو لم يقتصر على التأريخ لمرحلة سياسية من تاريخ المغرب، أو الاكتفاء بالتأريخ لأسرة حاكمة، بل كان طموحه يشرئب إلى التأريخ للمغرب منذ العصور القديمة إلى العصر الحديث، ما يعتبر تجاوزا للنظرة التأريخية التي تربط تاريخ البلد بتاريخ دخول الإسلام إليه. وهكذا يقوم حركات في بداية الجزء الأول من المؤلف (من عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية دولة الموحدين) بالتحدث عن أصل البربر ومختلف القبائل التي كانت تعيش في أنحاء المغرب، ثم يخلص بعد ذلك إلى التحدث عن مختلف الشعوب والدول التي غزت البلد، ابتداء بالفينيقيين ومرورا بالقرطاجيين والوندال وانتهاء بالعرب. وتتلخص المرتكزات المنهجية التي ينبني عليها مؤلف حركات في المحددات التالية: - المحدد الجيو- إستراتيجي - النظرة الإيديولوجية - الإرث الخلدوني المحدد الجيو- إستراتيجي تخترق مؤلف حركات نظرة جيو-استراتيجية واضحة ظهرت على الخصوص من خلال تحديده وضعية المغرب الجغرافية، وكذا ربطه بين التاريخ السياسي للبلد والوضع السياسي الإقليمي المحيط به: - وضعية المغرب الجغرافية منذ البداية، وصف المؤلف المحددات الجغرافية التي أثرت في التاريخ السياسي للمغرب، إذ جسدها في ثلاثة عوامل رئيسية: - العامل الأول يتجلى في الموقع الإستراتيجي الذي يتميز به المغرب؛ إذ يشكل حلقة وصل بين إفريقيا وأوربا، ما أثر على هويته السياسية. ويحتل البلد موقعا إستراتيجيا ممتازا بين البلاد الإفريقية، فهو يحرس مدخل البحر الأبيض المتوسط من الغرب، كما تحرسه مصر من الشرق؛ وقربه من أوربا جعله ينقل إليها حضارته التاريخية من القرون الوسطى بالاشتراك مع الأندلس، كما تلقى عنها غير قليل من حضارتها العصرية، إلى جانب حضارتها الشرقية الأصيلة. - العامل الثاني يكمن في صعوبة تضاريس البلد وتعقد "مور فولوجيته" الجغرافية، مما أثر أيضا في مجرى تاريخه السياسي؛ فقد "شكلت جبال المغرب الشامخة سدا منيعا في وجوه الغاصبين منذ فجر التاريخ، فوقف الفينيقيون عند السواحل الشمالية والغربية، وعجز الرومان عن إخضاع سكان الريف والتوغل في جبال الأطلس، كما وقف البيزنطيون عند سبتة. ولم يتيسر انتشار الإسلام إلا باقتناع من البربر أنفسهم.. واقتضى هذا الانتشار الشامل أجيالا طويلة امتدت إلى عهد المرابطين". - المحيط الخارجي ربط حركات بين الأوضاع السياسية الداخلية والمستجدات الدولية، وبالأخص تلك التي تهم المنظومة المتوسطية؛ وقد كان يصنف المستجدات وفق ترتيب سياسي خاص، بحيث كان يشير أولا إلى التطورات السياسية التي عرفتها دول العام المسيحي، ثم التطورات التي عرفها العالم الإسلامي، ليخلص بالتالي إلى الأوضاع الداخلية التي هيأت أو صادفت قيام كل "دولة" من "الدول المغربية". ففي ما يتعلق بنشأة الدولة الموحدية مثلا يشير حركات إلى ما يلي: 1- العالم المسيحي عاصر الموحدون كسابقيهم المرابطين الحملات الصليبية التي شنها المسيحيون قصد استخلاص الأماكن المقدسة المسيحية من يد المسلمين، والتي امتدت خلال قرنين تقريبا: 1291-1096م. واعتبر المسيحيون أن مجموع أراضي الشام، لاسيما القدس، وكذا مصر، داخل الأراضي المقدسة. وبدأ الصراع لأسباب دينية واستند إلى الأسباب نفسها ظاهريا طيلة الحروب الصليبية؛ غير أنه ارتكز أيضا على عوامل سياسية واقتصادية...ومن أهم العوامل السياسية كثرة النزاعات الحربية بين الأمراء وعدم تأطير المجتمعات الأوربية في بوتقة وطنية أو قومية. 2 - أوضاع العام الإسلامي وصلت الخلافة العباسية إلى مرحلة كبيرة من الضعف، "وانشطرت المجموعة الإسلامية إلى عديد من الأنظمة والدويلات، كالبويهيين بالعراق وفارس، والسلاجقة بالشام وآسيا الصغرى، والفاطميين بمصر ثم الايوبيين بعدهم...". 3 - الشمال الإفريقي "كان الشمال الإفريقي من الوجهة السياسية موزعا بين عدة دوائر نفوذ: 1 - المرابطون بالمغرب الأقصى وغرب الجزائر 2 - بنو حماد شرقي بالجزائر 3- النرمنديون بسواحل إفريقية". النظرة الإيديولوجية رغم تجاوز حركات للمنظور التقليدي في تحديد بداية التاريخ السياسي للمغرب، فقد بقي متشبثا بخلفية إيديولوجية ضمنية حافظت على الربط بين نشأة الدولة في المغرب وظهور الأدارسة. ويظهر هذا واضحا من خلال مسألتين أساسيتين: - المسألة الأولى: اعتبار "الممالك البربرية" التي سبقت الفتح العربي-الإسلامي للمغرب أشكالا سياسية بدائية لم ترق إلى "دولة"؛ بل بقيت عبارة عن "ممالك" تخضع للاحتلال الأجنبي (قرطاجة أو الرومان). وهكذا يشير حركات إلى بعض الملوك المغاربة دون التركيز عليهم؛ أو يذكرهم ضمن ملوك الشمال الإفريقي.. وفي هذا الإطار يلمح إلى باخوس الأول ويوغورطا، حيث يقول: "وسنة 105 م كان المغرب يخضع لحكم ملك بربري هو باخوس الأول، كان يستقر بطنجة. وفي هذا العهد ظهرت شخصية يوغورطا النوميدي، الذي كان صهرا لباخوس الأول وملكا على نوميديا". - المسألة الثانية: اعتبار أن كل الإمارات المغربية ( كبني مدرار، برغواطة، النكور...) عبارة عن "دويلات" فقط لا تضاهي حكم الأدارسة. في وقت يقر حركات بأن "المغرب لم يخلص كله للأدارسة، فلئن استطاعوا أن يمدوا نفوذهم شرقا إلى تلمسان، فقد كانت ناحية تامسنا خارجة عن ملكهم، يتحكم في شؤونها البرغواطيون... وبقي أكثر الغماريين مخلصين لدويلة بني صالح الذين تعاقبوا على نكور أزيد من مائتي سنة...وأما بنو عصام فهم بربر استقلوا بسبتة منذ سنة 123 ه وبقيت بأيديهم إلى أن استولى عليها الناصري الأموي بعد قرنين ونيف...". ورغم اعتراف حركات بأن الأدارسة لم يستطيعوا السيطرة على أجزاء مهمة من المغرب، كسجلماسة وحتى فاس في الغالب، ويئسوا من القضاء على المذاهب المناوئة لهم، ولم تكن لديهم حكومة وجيش قويين، فإنه مع ذلك حاول وصف نظام الحكم والإدارة في عهد الأدارسة، ما لم يتوقف عنده وهو بصدد التحدث عن باقي الإمارات المغربية؛ ما يوضح النظرة الإيديولوجية التي تحكمت في المنهجية التاريخية لهذا المؤرخ. الإرث الخلدوني صنف حركات الفترات السياسية التي مرت بها كل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب إلى المراحل التالية: - نشأة الدولة - دور العظمة - دور الضعف وهذا التصنيف يحيلنا بالطبع إلى "الدورة الخلدونية"، ونظرية الأجيال الثلاثة في تحديد تطور الدول. وهكذا نجد أن حركات استخدم المنظور الخلدوني، رغم انتقاده له، في تحديد المراحل السياسية التي مرت بها كل الدول أو الأسر الحاكمة بالمغرب؛ سواء تعلق الأمر بالأدارسة أو المرابطين، أو الموحدين، أو المرينيين، أو السعديين. بل إن الجزء الثالث من كتاب المؤرخ، والمخصص ل"الدولة العلوية"، اتخذ هو أيضا هذه "المسحة الخلدونية" بدليل الفترة السياسية التي تكلم عنها هذا المؤرخ، والتي حصرها "من نشأة الدولة العلوية إلى إقرار الحماية". ولعل هذا المنظور هو الذي جعل هذا المؤرخ يحصر تحليله لتطور الدولة بالمغرب في إطار سيرورة سياسية جامدة، لم تراع التحولات التي عرفتها البنى السياسية المغربية، ولا التغيرات التي شملت أجهزة الحكم والإدارة. وحتى المحاولات التي قام بها المؤرخ لوصف المنجزات السياسية التي قامت بها كل دولة، وكذا وصفه لبعض المظاهر الإدارية والاقتصادية والعمرانية التي ميزت كل واحدة منها، لم تفض في آخر المطاف إلى تخلصه من التصور الخلدوني. "فالدول بالمغرب في نظر حركات تولد وتعيش لتموت".. ومما يؤكد ذلك العبارات الكثيرة التي وردت في مؤلف حركات؛ فعلى سبيل المثال ركز هذا المؤرخ، وهو بصدد تحليله للأحداث السياسية التي عاشتها الدولة الوطاسية على فترة قيام هذه الدولة مشيرا إلى ما يلي: "كان الغزو الأجنبي أعظم خطر هدد الوطاسيين منذ نشأة دولتهم"، ليخلص إلى أنه "لم يحاول الوطاسيون أن يلجؤوا إلى عون خارجي إلا في آخر لحظة من حياة دولتهم".