مباراتان وديتان للمنتخب المغربي لأقل من 17 سنة أمام نظيره السينغالي يومي 9 و 12 أكتوبر في دكار    المفتشية العامة للأمن الوطني تفتح بحثا دقيقا في أعمال وسلوكيات مشوبة بعدم الشرعية منسوبة لاثنين من موظفي شرطة    البطولة: الجيش الملكي يلتحق بركب المقدمة بانتصاره على أولمبيك آسفي    ماكرون يعين حكومة جديدة على خلفية خطر إسقاطها من برلمان منقسم واستمرار أزمة مستفحلة    صحافي مغربي في أسطول الصمود: اعتدي علينا جسديا في "إسرائ.يل" وسمعت إهانات (فيديو)    المغرب والأردن يوقعان على اتفاقيتين في مجال التعاون القضائي والقانوني    الدورة ال16 لمعرض الفرس بالجديدة استقطبت حوالي 150 ألف زائر        لليوم التاسع.. شباب "جيل زد" يتظاهرون في الدار البيضاء مطالبين بإقالة الحكومة    حراك "جيل زد" لا يهدد الملكية بل يقوّيها    في الذكرى الثانية ل "طوفان الأقصى".. مسيرة حاشدة في الرباط تجدد التضامن الشعبي مع فلسطين وتدين الإبادة والتطبيع    "مديرية الأمن" تعلن فتح تحقيق عاجل في فيديو تعنيف مواطن من قبل شرطيين    مقتل الطالب عبد الصمد أوبلا في أحداث القليعة يثير حزن واستياء سكان قريته    اافيدرالية المغربية لجمعيات كراء السيارات تناقش تطور نشاط وكالات الكراء وآفاق التنمية المستدامة    مهاجر يعبر إلى سبتة المحتلة بواسطة مظلة هوائية    الضرائب تخضع أربع شركات أجنبية لمراجعة بعد تلاعب ب"أثمان التحويل"    وهبي: الهزيمة أمام المكسيك "درس"    مسيرة وطنية حاشدة بالرباط تجدد التضامن المغربي مع غزة وإنهاء الحرب    عاصفة قوية تضرب أوروبا تتسبب في انقطاع الكهرباء وإلغاء رحلات جوية    "أوبك +" تضيف 137 ألف برميل يومياً    متابعة 84 شخصًا في طنجة بتهم التخريب على هامش احتجاجات "جيل زد"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    صيباري يواصل التألق ويسجل للمباراة الرابعة تواليا مع آيندهوفن    شوكي: عزيز أخنوش.. إنصاف إرادة صادقة    الوفد الإسرائيلي المفاوض يتوجه إلى مصر ليل الأحد ومحادثات غزة تبدأ الاثنين    حادث سيدي قاسم تنهي حياة تسعة أشخاص من أبناء الحسيمة            سربة عبد الغني بنخدة جهة بني ملال – خنيفرة تُتوج بجائزة الملك محمد السادس للتبوريدة    ناشطو "أسطول الصمود" يشكون معاملتهم "كالحيوانات" من طرف إسرائيل    إسبانيا تمنع مظاهرات حاشدة مساندة لفلسطين وتستخدم العنف لتفريقها    إحباط تهريب 33 كيلوغراما من الكوكايين الخام بميناء طنجة المتوسط قادمة من أمريكا الجنوبية    أمن أكادير يوقف متورطين في تخريب سيارات بتيكيوين بعد خلاف مع حارس ليلي    ارتفاع قيمة "البتكوين" لمستوى قياسي    الفيفا تصادق على تغيير جنسية احتارين لتمثيل المغرب    الفخامة المصرية على الأراضي المغربية.. «صن رايز» تستعد لافتتاح فندق جديد    المديرية العامة تصنع الحدث في معرض الفرس برواقها المديري وعروض شرطة الخيالة (ربورطاج)    الجامعة السنوية لحزب "الكتاب" توجه انتقادات لاذعة إلى تدبير الحكومة    محمد الريفي يعود بديو مع "أورتيجا"                القضاء الأمريكي يحكم بحبس نجم الهيب هوب ديدي    لجان التحكيم بالمهرجان الوطني للفيلم    العلماء يدرسون "التطبيب الذاتي" عند الحيوانات    أين اختفى هؤلاء "المؤثرون" في خضمّ الأحداث الشبابية المتسارعة بالمغرب؟    إلَى جِيل Z/ زِيدْ أُهْدِي هَذا القَصِيدْ !    الكاتب عبد اللطيف اللعبي يوجّه رسالة تضامن إلى شباب الاحتجاجات في المغرب        فقدان حاسة الشم بعد التعافي من كورونا قد يستمر مدى الحياة (دراسة أمريكية)    علماء يجددون توصيتهم بالتقليل من اللحوم في النظام الغذائي    حمية الفواكه والخضراوات والمكسرات "قد تمنع" ملايين الوفيات عالميا    وزارة الأوقاف تخصص خطبة الجمعة المقبلة: عدم القيام بالمسؤوليات على وجهها الصحيح يٌلقي بالنفس والغير في التهلكة    عندما يتحول القانون رقم 272 إلى سيفٍ مُسلَّط على رقاب المرضى المزمنين        بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار مُدْبِرًا .. اليسَارُ مُقْبِلاَ
نشر في هسبريس يوم 23 - 11 - 2012

لم يعد ممكنا دسَّ الوجه في الرمال إسوة بالنعامة. فالرمال ملتهبة، والرماح نواهل. ولم يعد ممكنا التقنع والتبرقع، فما القناع إلا وجه آخر لا يخفي قدر ما يكشف ويعبر عن قبح وذمامة، وصورة تبعث على الضحك إلى حد القهقهة.
لم يعد ممكنا ولا مستحبا، ولا لائقا، ولا مقبولا، أن نعلق إخفاقنا وهزيمتنا وأخطاءنا على مِشْجَب الغير، أو على سَهْو وقع، أو خطإ تافه ارتكب في غفلة منا، وشرود اعترانا غِبَّ دوخة أو دوار أحسسناه، وأخذ مِنَا كل مأخذ، فإذا الأمور تسير وحدها، من دوننا، وإذا الأشياء تنمو و تكبر ونحن غياب.
هل تساءلنا لحظة- عما أعمانا عن رؤية ما يقع ويحدث تحت أعيننا؟ وعما أذهلنا عن مسير ومسار حيوات وعلائق، انشبكت وتلولبت حتى تحقق الذي تحقق، وتبلور الذي تبلور؟
ما اللعنة التي لازمت خطانا، وصاقبت رؤانا حتى صار ما صار حيث انكمشنا، ونكصنا وتراجعنا؟
هل ساءلنا أنفسنا عما أتته أيدينا، وَقَارَفَتْهُ معاملاتنا وعقم تواصلنا وارتباطنا بالناس، بالطبقة التحتية من الناس، أولئك الذين لا ظل لهم ولا سقف، ولا مهاد، ولا سرير، ولا رغيف ساخن، وماء عذب، وشاي منعنع لذيذ؟ أولئك الذين لا يراهنون على شيء لأنهم يحلمون باللاشيء، الذين فقدوا طعم الحياة، وَتَجَوَّفَ –في نَاظِرِهِمْ- حاضرهم، وتغبش مستقبلهم، وأي مستقبل لمن لا يملك أرضا ولا سماء، لمن لا يملك شجرا ولا ثمرا ولا قدرا؟
نتحدث عن "الريع" بأشكاله وأصنافه وألوانه، وعن "الثروة الوطنية" "الهلامية"، وعن الصناديق السوداء، وعن القلة الفاسدة المُتْرفة الغارقة حتى الأذنين في بحبوحة العيش، وعن الكثرة الكاثرة الشريفة المعدمة الغائصة حتى فروة الرأس في الشظف والطوى، وأين منها، وأينَ هي من العيش الكفاف؟ ففي الكفاف وسط واعتدال واكتفاء، وجوع مخلوط بالشبع، وشبع موهوم يبلسم الروح، وينعش الحشاشة، ويروي الجمرة الملتهبة، ويداوي الجراح المثخنة. كثرة تملك الصلابة والقوة والشبوبية، وتملك القناعة، الكنز الذي لا يفنى كما قيل، وقلة تَتَنَعَّمُ حد التخمة، وتَتَفَرْدَسُ.
فماذا كنا نملك نحن الأنتلجنسيا الخاسرة، السياسية والثقافية على حد سواء؟
ماذا صنعت لها الأحزاب السياسية الوطنية الديمقراطية؟ وإذا كانت صنعت فماذا صنعت؟ ولِمَ أحجمت عن ذلك الصنيع اليوم؟ لماذا تأخرت وتقاعست، و تركت الحبل على الغارب، ودخلت في دعة ومصالحة وتهدئة وسلم اجتماعي مع الحكم والنظام. وهي تعرف تمام المعرفة، أن الطغمة المحسوبة على النظام، جماعة شرسة، ذات أنياب زرق، وسموم. مجموعة من حيتان القرش المفترسة الدامية، ورهط من الكواسج السغبة والعطشى القاتلة؟
كأنما كنا مخدرين، مُسَرْنَمين، أو محشورين –وقد جف نَبْع الحياة في دمانا وأنفاسنا- في مدافن ديماسية، دونها طبقات، تمنع من وصول أصواتنا وابتهالنا إلى الأسماع. لكن هل لجرح بِمَيْتٍ إيلام؟ وما المعجزة التي بطوقها ومقدورها بعث الدبيب في الأرض الموات، وفي الجسد الهامد، والوقت اليابس الراكد؟
وها قد أفقنا بعد فوات وموات، بعد أن تغير الحال، وتحول الزمام، نحن من فَرَّطَ في المِقْوَدِ والسياسة والكياسة والإنخراط في الشأن العام، ومعمعان الواقع الرغام. أهملنا التنظيم والحضور، وتكالبنا على المغانم والموائد والأنفال، وتأرجحنا بين فوق وتحت، بين أمام ووراء، فضاع الطريق، وتغبش الضوء إليه، و"تلخبط" الخيط الدال عليه.
لقد ظل فكر اليسار وقيم اليسار، وفلسفته الإنسانية التي تمجد الآدمية، مطلق الآدمية بغض النظر عن لونها وجنسها ولغتها، ودينها، وجغرافيتها، مجرد كلام، وسجل حافل بالهَذْرِ طُوِّلَتْ خُطَبُهُ على رأي الشاعر. كلام جميل، فاتن، رفيع يملأ السلال فاكهة وأَبًّا وَقَضْبًا وثمارا من كل نوع. يلون الحاضر بالورد ويضع الشمس في يد العمال، والسنابل الثقال في يد الفلاحين، وينمق الغد بالتزاويق والوعود الجذلى المتراقصة الهفهافة التي تنسج للفقراء والمعدمين، خياما من طوبى الحرير، وطوبى المساواة والتساوي والسواسية بين الناس حيث لا فاضل ولا مفضول، لا رئيس ولا مرؤوس، لا حاكم ولا محكوم، لا طاغوت ولا خنوع.
غد فردوسي عَدَنِي يموج خضرة ويتهادى زرقة، ويترقرق مَنًّا وعسلا وسلوى.
غير أن منطق الأشياء، وتقسيم العمل، واستشراء الطبقية والتنائي المادي بين الفئات والشرائح المجتمعية، واستفحال قيم السوق، وانتشار الوفرة، وطغيان الاستهلاك، وتطوير ذئبية الإنسان، عملت جميعها –متشابكة متعالقة ومتقاطعة- على سحب البساط من الفكر الطوباوي، من الفكر اليساري الذي اسْتكان –مطمئنا- إلى أَمْثَلَةِ الفكر إياه، والإنحباس في ديباجته، وعوالمه الرمزية من دون إعمال الحيوية فيه، ولا الدينامية المفترضة في حامليه بعد صدْمه بصخرة الواقع في سعي لتحكيكه، وامتحان صلابته من رخاوته، وقوته وتماسكه حيال ضعفه وهشاشته.
كان فكرا مُنْبَتًّا عن الواقع ولا يزال، في كثير من متونه وصياغاته على رغم جمالية هذه المتون، وروعة تلك الصياغات طالما أنها تحمل في أعطافها الحلم بتقليص إن لم يكن بمحو التفاوت الطبقي، وتعميم خيرات وعوائد الثروة الوطنية على أبناء الوطن الواحد.
إذ لا معنى لِوَطَنَيْن اثنيْن ضمن وطن واحد، ولا معنى لمواطنين منقسمين بين مالكين ومحتاجين، إن لم يكن معنى الظلم والاستغلال، وموت القيم، واندحار المحبة، واستئثار رهط قليل بالأكل والشرب والمرعى الباذخ الفائض، مقابل جيش عرمرم محروم من الحد الأدنى للعيش الكريم، العيش الكفاف.
هل كان على حملة الفكر الماركسي – اللّينيني، والمؤمنين بمبادئه وفلسفته ويُوطُوبْيَاهُ، تليين خطاباتهم، وقَصْقَصَة أجنحة الفكر الاشتراكي ليوائم المحلية، ويساوق الخصوصية، ويندمج في الوطنية، ويتشرب، بمقدار، أبعاد ثقافة ودين البلد المُسْتَقْبِلِ، البلد الذي استوطن وَوَطَّنَ هذا النوع من الفكر، في أفق نجاحه وإنجاحه، والسير به نحو تركيز رايته، وإرساء تطبيقاته، وبلورتها على مستوى المعاش اليومي للجماهير الشعبية، ما يعني تقليص الفوارق، وتوزيع ثروات البلاد عليها في عملية إعادة للآدمية، وإعادة للكرامة الإنسانية، وتثبيت لمقوم العدل الاجتماعي.
لا نشك –لحظة- في أن هذا الرأي كان الشاغل الأساسي لليساريين، وديدنهم في المؤتمرات، وبعد ذلك –في الحملات التي تصاحب عادة الاستحقاقات الانتخابية.
وسمعنا كثيرا، عن انحرافات يسارية معينة، وقرأنا عن مرض الطفولة اليساري، أي اليسار المتطرف، و اليسار الإصلاحي "المنبطح".
وهي التوصيفات التي أطلقها من اعتبر نفسه حامل قيم اليسار الحقيقي، اليسار غير المهادن للنظام، الذي لا يَني يندد باختياراته في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وبسجل طويل من الخدمات الاجتماعية المتدهورة.
كانت العقبة الكؤود في وجه هذا الفكر الحالم –ولا تزال-: هي الطبقة المالكة وهي طبقة وارثة تاريخيا- بالمكر، والخديعة، واستغلال الفرص، وركوب الدين مطية إلى الإستحواذ والاستنقاذ، والتغلغل في عقول مُصْمَتَة نَغَلَتْ فيها الأمية، وعشش فيها الفقر والجهل. وكان الحاجز الأصلب والأشرس باتجاه الفكر الاشتراكي الديمقراطي، هو النظام ممثلا في الدولة بكل مؤسساتها القمعية بوصفها حامي الحرامي الذي هو الطبقة الأوليغارشية المستأسدة، وبوصفها راعي الرعية العريضة منزوعة الأنياب والأظافر، ومنزوعة الحاضر والمستقبل، بوصفها كذلك بحسبان التعاقد الاجتماعي، وبحسبان واجب وحقوق الطرفين التي هي قسمة ضيزى لعامة الشعب، بينما هي حصة أسد وثورين للطبقة النافذة المتنفذة، ذراع الدولة وامتدادها، ويدها العليا. وليس ذلك بمستغرب ما دام أن مصالحهما الاقتصادية و المالية والسياسية، تَنْصَهِران وتتماهيان.
لم يكن الذين يرغبون ويتحينون الفرص المواتية لارتفاع الشعب، إلى مستوى إدراك قوته الكامنة، وقدراته الدفينة الرهيبة، وجبروته المستكن والمضمر، قد تفطنوا إلى ضرورة تغيير اللغة والخطاب، وقراءة الواقع الفائر، قراءة عارفة محايثة ومتحولة. فلم يكن من سبيل إلى هذا الإدراك سوى الإنخراط في اليسار، والإندراج ضمن فكرة ووعده وأفقه.
ولئن كانت بعض المحطات التاريخية قد شهدت –فعلا- تصريفا لهذه القوة الشعبية المترامية والمتراحبة، في كثير من البلدان في الشرق والغرب، فإن محطات أخرى و لعلها أن تكون كثيرة ومتراكمة، شهدت –بالمقابل- انتكاسه لهذه القوة، كطليعة للنضال الجماهيري، وتراجعا لفكر انْتِلِجَنْسَيَاهُ، وانكفاء لنمائه، وصيرورته وسط الطبقة الاجتماعية المستهدفة، صاحبة المصلحة في التغيير كما يتردد في أدبيات اليسار.
وتفسير ذلك –في نظرنا- يكمن في عائق الأمية، بما هو عائق ثقافي- حضاري، يُعَقِّدُ عملية الاستيعاب، ومهمة التفاعل مع فكر ورؤية معرفية – سياسية، بُنِيَتْ له، وخُلِقَتْ من أجله. ومن ثمة، تأتى للدين المسخر – فرصة الانقضاض على الفريسة السهلة المستكينة.
ولا يساورنا أدنى شك، في أن الدين كمجلى روحي، ومقوم خلقي وأخلاقي، وحافز تربوي وتهذيبي، ومهماز إيماني تعلقي، وفكر إلهي علوي، يجد مرتعه الخصب في تربة الأمية، ودار الأميين، لأن خطابه يخترق بالمباشر الحس والوجدان و"العقل" باعتباره رسالة سماوية لَدُنية، أي باعتباره كلام الله في البدء والختام. رسالة سماوية قدسية في مواجهة رسالة بشرية مدنسة، عَنَيْتُ : الفكر اليساري أو أي فكر آخر ليبيراليا كان أو يمينيا ديمقراطيا. وإذا كان العلم يتكيء على التقليب والشك و السؤال، فإن الدين يتكيء على التسليم والإذعان ، ومبدأ الإيمان، بما يملأ الوجدان طمأنينة وراحة بال، وهدوءا وسكينة روحية غامرة. الدين سماوي، والفكر الإنساني أرضي، وشتان بين الأرض والسماء، شتان بين الذكر والأنثى، من منطلق أسطوري يُذَكِّرُ السماء، ويؤنث الأرض. أقول من منطلق أسطوري موغل في القدم ينحدر وينحل في ليل الحضارات البدئية العتيقة. ولعل اللاتينية- ومنها الفرنسية أبقت على ذكورية السماء : Le Ciel، وأنثوية الأرض: La Terre، ارتكانا إلى هذه الثنائية الأسطورية القديمة، وارتكانا إلى سر اللغة بما هي وعاء التاريخ والفكر والحضارة.
وعليه، أفلا يدلل وصول الإسلام السياسي الأصولي، إلى سدة الحكم في مصر وتونس و المغرب، ومن قبل في إيران والسودان و"الصومال"، وهو واصل بحجية الأمية الضاربة في الوطن العربي- إلى باقي الأقطار العربية، سوريا أولاها بالعطف على سابقيها. أفلا يدلل ذلك على بعض مما قلناه، وبسطنا الكلام فيه بالواضح لا بالمرموز.
ومع أن الإسلام السياسي الحاكم الآن في هذه الأقطار، وقد تُوصِلُهُ "الثورات" أو صناديق الإقتراع، إلى مبتغاه وبغيته في تَسَنُّم ذرى السلطة والسلطان في أقطار أخرى، حقق حلمه في بسط "ظل الله" على الأرض، وجناح حاكميته في تقديرهم، فإنه أبان –في مباشرته الحكم من خلال تدبير شؤون الناس، عن ارتباك، وضعف وأخطاء وعدم دراية بتسيير دواليب المؤسسات اقتصاديا وماليا وسياسيا وإداريا. ومحاولة منه لمداراة ضعفه، وإخفاء ارتباكه وتهافته، وجهله الفاضح بتسيير وتدبير أمر وشأن البلاد والعباد، طَفِقَ يعلق خيبته على أعدائه بدعوى أنهم يقاومون الإسلام، ويضعون العصي في العجلات، ويفتنون ويثيرون الشغب هنا وهناك. لم يسمهم –مباشرة- وأنى له ذلك لأنهم أشباح. لكنه تفنن في توصيفهم خالعا عليهم أسماء الحيوان والجان من تماسيح وعفاريت في المغرب، وأفاعي في مصر.
والحق أقول إنه لن ينجح اليسار في مسعاه للوصول إلى رضا شعبي واحتفاء بأفكاره لبرمجتها على مستوى التقرير والقرار، ولوضعها رهْنَ استراتيجية الأجرأة، والإعمال والتفعيل، ما لم يتخذ له وضعا آخر مختلفا، وضعا يتسم بالمرونة، وعرض فلسفته ورؤاه و مطامحه ، ومبتغياته، على الواقع، على اليومي، على عقلية شعبية سائدة، على حقيقة طُفُوِّ الأمية، وتحكمها، واستحكامها في السواد الأعظم من الناس، بِوَجَهَيْها البَشِعَيْن: الأمية الأبجدية، والأمية الثقافية.
أما كيفيات ذلك، فلعلها أن تعمل على احتضان واقع وأفق هذه الذهنية الجماهيرية، من حيث الإستناد –إسوة بالإسلاميين السياسيين- إلى المرجعية الإسلامية لكن في منجزها ومنتوجها العقلاني التنويري. والأمثلة من الكثرة بحيث يعسر إيرادها في هذا المقال. إذ أن وفرة من الممارسات الإسلامية التاريخية في مجالات الفكر والفلسفة وعلم الكلام، وبعض التوجهات المذهبية الدينية تتيح إمكان الإغتراف، و الإتكاء، والحجية، عند تحليل الواقع المعيش وتفكيك بناه، وتفنيذ "تُرَّهَات" وخُزَعْبلات بعض القوى الفقهية الغيبية المأجورة التي تؤول النص تأويلا خادما لمقعدها، تأبيدا لصولتها ونفوذها، واستغلالا لبساطة السواد من الشعب، و"نيته" الطيبة والحسنة.
فالمرء/ المناضل المثقف اليساري الاشتراكي والليبرالي والعلماني، لا يعدم الأجوبة المنطقية والعقلانية التي أجابت، وبِمُكْنَتِها الإجابة –حاليا- على مجموعة من الأسئلة الشائكة والحارقة المرتبطة بواقع ومعيش ويوميات الإنسان. وهي أجوبة وَلَّدَتْها سياقات اجتماعية مُعينة، ولحظات تاريخية محددة، لكنها متجوهرة لأنها تحمل من العمق ونور العقل والاجتهاد الإنساني، ما يجعلها تتخطى وقتها وَزَمَكَانها.
ليس في الأمر تلفيق –البتة-، ما فيه ينشد مقترحا تغذية الفكر اليساري التحرري التحريري بما هو عصارة اجتهادات الإنسان- ، بالفكر الديني التنويري الذي عرفته حقب تاريخية. وهو الفكر الذي نهل من النص القرآني، والحديث النبوي المسند الصحيح، وباقي الممارسات الفكرية العظيمة الوافدة على حاضرة المسلمين: بغداد آنئذ، والأندلس على الضفة الأخرى الغربية من جغرافية الخلافة – الأصل. حيث تلاقى الفكران: الديني السجالي المشذب من زعانف الغيبيات والتُّرَّهات، المسنود بالفكر الاجتهادي والإطلاع والترجمة و التضايف، والفلسفي- الأدبي الضيف الذي حَلَّ أهلا وَوَطِيء سهلا سرعان ما أينع وأزهر وأعطى في تعانق ثقافي قيمي إنساني رفيع المستوى، وتصاهر سلالي بديع بَوْتَقَهُ الإسلام، وأطلقه في العالمين.
فَإذَا، لا معدى لنا من الإغتراف والإتكاء والعودة إلى الفكر الإسلامي في بُعْدَيْه: الديني والفلسفي لرفد وتطعيم المدونة الماركسية- اللينينية بعد إخضاعها للمقومات البانية للأمة، والخصوصيات الثقافية بمفهومها الأنتروبولوجي، إذا شئنا مزاحمة التيار الإسلامي والسياسي وإزاحته، وسحب هيمنته، وتحرير الجموع العطشى إلى الغد الأفضل، والمستقبل الديمقراطي الذي لا يفاضل بين المواطنين أيًّا كانت ديانتهم أو لاَ أَدْرِيَتُهم، وأيا كان جنسهم، ومحتدهم، ومنحدرهم الطبقي. وعندما تنزاح الأمية، وتستأصل بفضل العلم والمعرفة، والتثقيف، وهمة "الدولة"، والنسيج الجمعياتي بالبلاد، يمكن آنذاك، الإطمئنان إلى الغد "اللاطبقي"، أو تخفيفا من غلواء الإيديولوجيا ، نقول: الغد الكريم حيث التفاوت بين الفئات قليل، والهوة بينها واضحة الضفتين.
فهل نقول –على غرار علاء الأسواني الذي يختم مقالاته باللازمة الحق البديعة – الديمقراطية هي الحل : التعليم هو الحل.
إشارات :
1)-الفقر مع الأمية، سبب رئيس في فوز الإسلاميين في البلدان العربية التي شهدت هبات جماهيرية، والوصول إلى السلطة السياسية.
فالجماهير الغاضبة، وهي تدلي بأصواتها لفائدة اللِّحى والتكبير، إنما تعطى تلك الأصوات –في اعتقادها ودخيلة نفسها- لله، من منطلق أن الحزب الإسلامي المسيس، لسان الله ووسِيطُه، وشَفِيعُهم إلى الحق سبحانه. ففي عرفهم –أو كما لُقِّنُوا وشُحِنُوا- الله الحاكم والإسلاميون خَدمه وممثّلوهُ القيمون على شرْعِه وأوامره ونواهيه، ضدّ الطغاة، والشياطين والأبالسة و"المرتدين". هذا عامِلٌ حاسم في نجاح الحركة الإسلامية المسيسة، زِدْ عليه عامل التراخي اليساري، والغيبوبة التنظيمية، والبطِر الإيديولوجي الصّفيق، والبُوليمِيكْ الصالوني والمقهوي، والإنعزالية البرجية، والابتعاد عن انتظارات الجماهير وبغيتَها وتطلعاتها. وإلاَّ، فلا صدقية لمن يقول بأن "الإسلام السياسي" هو الحل في الحال والمآل. لن يكون الحل إسلاميا أبدا، لإنبهام تصور الدولة ومؤسساتها ودواليبها لديه. فالحركة الإسلامية بعيدة عن الفكر المؤسسي والاقتصادي والتدبيري بما هو آليات تُسْعِفُ ذوي التكوين العلمي والوضعي، إذا الأمر يتعلق بالفقه الدستوري والقوانين الوضعية، وعلوم الإدارة والسياسة لا علوم الدين. ومن ثمَّ، فالمستقبل –حتما- للديمقراطيين يساريين كانوا أو ليبراليين، اشتراكيين أو علمانيين.
2-الإستعانة بالفكر الديني المتنور في حوارنا مع الناس، في استقطابنا المشروع لهم، لجهة تصوراتنا في بناء الدولة والمجتمع، وكيفيات تدبير شؤونهم، ومعالجة قضاياهم، والإفادة المثلى الديمقراطية من خيرات البلاد. ولن نعدم –في هذا الصدد- حزمة أحاديث نبوية نيرة ومستنيرة، وآراء ومواقف لبعض الصحابة الأجلاء الأفذاذ كأبي ذر الغفاري، والمتن الكلامي من خلال المعتزلة، و"العلماء المقتولين"، والفلاسفة الإسلاميين جميعا، لأن المواطن العادي، الذي حرم من نعمة التعليم والعلم، يستجيب، على الفور، لكل دعوة مُزَنَّرة بالفكر الديني، والشاهد السلفي: (السلفي هنا، بمعنى السلف الصالح).
فلنصارع مُمْتَهِني الدين المُغْرضِين الذين يَقْصُرُونَه على الجنة والنار، والثواب والعقاب. لنصارعهم بشبيه سلاحهم، ونفس عتادهم. ولْنَتَصَدَّ لتأويلاتهم، وتَأَوُّلاَتهم السياسوية، بِتَأَوُّلاتنا العلمية المعرفية والمقاصدية المدموغة بالواقعية والملموسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.