رئيس برلمان دول الأنديز : أحب المغرب .. رسالة مؤثرة من قلب مراكش إلى العالم    الدار البيضاء تطلق قطبا تكنولوجيا جديدا بسيدي عثمان    محاولة تهريب للمخدرات بالكركرات    أشغال تجهيز وتهيئة محطة تحلية مياه البحر بالداخلة تبلغ نسبة 60 بالمائة    جماهير الوداد الرياضي والجيش الملكي مع موعد تاريخي    الأميرة للا أسماء تزور جامعة غالوديت    شركة FRS DFDS تعلن عن موعد توقف استغلالها لخط "طريفة – طنجة المدينة"    بعد مقال "شمالي".. مجلس جماعة طنجة يؤجل التصويت على منح 45 مليون سنتيم لجمعية مقرّبة من نائبة العمدة وهذه أبرز النقاط المصادق عليها    هل يتجه حزب العدالة والتنمية إلى الحظر بعد أن تحول إلى جماعة إسلامية حمساوية    سوريا.. السلطات تعتبر القصف الإسرائيلي لمنطقة قريبة من القصر الرئاسي بدمشق "تصعيدا خطيرا"    "ندوة السلام".. بن عبد الله يدعو لتكثل عالمي يواجه إجرام إسرائيل ويحيي سكان طنجة    لهذه الأسباب سيغيب الدولي المغربي مزراوي عن فريقه … !    توقيع اتفاقية إطار بشأن الشراكة والتعاون من أجل تطوير الحكومة الإلكترونية وتعميم استخدام ميزات الهوية الرقمية    الجامعة الملكية المغربية تكرم المنتخب الوطني النسوي المتوج بكأس الأمم الإفريقية للفوتسال    بسبب اختلالات رياضية.. الجامعة الملكية تصدر قرارات التوقيف والغرامة في حق عدد من المسؤولين    الناظور ضمن خريطة أطول أنبوب غاز في العالم يربط إفريقيا بأوروبا    يونس مجاهد: مجالس الصحافة وضعت للجمهور وليست تنظيمات بين-مهنية    رغم القطيعة الدبلوماسية.. وفد برلماني مغربي يحل بالجزائر    مخاريق: لا يأتي من بنكيران سوى الشر.. وسينال "العقاب" في الانتخابات    لبنان يحذر حماس من استخدام أراضيه للقيام بأي أعمال تمس بالأمن القومي    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    اللاعب المغربي إلياس أخوماش يشارك في جنازة جدته بتطوان    حقوقيون يسجلون إخفاق الحوار الاجتماعي وينبهون إلى تآكل الحريات النقابية وتنامي القمع    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    « بين التاريخ والرواية» كتاب جماعي يرصد مسارات أحمد التوفيق    في كلمة حول جبر الأضرار الناجمة عن مآسي العبودية والاتجار في البشر والاستعمار والاستغلال بإفريقيا: آمنة بوعياش تترافع حول «عدالة تعويضية» شاملة ومستدامة    «غزة على الصليب: أخطر حروب الصراع في فلسطين وعليها»    حادثة سير مميتة تنهي حياة سبعيني بالفقيه بن صالح والسائق يفرّ هاربا    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    كلية الآداب بالجديدة وطلبتها يكرمون الدكتورة لطيفة الأزرق    عبد الله زريقة.. علامة مضيئة في الشعر المغربي تحتفي به "أنفاس" و"بيت الشعر"    للمرة الخامسة.. مهمة سير فضائية نسائية بالكامل خارج المحطة الدولية    سفينة مساعدات لغزة تتعرض لهجوم بمسيرة في المياه الدولية قرب مالطا    العرائش تسجل أعلى نسبة تملك.. وطنجة تتصدر الكراء بجهة الشمال    العلاقات التجارية بين المغرب ومصر.. وفد اقتصادي مغربي يزور القاهرة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    رسالة مفتوحة إلى السيد محمد ربيع الخليع رئيس المكتب الوطني للسكك الحديدية    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    الذهب يتعافى بعد بلوغ أدنى مستوى في أسبوعين    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"راشديّةٌ" إنْ شاء الله!
نشر في هسبريس يوم 17 - 11 - 2012

من المُشكلات الزّائفة في العالَم العربيّ-الإسلاميّ ما يُرجِّعه كثيرٌ من المُتدِّخلين (بالخصوص بين المُثقفين-الإعلاميين) بأنّه مسألةُ حياةٍ أو موتٍ في الصراع المُفتعَل بين أنصار «الإسلامانيّة الجامِعة» (إرادة فرض "الإسلام" إطارا جامِعًا عنوانه «الشّريعة حاكمةٌ») ودُعاة «العَلْمانيّة المانِعة» (إرادة فرض «الوَضْع العالَميّ/الدُّنيويّ» إطارا مانِعًا عنوانه «القانون الوضعيّ حاكِمٌ»). ففي الوقت الذي يُصوَّر فيه "الإسلامانيُّون" باعتبارهم يَصدُرون حصرا عن "فِكْرَى" تقول بأنّ «الإسلام هو الحلّ» رافعين شعار «إسلاميّةٌ إنْ شاء الله!» (شعارٌ يُفهم منه، ضمنيّا، أنّ الأمر يَرجع لله في نَصْر دينه وعباده)، يُقدَّم خُصومُهم من "العَلْمانيِّين" بأنّهم يُدافعون بامتياز عن مشروع يُوصف بأنّه "حَداثيٌّ" وغرضُه أن تكون «علمانيّة إنْ شاء الله!» (لا يَخفى أنّه شعار يُشير إلى أنّ "العَلْمانيّ" مُسلِمٌ يُؤمن بأنّ الأمر، على كل حال، يَرجع لله). تُرى، هل لا بديل في سَماء المعقول عن هذا النزاع "الفِكْرَوِيّ" الذي يَتخارَج فيه ذانِك الطرفان كأنّ المطلوب لا يَتحقّق إلا ب"التّسلُّط" تَدْيينًا جامِعًا أو تَدْنيَةً مانِعةً؟
لِنُسلِّمْ، أوّلا، بأنّ المُشكلةَ قائمةٌ بالأساس في "التّسلُّط" سواء أكان باسم "الدِّين" أمْ باسم "الدُّنيا". ويَتمثّل هذا "التّسلُّط" في 0عتبار أنّ كونَ الناس في حالةِ "قُصورٍ" طبيعيّ وَ/أوْ 0جتماعيّ - أيْ غير قادرين، لأسباب طبيعيّة وَ/أوْ 0جتماعيّة، على معرفةِ ما يَصلُح لهم وكيف ينبغي القيام بتدبير أُمورهم- يُوجب إكراهَهم ب"السُّلطان" (الماديّ وَ/أوْ الروحيّ) على 0تِّباع ما يُقرِّره السادةُ من «أُولي الأمر» (سواء أكانوا أربابًا يَملِكون الجاه والحَسَب أمْ أحبارًا يَستأثرون بالعلم والحكمة).
ومُمارَسةُ "التّسلُّط"، بذلك المعنى، هي فرض "الوِصاية" على النّاس رِعايةً أو دِعايةً. وبالتالي، فالمُشكلة إنّما هي إرادةُ إقامةِ أو إدامةِ "الاستبداد" بتدبير «الشؤون العامّة» حفظا لمَصالح معلومة وبدعوى أنّ عامّة الناس (أو الشعب) ليس لهم من "الرُّشْد" ما يَكفُل لهم أن يتشاركوا تعاوُنًا وتداوُلًا في ذلك "التَّدْبير" بصفتهم، في الواقع، هُمُ الأدرى بمَصالحهم والأقدر على العمل عليها بمُقتضى أنّهم قد كُلِّفوا بها "مَسؤوليّةً" ومُطالَبُون بإتيانها "معقوليّةً".
وليس يَخفى أنّ الذين يرون أنّ "الحلّ" قائمٌ سَلفًا فيما يَعدُّونه هُمْ "الصّواب" (سواء أأعطوه صفة المبدأ الدِّينيّ أمْ الدُّنيويّ) إنّما يَطلُبون "التّسلُّط" على عامّة الناس، وذلك حتّى لو كانوا يَحرِصُون على الظهور بمظهر "الصلاح" و"الفلاح" أو يرفعون لواء "الحريّة" و"العقل". إذْ أنّ بعضَهم يَعمل على "تَسْيِيد" فهمه ل"الدِّين" كأصلٍ نهائيّ، ويَميل بعضُهم الآخر إلى "تَسْييد" ما يُدركه من "الدُّنيا" كمعيار للفصل ؛ وهُما تسييدانِ يَؤُولان إلى "إطلاقِ" ما حقُّه أن "يُنَسَّب" باعتباره يَظلّ مشروطا لكونه لا يَتحقّق إلا بالنِّسبة إلى أسبابٍ وظُروفٍ مُحدَّدةٍ تاريخيّا و0جتماعيّا.
وإذَا تبيَّن أنّ تعاطيَ "التَّسْييد" يَتجاوز ضرورةَ "التَّنْسيب"، فإنّه يَثبُت أنّ أصحابَ «الإسلامانيّة الجامِعة» ودُعاةَ «العَلْمانيّة المانِعة» يَشتركون جميعا في إرادة "التّسلُّط" باسم ما يَرونه "الأصل" أو "المعيار" بعيدًا عن مُقتضياتِ "الرُّشد" المُفترَض لدى غيرهم مِن عامّة النّاس الذين يُراد لهم أن يَبقوا تحت "وصايةِ" أربابٍ من دون الله، أربابٍ يَعتقدون إمّا أنّهم "الوُسطاء" وإمّا أنّهم "الفُضلاء".
ومن ثَمّ، فإنّ الميلَ إلى "التَّسْييد" لا يَنْفكّ عن "التّسلُّط" خصوصا أنّه "تسييدٌ" يُؤتَى من موقعِ مَنْ لا يُدرِك أنّ "الرُّشْد" لا يَتحقّق ذاتيّا إلا بقدر ما تُوفَّر شُروطُه الموضوعيّة على المُستوى البنيويّ والمُؤسَّسيّ، أيْ أنّ ما يُراد من "سيادةٍ" للدِّين أو الدُّنيا ليس "مُعطًى" مُعَدًّا وتامًّا بين أيدي الذين يَدَّعُونه، وإنّما هو "بِناءٌ" رهينٌ دائما بسيرورةٍ كاملةٍ يَحسُن أن تُسمّى ب"التَّرْشيد"، وهي السيرورة التي من شأنها أن تُحقِّق عُموميّا وعمليّا كل مُقوِّمات "الرُّشْد" بما هو التّمكُّن من الِانفكاك عن كل "وصايةٍ" والانخراط في العمل 0جتهادًا ومُجاهَدةً، أيْ في "الرّاشديّة" تَعقُّلًا تحاوُريًّا وتَخلُّقًا تعارُفيًّا.
ليس الأمر، إذًا، كما يَظنُّه من يرى أنّ "الحلّ" شعارٌ يُرفَع تظاهُرًا ومُزايَدةً إمّا في 0تِّجاه 0دِّعاء الاستناد إلى "الإسلام" بما هو «الدِّين الخاتم» تنزيلا وتشريعا، وإمّا في 0تِّجاه 0دِّعاء الاعتماد على "الحداثة" بما هي «إعمال العقل» تنويرا وَضْعانيّا وتحريرا دَهْرانيًّا. ولعلّ ما يبدو من تعارُض بين هذين الادِّعائين يَنْكشف زيفُه إذَا ثَبَت أنّ أوّلَهما لا يَنفرد ب"النَّقْل" وأنّ ثانيهما لا يَختصّ ب"العقل" كما يحلو ل«أنصاف الدُّهاة» لَوْكُه بِلا مَلل ولا تبيُّن. ذلك بأنّ السبيل إلى 0متلاك «النَّقْل المحفوظ» لا يكون إلا ب"العقل" قَصْدًا وتقريبًا، كما أنّ "العقل" لا يَستوي تمييزًا وحُكْمًا إلا كما يُؤسِّسه «النَّقل المَوْصُول» في كل مَجال تداوُليّ خاص. وإلّا، فإنّ تجريدَ "النَّقْل" من كل "معقوليّةٍ" يُوجب، بالأحرى، إثبات "لامعقوليّة" ما يُريد له "المُبْطِلون" أن يكون وحده "العقل" على الرغم من ثُبوت "المَنْقُوليّة" كصفةٍ مُلازِمة له سواء أَأُخِذَ في تكوُّنه التّداوُليّ والتاريخيّ أمْ أُخذ في 0رتهانه العمليّ والخُلُقيّ!
وهكذا، إذَا كانت دعوى "الإسلامانيِّين" تجعل "الرّاشديّة" موقوفةً حصرا على القول بأنّ «الإسلام هو الحلّ» تعميما بلا تقييد وتقليدا تسلُّفيًّا بلا تجديد، فإنّ دعوى "العَلْمانيِّين" تقوم على أنّه لا "راشديّة" إلّا بالقول بأنّ «العَلْمانيّة هي الحلّ» تعطيلا عُموميًّا للدِّين أو تحييدًا مُتحكِّما ل«القانون الوضعيّ» الذي ليس، في الواقع، سوى «دِينٍ مَدنيٍّ» باسم "الدّولة". والحال أنّ "الرّاشديّة" تجد قِوَامها في كون الانفكاك عن "الوصاية" لا يتمّ إلا 0جتهادًا عُموميّا مفتوحا وشُورَى تداوُليّة وإجماعًا توافُقيًّا. ولا سبيل إلى ذلك إلَّا من خلال العمل ب"التّرْشيد" إقرارا بأولويّة "الحق" و"العدل" (كتقريب توافُقيّ ل"الكُلّيّ")، ومَنْعًا للإكراه على "الدِّين" فتنةً به أو فيه، وإناطةً ل"الأفضليّة" بالتّقوى عملا صالِحا ومُعامَلةً بالحُسنى.
وكونُ "التَّرْشيد" المَدارَ الأساسيَّ ل"الراشديّة" هو ما يجعل "الرُّشْد" يُكتسَب عَمليّا في عَلاقته بمجموع الشروط الموضوعيّة المُقوِّمة لإعمال "العقل"، بحيث لا يكون سوى التحقُّق الموضوعيّ ل«العاقليّة الخُلُقيّة» في إطار قانونيّ ومُؤسَّسيّ يَتحدّد بصفته «الدّولة الرّاشدة» (دولة "الشرعيّة" المُحدَّدة قانونيّا ودُستوريّا كمجموعة من «التوافُقات المعقولة»، ودولة "المشروعيّة" المَبْنيّة عُموميّا ومُؤسسيّا كآليّات تَكفُل عمليّا التّداوُل التشارُكيّ لكل أعضاء "المجتمع" بصفتهم مُواطنين مُتساوين ومُتضامِنين).
ولذلك، فإنّ من يَكتفي برفع شعار «الإسلام شريعةٌ حاكمةٌ» أو «حقوق الإنسان مبادىءُ كونيّةٌ» يَغفُل عن أنّ واقع التّفاوُت والتّنازُع لا يَرتفع بمجرد 0ستنكاره تظلُّمًا أو 0ستعظامه مَظلوميّةً، بل يرتفع فقط بالعمل ب"التَّرْشيد" توفيرا لكل الأسباب والآليّات التي تُمكِّن النّاس فِعْليًّا من بُلوغ رُشدهم و0متلاكه كقُدرة على "الاجتهاد" 0ختيارا وتقريرا وعلى المُشارَكة تدبيرًا ومُراقَبةً. وعليه، ففي الوقت نفسه الذي نجد "الراشديّة" تُناهِض أن يكون "الدِّين" في تعارُض جوهريّ مع "العقل"، فإنّها تذهب إلى أنّ العمل ب"التّرشيد" يكون فيما وراء "الشَّكْلانيّة" سواء أكانت باسم "الدِّين" أمْ باسم "العقل"، إذْ أنّ الرِّهان الحقيقيّ يَبقى أن يُؤسَّس "الرُّشْد" موضوعيّا وعَمَليّا على النحو الذي يجعل بِمُكْنةِ كل إنسان أن يَنْوجد ويَتصرَّف بصفته فاعلا "راشدا".
ولأنّ «الإسلام/الدِّين» ليس سوى العمل على إسلام الوجه لله وحده، فإنّه يُمثِّل السبيل إلى جعل التوجُّه الإنسانيّ يَنْفكّ عن مركزيّته بما هو «تأنُّس مُتألِّه» يُراد له أن يَتحدّد فقط ك"إنْسيّانيّة". فالإسلام، بخلاف ما يَراه "المُبْطِلُون"، لا يُلغي "الإنسانيّة" بتأكيده لوحدانيّة الله، وإنّما يُخلِّصها من 0نغلاقها الأنانيّ ويُبعدها عن الانحراف الشيطانيّ فيجعلها، بالتالي، «تأنُّسا ربانيّا» يكون التوجُّه فيه إلى الله وحده بما يُحقِّق «الرُّشْد الإنسانيّ» بعيدا عن غوائل «التسيُّد المُتألِّه» وآفات «التّسيُّب المُتشيطن». وهذا ما يجعل «الإسلام/الدِّين» عماد "الراشديّة" من حيث إنّه يُؤكِّد أنّ الإنسان قد خُلق في أحسن تقويم وفُضِّل على أكثر العالَمين بأن أُوتيَ رُشدَه إكرامًا فحُمِّل الأمانةَ 0ستخلافًا في الأرض و0ستُؤْمن على كل ما أُوتي إنعامًا و0بتلاءً. ولهذا كان «الإسلامُ» دينا يَأمُر ب"العدل" و"الإحسان" بالقدر نفسه الذي جَعل أمر الناس شُورى بينهم ولم يُنط "الأكرميّة" إلا بالتقوى عملا صالحا ومُعامَلةً بالحُسنى.
وحُقَّ لدِينٍ هذا شأنُه أن يكون رسالةَ تنويرٍ وتحريرٍ، رسالة بأبعاد عالَميّة لا يُنكرها إلا جاحد ولا يَستخفّ بها إلا من أُشرِب في قلبه أنّ "الراشديّة" لا تكون إلا تنويرا وَضْعانيّا وتحريرا دَهْرانيّا. وأنّى لمن كان هذا حالَه أن يَتبيّن أنّ «الإسلام/الدِّين» لا يَقُوم إلا بما هو "راشديّة" تُؤسِّس "التنوير" تعقُّلا تحاوُريًّا وتَطلُب "التحرير" تخلُّقا تعارُفيًّا.
ومن أجل ذلك، فإنّ السعيَ إلى تعطيل "الراشديّة" بالمجتمعات الإسلاميّة يَأتي في الواقع من "الإسلامانيّة" و"العَلْمانيّة" على السواء حيث نُلاحظ كيف أنّ الدّعوة باسم "الإسلام" أو باسم «حقوق الإنسان» لم تَمنع فئاتٍ مِمّن يَتبنّونها ويَعملون لها من الوُقوف إلى جانب "الاستبداد" دفاعا عنه أو حمايةً لمَصالح مُرتبطة ببقائه. وبالتالي، فما كُلّ ما يبدو شعارا جامِعًا يَجدُر أنّ يُؤخَذ به مَأخذ الجدِّ، وإنّما لا بُد من التمييز بين "الراشديّة" في قيامها على «مَشروعيّة العقل العُموميّ» تشارُكًا وتداوُلًا، وبين "الجاهليّة" في 0ستنادها إلى «مشروعيّة العقل الفَرْدانيّ» كتحكُّم للأهواء الشخصيّة وتحكيم للمَصالِح الفئويّة.
ليست هُناك، إذًا، مشروعيّة بمجرد 0دِّعاء حفظ «قيم التُّراث» أو بادِّعاء 0عتماد «قيم الحداثة»، وإنّما تكون بالانخراط الفعليّ في تأسيس "الراشديّة" بناءً مُستقلا و0ستكمالا مُتجدِّدا على الرغم من تعدُّد المصادر والموارد المعتمدة. ف"الأصالةُ" ليست في 0تِّباع تقاليد الماضي، ولا "المُعاصرَة" مقصورةً على النّسج وَفْق منوال المُحدَثين، بل "الأصالةُ" بُلُوغ الغاية في البِناء بمُقتضى «شُروط الحاضر» في 0ستقلالٍ عمّا أثّلَه القُدامى وراكَمَه المُعاصرون على السواء. وبهذا المعنى تصير "الراشديّة" مُتضمِّنةً لرُوح "الأصالة" و"المُعاصَرة" من دون 0فتراض التّعارُض بينهما أو 0دِّعاء المُواءَمة بينهما كامتياز، لأنّ مُقتضَى "الراشديّة" أن يُتحقّق أصالةً بالاستقلال بالنِّسبة إلى الماضي والحاضر كليهما تمكُّنًا من أسرار عطاءاتهما و0قتدارًا على مُضاهاتها إنجازًا وإحكامًا.
وبِما أنّ "الراشديّةَ" لا تقوم بالأساس إلا لتجاوُز "التسلُّط"، فإنّ تحقُّقَها لا يكون تملُّكا أو تسيُّدا كما يَظُنّ الذين لا يَتصوّرُون "التّحرُّر" إلا بأن يَمتلِك المرءُ أمرَ نفسه وزمامَ العالَم فيصير سيِّدا عليهما. ولو كانت "الراشديّة" لا تأتي في النهاية إلا بهذا، لكانت مجرد إعادة إنتاج للمُشكلة الأصليّة في صورة تبدو معقولةً بهذا القدر أو ذاك. لكنّ "الراشديّة" في عملها ب"الترشيد" تُمثِّل نُزوعا إلى "الاكتمال"، مِمّا يجعلها لا تنفصل عن "التّزكِّي" بما هو السعيُ إلى تخليص النفس من كُل الأهواء والدّوافع التي تدور حول "الأنا" وتُوقف العمل على العاجلة دون الآخرة. وبالتالي، فإذَا كان "الإسلامانيُّ" يُريد التفرُّدَ بالتوجيه حاكميّةً، وكان "العَلْمانيُّ" يَطلُب "التّدبير" كسيادةٍ للأكثريّة، فإنّهما كليهما لا يَستطيعان العمل ب"الحياد" (الأوّل يَقصُر "الصلاح" في جماعته، والآخر لا يرى "الكفاءة" إلا في حزبه المُتغلِّب) ؛ مِمّا يجعل "الراشديّةَ"، في عملها ب"التّرشيد" تزكِّيًا، تَصير إعمالا لأسبابِ وآليّات "التحييد" تعقُّلا وتخلُّقا.
إنّ الحاجةَ لَتَدْعُو، إذًا، إلى تأسيس العمل ب"التّرشيد" 0نفكاكًا عن "التّسلُّط" سواء أكان في 0تِّجاه «إسلامانيّةٍ جامِعةٍ» أمْ في 0تِّجاه «عَلْمانيّةٍ مانِعةٍ». وإنّها ل"راشديّة" إنْ شاء الله على الرّغم من أُنوف الذين يُريدونها عِوَجًا تقليدا لأشياء من الماضي أو الحاضر ووُقوفًا منهم عند مجرد التّظاهُر بالتميُّز لثُبوت عجزهم عن العمل ب"التَّرْشيد" بما هو طلب الصواب والصلاح وَفْق مُقتضيات "المعقوليّة" و"المسؤوليّة" التي لا 0متياز للإنسان الرّاشد إلا بها. وبهذا المعنى، فهي "راشديّة" إنْ شاء اللّهُ إيمانًا بأمره سبحانه ورجاءً لنَصره الموعود دائما لعباده الذين يَعملون صالحا وهُمْ مُؤمنون.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.