تقديم بقلم: وليد الخال في محاولة منهما لرسم حدود فاصلة بين النوع الإنساني وما عداه من الأنواع الأخرى، حاولت كل من الفلسفة والعلوم تقديم تعريفات تخصه وتميزه عن باقي الكائنات المقابلة له والمشاركة إياه عبق الوجود. فقيل عن الأخير أنه كائن سياسي، اجتماعي، عاقل، ناطق... ولعل من التعريفات التي لا يختلف فيها اثنان ولا يتناطح عليها عنزان أنه كائن متدين، فقد وجد الأنثروبولوجيون إلى جانب علماء الحفريات أن الإنسان القديم قد خلف من المأثورات الشيء الكثير، ويمكن أن نجمل مجموع هاته المخلفات في حدود خصيصتين اثنتين، ميزتاه عن غيره من الأنواع الأخرى المشاركة إياه الحياة على هذا الكوكب. أما الأولى فهي التقنية أو كما يحلوا لكثيرين وسمها بالتكنولوجيا، وهي تفيد كل إنتاج جديد على غير مثال، وقد تبدى ذلك من حيث اكتشافه (الإنسان القديم) للنار وكذا تشكيله لجملة من الأدوات الحجرية، اللتان ساعدتاه في حياته المعيشة ويسرتاها عليه، وإذا كانت الأخيرة ذات بعد مادي بحت، فإن الثانية هي من طبيعة روحانية هلامية خالصة، إنها تحديدا ظاهرة التدين، وهي صراحة لمن أكثر الظواهر تعقيدًا واستعصاء على الحد، فمن غير اليسير فك رموزها ومعرفة الدوافع الأصلية الكامنة وراءها والمحركة لها. وقد ذهب نفر غير هين من دارسي الدين وباحثيه، إلى تفسير هذا المنزع التعبدي الروحاني الذي طبع به الإنسان القديم، أو قل هذا الدافع الذي زف بالإنسان ودفع به إلى الاستنجاد بالدين، ثم إلى تكوين جملة من المعتقدات الدينية، إلى علة تكمن أساسا أو ربما جزما في حاجته للتخلص من رهبة الطبيعة والتملص من بطشها، وتطلعه لتحقيق التناغم مع الكون الذي فيه يعيش، واستشعار التكامل مع العالم والتماهي معه ثم المشاركة فيه. ويذهب كثيرون إلى اختزال جملة المطامح السالفة الذكر في خاصية "الإحساس بالكلانية" بوصفها منشأ الدافع الديني. ومن تم أفصح الدين عن نفسه بوصفه "الحالة المثلى للتوازن مع الكون (1) ويتشكل الدين -أي دين على اختلافه وتباينه- على أساس بنية موحدة تقوم على عدد من العناصر والمكونات، منها ما هو ثانوي عرضي لا يلعب دورا حاسما في تكوين الدين، ومنها في المقابل ما هو أساس لا نستطيع في غيابه وبدونه التعرف على الظاهرة الدينية. أما المكون الأول فهو "المعتقد"، وهو جملة الأفكار والصور الذهنية الواضحة المعالم والقوية التأثير على عقل المتدين، إن المعتقد هو ذلك العنصر الذي يعمل على إخراج الخبرة الدينية من بؤرة الانفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني والتشكل المعقول، وهنا بالذات تتدخل قريحة الإنسان من أجل صياغة عدد من المفاهيم والأفكار الواضحة والمباشرة، التي تعمل على رسم صور ذهنية لعالم المقدسات، وبيان الصلة بينه وبين عالم الإنسان غير أن الأفكار وحدها لا تصنع دينا، مهما بلغت حدا من الوضوح والتساوق، ذلك أن جملة الأفكار المجردة، لاتعدوا أن تشكل وفي أفضل أحوالها مجرد فلسفة بالرغم من عنايتها الكلية بالمسألة الدينية. وسديد مثال نسوقه هنا، ما جرى للفلسفة الأفلاطونية المحدثة، من حيث أن الأخيرة كانت على شفا أن تغدو دينا كاملا، غير أن عوزها الطقسي وافتقارها للجانب العملي، جعلها تقبع حصرا في عقول منافحها وأتباعها لا في قلوبهم. وهنا بالذات تتبدى قيمة الجانب العملي في الدين، ذلك أن كل صورة ذهنية لا تخرج من عالم الفكر صوب عالم الفعل، ستكون وبلا شك في نهاية المطاف صورة مهترئة معرضة للتحجر فالتقهقر ثم الزوال. فالدين لا يبدو للوهلة الأولى نظاما من الأفكار والمعتقدات، وإنما يفصح عن نفسه كخيط عريض من الأفعال والسلوكيات، فليس المتدين إنسانا "قد أضاف إلى معارفه مجموعة من الأفكار الجديدة، بل هو ذلك الذي يسلك ويعمل بتوجيه من لدن هذه الأفكار"(2) من هنا الحاجة إلى حيوية فعلية عملية، أو كما يعبر عنه بمكون "الطقس" وهو ثاني مكونات الدين. ثم يأتي في المقام الثالث مكون "الأسطورة" أو "القصص" كما هو وسم شائع داخل الثقافة العربية الإسلامية، وهو مكون يعمل على صياغة عوالم من الحكايات الرمزية التي تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات...حيث "يصاغ النص الأسطوري في قالب شعري يساعد على ترتيله وتداوله شفاهيا بين الأفراد وعبر الأجيال، ويزوده بسلطان على العواطف والقلوب" (3) وفي مقاله المرصون هذا، الصادر عن علم سابق وعن فكر ثاقب، وعن ذهن رائق، وعن نفس صادق، سيعمل خليلنا حمزة كدة على رصد واحدة من الديانات التي ظهرت منذ سحيق الزمان، وأفصحت عن نفسها كديانة ذات مصدر سماوي رنان، وهي "الديانة اليهودية"، مسلطا بذلك الضوء على بعض من عقائدها وطقوسها. ولعل من أصيل المعتقدات وأسبقها، ما يتعلق بالقوة الخفية والغامضة التي لها نخنع ونتعبد أي الإله. - فأي صورة للإله عند اليهود، وكيف هي طبيعة العلاقة بين الإنسان وربه في الديانة اليهودية؟ - ثم ماذا عن الروح، بوصفها واحدة من المعتقدات التي لا تخلوا من أي دين، والتي تحدد للمتعبد نقطة خلاصه وتشكل منبع الحياة ما بعد الحياة؟ وبالخلاص من عالم الفكر، سينتقل الصديق لجرد عالم الفعل والعمل من حيث التساؤل عن بعض طقوس اليهود المجسدة طبعا لمعتقداتهم والواصلة بين العبد وربه في جانبه التطبيقي، وقد أخد صديقنا من طقسي الصلوات والأعياد أنموذجا لذلك. وقبل الخوض في ذلك تجدر الإشارة إلى أن المنهج الذي اعتمدناه في جرد الأفكار وكذا في طريقة عرضها، موضوعية خالية من أي تحيز خاص، كما ولا تعتمد على معايير موضوعة مسبقا، وهو المنهج الذي وصفه الأمريكي وليم جيمس ووسمه ب (محاكمة الوجود) في مقابل (محاكمة القيمة) التي تحتكم إلى ذاتية الباحث وتعتمد على معايير مسبقة من جملة أهمية هذا الدين وجدواه (4) زبدة القول إذن أن هدفنا هو الجرد والتقصي لا التلفيق والحكم. الديانة اليهودية (حمزة كدة) ارتكاناً على الرؤية الثاغرة والثاقبة التي رسمها الصديق وليد الخال في الأرضية الممهدة لمقالنا هذا، من جرد وتقصي للمأثورات التي خلفها الإنسان القديم، والتي تتحدد في التقنية والدين، ومن تحديد وتأصيلٍ للمنهج المعتمد عليه لخياطة لبوس هذا المقال، يهمنا رصد الديانة التي ظهرت منذ فجر التاريخ (الديانة اليهودية) وتعرية مراحلها ولبوسها، ثم تبيان بعض عقائدها وطقوسها. تعتبر الديانة اليهودية أول ديانة إبراهيمية سماوية، جردت الإله عن الأوثان والظواهر الطبيعة، وأقرت بعقيدة التوحيد النازعة لقدسية الأوثان والأصنام والحيوانات وغير ذلك من الكائنات الحية والظواهر الطبيعية التي كان ينظر إليها نظرة قدسية -قبل وصولهم إلى التوحيد-، "فهي تحتل مكانة مهمة في تاريخ الأديان ولها دور كبير في فهم طبيعة ديانات الشرق الأدنى القديم" (5) بيد أن اليهوديين القدامى لم يكونوا موحدين، ولم يأخذوا بالتوحيد دوماً، مما يجعلنا أمام فترتين؛ ما قبل التوحيد وما بعد التوحيد. هذا ما أضفى قيمة عويصة ذات لبوس مشوش، ومُعري على منار الالتباس في العقيدة التي يعتنقونها. لقد حملت هذه الديانة -شأنها شأن باقي الديانات- حمولة وفحوى فسيحة مليئة بالظواهر الظاهرة بالمعتقدات والطقوس، التي عبرت عن علاقتهم مع الذات الإلهية وعن النظم السلوكية الأخلاقية التي احتوتها هذه الديانة. وللتعبير عن هذه الظواهر الدينية التي احتوتها الديانة اليهودية، يهمنا الذكر أننا ارتأينا إلى الحديث عن عقيدتين من العقيدة اليهودية، وطقسين من الطقوس اليهودية وهي كالتالي: 1-العقيدة: أ) المعتقد الأول (الإله): عرفت اليهودية كما سبق وذكرنا، مرحلتين -ما قبل التوحيد وما بعد التوحيد- الأولى تميزت بعقيدة التعدد والتجسيم والثانية بعقيدة التوحيد، وفيما يلي توضيحا لهذه المرحلتين، وكيف نظر اليهود للذات الإلهية في كل مرحلة. - مرحلة قبل التوحيد: قبل أن يصلوا اليهود إلى التوحيد، ألهوا قوى الطبيعة، بحيث اعتبروا أن الينابيع والأشجار وغير ذلك مليئة بالأرواح الخيرة والشريرة، واتجهوا في هذه المرحلة إلى التعدد والتجسيم (أي التصديق بوجود العديد من، الآلهة) وعبدوا الحيوانات مثل الأفعى التي مثلت الحكمة والدهاء بالنسبة لهم، والتي كانت موضوعا للتقديس آنذاك، ظناً منهم أنها مليئة بالأرواح النارية التي أسموها "السيرافيم" -الكائنات المشتعلة-. فضلا عن عبادتهم للعجل. وعرفت هذه المرحلة بروز أشهر عقيدة وهي عقيدة "الطوطمية"، وتعنى بضرب من عبادة الإنسان اليهودي لحيوان أو نبات يحسب أن بينهما صلة قرابة أو صلة رحم، حيث كل قبيلة لها حيوانا واحدا تقدسه وتنظر إليه على أنه الروح الحارسة لها، ومنبع قوتها ومصدر الأعمال الصالحة، وكلمة "الطوطمية" مشتقة من "طوطم" الذي اعتبر رمزا للقبيلة وشعارا مقدسا ونجسا في وقت واحد حيث كانت تحميه شريعة "ثابو" أي شريعة التحريم. وجدير بالذكر أنهم أطلقوا على الذات الإلهية أو على كل الأرواح التي تتمتع بقدرة تفوق قدرة البشر، عدة تسميات من قبيل (إيل -إيلوهيم -أدوني -الرب -الله -القدير -يهوه.) - مرحلة ما بعد التوحيد (أو حينما وصل التوحيد): حينما وصل اليهود إلى التوحيد اعتبروه انصهار وانسجام جميع الآلهة مع بعضهما لتشكل إلهاً واحداً، وأقروا بوحدانية الله، لكن رغم ذلك ظل بعضهم يعتقد أن الله قد ندم على خلق البشر، وتعب من خلق السماوات والأرض، وأنه ليس معصوماً، بل بدوره يخطأ ويغضب ويحزن وغير ذلك. ب) المعتقد الثاني (الروح): - قبل التوحيد: اعتقد اليهود أن موطن الروح في الرأس، ومخرجها عند الموت هو الأنف أو الفم أثناء التنفس، وأقروا على أن الشخص حينما ينام فروحه تفارق جسده (بمعنى أنك إذا رأيت صديقك في المنام، فإنك رأيت روحك فقط) اعتقدوا كذلك أن الشخص حينما يعطس فذلك دليل إما على خروج روحك، أو روحا جديدة تريد الدخول، لذلك كانوا يضعون أيديهم عند العطاس. اعتقدوا كذلك أن الروح بعدما تفارق الجسد تبقى تحوم حول الميت، فكان أهل الميت يطنون رؤوسهم بالرماد ويلبسون السواد ثم يصرخون صراخ المذعورين ليخيفوها فترحل(6)، فضلا عن اعتقادهم أن الروح إذا فارقت صاحبها قد تنقلب إلى صورة حيوان، لذلك فالإنسان عندهم يكتسب خصائص الحيوانات التي يتغدى بلحومها. - ما بعد التوحيد (أو حينما وصل التوحيد): لقد ذكر في "سفر التكوين" وهو جزء من التوراة "يؤرخ لبداية الخلق إلى نزول بني إسرائيل إلى مصر" (7)، أن الخالق الأعظم خلق الإنسان من غبار الأرض، ونفخ في أنف الإنسان ليصبح مخلوقا حياً. وقد قسم كتاب "كابلاه" وهو الكتاب المركزي في تفسير التوراة، الروح إلى ثلاث أقسام: 1) نفيش: الطبقة السفلى، مسؤولة عن غرائز الإنسان الجسدية وهي موجودة من لحظة الولادة. 2) روخ: الطبقة الوسطى، مسؤولة عن التمييز بين الخير والشر، وتنظيم المبادئ الأخلاقية. 3) نشامه: الطبقة العليا، مسؤولة عن تمييز الإنسان عن بقية الكائنات الحية. 2-الطقوس: أ) الطقس الأول (الصلاة): تنقسم صلاة اليهود إلى ثلاثة صلوات في اليوم وهي كالتالي: 1) الصلاة الأولى: صلاة الصبح، تتكون من ثلاثة أقسام؛ تبدأ بالأدعية والأناشيد، ثم قراءة التوراة، وأخيراً البدأ بالدعوة والمناداة للصلاة، ثم يبدؤون في قراءة التوراة وأدعية وأناشيد. 2) الصلاة الثانية: صلاة العصر، كلها قراءات في التوراة وأناشيد وأدعية، ولا يدعى فيها للصلاة عامة. 3) الصلاة الثالثة: صلاة في المساء، يدعى للصلاة عامة، ويتم فيها قراءات من التوراة. - لا تصلح الصلاة بدون غسل الأيدي. - قبلتهم هي بيت المقدس. - كانوا يغطون رؤوسهم أثناء أداء الصلاة. - الرجل وجب عليه ارتداء الطاقية، والمرأة لباس طويل، والمتزوجة يجب أن تغطي شعرها. - تقام صلاة الرعية أيام الإثنين والخميس والسبت. ب) الطقس الثاني (أيام الذكرى والأعياد): - يوم السبت: يوم راحة ثوراتي مقدس، لا يسمح القيام بأي عمل في هذا اليوم، باستثناء العبادة أو الحفاظ على الحياة والصحة. - يوم رأس السنة اليهودية الجديدة، يشكل أول أيام العشرة المكرسة لمحاسبة النفس والمنتهية بصوم يوم الغفران (روش هشناه). - عيد الفصح (بساح): يحيي ذكرى النجاة والخروج من مصر. - عيد الأسابيع (شفوعوت): يحيي ذكرى نزول القوانين على جبل سيناء. - عيد المظلة (سوكوت): إحياء لذكرى الإقامة في الصحراء. - عيد الأنوار (حانوكاه): إحياء لذكرى انتصار المكابين وإعادة تكريس الهيكل في أورشليم القدس. - عيد المساخر (بوريم): إحياء لذكرى إنقاذ الشعب اليهودي من أيام الملكة استر. تعتبر هذه الأعياد مناسبات للحج إلى أوشليم القدس مع الصلاة عند حائط المبكى، وهو بقايا الجدار الاستنادي الخارجي لجبل هيكل. تقديم: وليد الخال المراجع: (1): فراس السواح، كتابه "دين الإنسانية"، الطبعة الرابعة (2002)، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة (2): نفسه (3): نفسه (4): William James, The Varities of Religious Experience, Folio Society 2008 (5): محمود خليفة حسن أحمد، "تاريخ الديانة اليهودية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة) عبد غريب، الصفحة 13 (6): يوسف عبد، موسوعة الأديان السماوية والوضعية "الديانة اليهودية"، دار الفكر اللبناني بيروت، الصفحة 05 (7): طارق خليل السعدي، مقارنة الأديان، دار العلوم العربية للطباعة والنشر، الصفحة 65