في العلاقات بين الدول، لا تكفي سرديات التاريخ وحدها لبناء المستقبل؛ بل إن التمادي في استدعاء الذاكرة يمكن أن يصبح عائقا أمام الرؤية، ومعول هدم بدل أن يكون أساس بناء. وما بين الجزائروباريس ثمة ماض يصر على أن يمسك بعنق الحاضر، لا ليراجعه؛ بل ليقيده. وبينما كان كثيرون يظنون أن الجزائر، بعد ستين سنة من الاستقلال، ستنفتح على الجوار وتمارس السياسة بما يليق بدولة ذات سيادة، إذا بها تثبت مرة تلو أخرى أنها لم تتحرر سياسيا بقدر ما تحررت عسكريا؛ فالمؤسسة العسكرية هناك لا تزال تمسك بالقرار وتدير الملفات الكبرى بعقلية استنفار دائم، تضع فيه المغرب في خانة العدو وتحصر المبادرة في مربع الشك. ليس غريبا أن تكون العلاقة الجزائرية الفرنسية على هذا القدر من التشنج، فقد ورثت الجزائر جرحا لم تداوه، وشرعت في بناء دولتها على نقيض فرنسا لا على استقلال فعلي عنها؛ لكن ما يلفت النظر هو أن الجزائر لا تتعامل بندية استراتيجية، بل ترفع شعار السيادة وهي تتصرف بردود أفعال، تغلق على نفسها، وتتعامل مع كل بادرة شراكة وكأنها مؤامرة. فرنسا، مهما قيل عنها، تدير علاقاتها ضمن منطق المصالح الدولية، وتتحرك وفق أجندة أوروبية أوسع؛ بينما لا تزال الجزائر تتعثر بين مقولات الثورة، ومخططات المؤسسة العسكرية، التي ترى في كل تقارب مغربي فرنسي تهديدا لسلطتها، لا فرصة لخلق توازن إقليمي. الملف المغربي ليس تفصيلا في هذا السياق، بل هو بيت القصيد. فمنذ أن تقدم المغرب بمقترحه الجاد حول الحكم الذاتي في الصحراء تحت السيادة المغربية، تعاطت معه الأممالمتحدة والدول الكبرى باعتباره عرضا واقعيا، قابلا للتفاوض، ومفتوحا على الحل؛ لكن الجزائر، وعلى رأسها السلطة العسكرية، اختارت الاصطفاف خارج منطق العصر، لا لأن المقترح ضعيف، بل لأن نجاحه يربك الحسابات الداخلية ويحرج سردية المقاومة الزائفة التي تغذي بها الواجهة السياسية والإعلامية. كان يمكن للجزائر أن تقارب الملف من موقع الشريك لا الخصم؛ لكنها اختارت أن تظل رهينة لعقدة الدور، لا لشروط الحل. إننا إزاء معادلة مختلة: المغرب يبادر، يصلح، يقيم شراكات، ويمد اليد حتى في عز الأزمات؛ والجزائر تراكم المواقف المتشنجة، وترى في كل حركة تطويقا، وفي كل وساطة خيانة، وفي كل تفاهم صفقة ضدها. والمفارقة هي أن الجزائر، التي تدعي تمثيل القضية الصحراوية، لم تقترح يوما حلا قابلا للحياة؛ بل اكتفت بدعم كيان لا سيادة له، تحركه من خلف الستار، لتبقي القضية مفتوحة، لا دفاعا عن مبدأ تقرير المصير، بل حفاظا على نفوذ إقليمي هش، تديره قيادة لا تؤمن لا بالحوار ولا بالانفتاح. وهكذا، تتحول الذاكرة في يد الجزائر إلى قناع تخفي به عجزها عن بناء علاقة ناضجة مع محيطها ومع نفسها. حين تتأمل خارطة العلاقات الجزائرية الفرنسية، تدرك أن الجزائر لا تزال حبيسة سردية العداء، غير قادرة على التمييز بين من يفاوضها بندية ومن يخاطبها بتعال. واللافت هو أن باريس، مهما بدت متذبذبة، حاولت في أكثر من محطة أن تقيم مع الجزائر علاقة طبيعية، مبنية على المصالح المتبادلة، لا على استرضاء الذاكرة. لكن ما حدث هو أن الجزائر، بدلا من أن تستثمر في لحظات الانفتاح، راحت تتقوقع على نفسها، وتمعن في التصلب. والسبب في ذلك لا يعود فقط إلى ما ترويه المؤسسة الرسمية عن الاستعمار؛ بل إلى تلك العقدة العميقة من الجوار المغربي، الذي يثبت كل مرة أنه أكثر نضجا وفاعلية في إدارة ملفاته الكبرى، داخليا وخارجيا. في المقابل، يبدي المغرب، منذ سنوات، سياسة خارجية منفتحة، تتحرك بهدوء؛ ولكن بثبات. فقد استطاع أن يقيم علاقات متوازنة مع واشنطن، وأن يوسع شراكاته في إفريقيا، وأن يقنع الاتحاد الأوروبي بجدية رؤيته لحل نزاع الصحراء، من خلال مقترح الحكم الذاتي الذي بات يحظى بدعم متزايد في المحافل الدولية؛ بل إن باريس نفسها، رغم محاولتها التوازن بين الرباطوالجزائر، كانت تميل إلى التعاطي الواقعي مع الرؤية المغربية، وتدرك أن الحل لا يكون باسترضاء جنرالات الجزائر، بل بدعم ما هو عملي ومقبول إقليميا. لكن الجزائر، بدلا من أن تجاري هذا التحول، قرأت كل خطوة فرنسية نحو المغرب كطعنة، وكل تقارب أوروبي مع الرباط كصفقة في الخفاء. وحين انفجرت أزمة التأشيرات، لم يكن ذلك مفاجئا؛ بل كان نتيجة منطقية لمسار متوتر، ترفض فيه الجزائر الحوار السياسي، وتغلق فيه الأبواب أمام النقد. فرنسا، كغيرها من العواصم الغربية، كانت تنتظر من الجزائر أن تبادر بتسوية ملف الهجرة غير النظامية ضمن آليات عقلانية؛ لكن الرد الجزائري كان توتريا، انفعاليا، قائما على مقولة كرامة وطنية جعلت غطاء لإخفاء فشل إداري ودبلوماسي. وهكذا، بدل أن تفتح الجزائر قنوات النقاش، وتقارب القضية من منظور سيادي ناضج، راحت تصعد، وتحرك إعلامها لشيطنة باريس؛ فيما كانت الرباط، على الطرف الآخر، تتعامل مع المسألة في إطار متزن، يميز بين ما هو تقني وما هو سيادي. واللافت هو أن الجزائر، حتى حين تعلن عن تحولات في موقفها من بعض الملفات، لا تفعل ذلك بمنطق الدولة، بل بمنطق الجهاز. فقرارات السياسة الخارجية تصاغ خلف الأبواب المغلقة، وتنفذ بتوجيهات فوقية، دون إشراك للرأي العام أو للخبرات المدنية. وهذا ما يجعل الجزائر تبدو دائما في موقع المتوجس من كل مبادرة، والرافض لكل مصالحة لا تدار من عندها. في المقابل، اختار المغرب، منذ سنوات، أن يتقدم بمشروع سياسي واضح: لا يعادي أحدا، لا يصعد عبثا؛ لكنه لا يفرط في السيادة. وهنا يكمن الفرق الجوهري: المغرب يمارس السياسة كفن للإقناع والتأثير، بينما لا تزال الجزائر تمارسها كأداة للغضب وتصفية الحسابات. من غرائب الجغرافيا السياسية أن يكون الجار أقرب الناس إليك؛ لكنه في أحيان كثيرة أكثرهم صعوبة في الفهم والتفاهم. والمغرب، وهو يتحرك بخطى ثابتة في فضاء متوسطي وإفريقي واسع، يجد نفسه في كل مرة محاطا بخصم لا ينافسه بالمنجز؛ بل يحاول إيقافه بالمزايدة. الجزائر، بدل أن تتعامل مع المغرب كشريك في بناء فضاء مغاربي موحد، تصر على أن ترى في كل إنجاز مغربي مادة للريبة. المقترح المغربي بالحكم الذاتي، وهو مبادرة سياسية متقدمة بكل المعايير الدولية، لم يقابل في الجزائر بأي تفكير استراتيجي؛ بل ووجه بمنطق الإنكار والصمت العدواني، وكأن قبوله يهدد وجود المؤسسة لا مجرد مواقفها. وهنا، تبرز مشكلة الجزائر في جوهرها: القرار السياسي فيها لا يصاغ داخل مؤسسات مدنية، بل داخل دوائر عسكرية وأمنية، تخشى من كل انفراج، وتراكم الهواجس بدل أن تبددها. ولهذا، كل يد ممدودة من المغرب، سواء في ملف الصحراء أو في قضايا التعاون الإقليمي، تقابل بالجفاء أو بالتأويل الخبيث. لقد أعطى المغرب للمجتمع الدولي صورة دولة تعرف ماذا تريد، بينما تركت الجزائر تجاهد في الدفاع عن أطروحات لم تعد تقنع أحدا. ومع ذلك، لا تزال الجزائر تمارس دور المعارض الأبدي لكل مقترح، حتى ولو لم تنتج بديلا، لا سياسيا ولا دبلوماسيا؛ ما يجعلها تتحدث لغة انتهى مفعولها منذ زمن الحرب الباردة. لكن هذه المرة، لم تكن أسباب التوتر على السطح هي السبب في العمق؛ فلا قضية التأشيرات كانت السبب الفعلي، ولا ترحيل المهاجرين غير النظاميين هو ما فجر الأزمة. السبب الحقيقي، الذي لم يعلن بصراحة، هو أن فرنسا الرسمية، في لحظة بدت هادئة لكنها كانت زلزالية، انزلقت من موقع الحياد الرمزي إلى موقف الدعم الصريح للمقترح المغربي في الصحراء. فعندما أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعبارات دبلوماسية محسوبة، إلى جدية مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب، بدا في قصر المرادية كما لو أن الأرض تهتز تحت الأقدام. لقد أدركت الجزائر أن المعركة الحقيقية تنقل إلى مستوى جديد، وأن باريس التي كانت تمسك العصا من الوسط قررت أخيرا أن ترفع يدها باتجاه الرباط. وهنا بالضبط انفجرت الأزمة، لا لأن الجزائر فوجئت بالموقف؛ بل لأنها كانت تنتظر من باريس تواطؤا مألوفا، فإذا بها تجد نفسها أمام تغيير استراتيجي في قواعد اللعب الدبلوماسي. فمقترح الحكم الذاتي لم يعد مجرد وثيقة مغربية مطروحة على طاولة الأممالمتحدة، بل تحول إلى أساس للنقاش الدولي، مع تنامي الاعترافات الإقليمية والدولية به، من واشنطن إلى مدريد، ومن برلين إلى لاهاي. وفي لحظة بدت فيها باريس تلحق نفسها بهذا الركب الدولي الجديد، اختارت الجزائر أن ترد عبر التصعيد لا عبر التفكير، فأعادت استدعاء السفراء، وهاجمت إعلاميا، وفتحت ملفات الذاكرة من جديد، كل ذلك في محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وكأنها تستطيع أن تلزم فرنسا بالصمت، أو أن تجمد الزمن عند لحظة ما قبل التحول. لكن فرنسا لم تعد تلك التي كانت، والعالم لم يعد ينتظر الجزائر لتأذن له بالتحرك. والمغرب، بخلاف خصمه، لم يعول على الشعارات؛ بل بنى رؤية، وقدم حلا، وتحرك بثبات داخل المعادلات الدولية، فربح الموقف لأنه امتلك المشروعية السياسية والأرضية الواقعية. وهكذا، لم يكن الصدام بين الجزائروفرنسا هذه المرة صداما على التاريخ؛ بل على معنى المستقبل، وعلى من يحدد خرائط الحل في الإقليم. أما الجزائر، فقد وجدت نفسها، مرة أخرى، في موقع المنكفئ، لا لغياب القضية، بل لغياب الرؤية. -أستاذ زائر بالمدرسة العليا للتربية والتكوين جامعة ابن طفيل القنيطرة