كان المصريون على موعد مع الذكرى الثانية لثورة الفل . وكان من المفروض في نظام أفرزته الثورة رغم كل الملابسات التي رافقت العمليات الانتخابية والتي تجاوز عنها المصريون أملا في الانتقال الديمقراطي الحقيقي والقطع مع حالة الفوضى واللاأمن أن يوزع الأزهار ويرسم الابتسامة على محيا الغلابة الذين فقدوا كل شيء إلا حبهم لمصر التي جعلوها "أم الدنيا" . لم يكن الإخوان المسلمون في أرض الكنانة يحلمون بأكثر من العضوية في الحكومة ، فآلت إليهم الحكومة والرئاسة ووضعوا أيدهم على الدولة في عملية أطلق عليها المصريون "التكويش" . كل "الإنجازات" التي حققها الإخوان بالركوب على الثورة فكوشوا على كل السلطات والصلاحيات ولم يتركوا للغلابة الذين أشعلوا الثورة وحموها وحافظوا على جذوتها من نصيب في كعكة السلطان ولا حتى في فتاة موائده . أظهر الإخوان تعطشهم للسلطة التي حُرموا منها سبعين سنة ، فزادت شراستهم ضد الغلابة الذين خاضوا الثورة من أجل الكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية . لم يدرك المصريون أن الإخوان بصدد السيطرة على كل مفاصل الدولة وأخونة نُظمها ومؤسساتها إلا بعد الإعلان الدستور الذي جعل من مرسي "فرعونا" في قدسية آرائه وقراراته ، فبات حاكما مطلقا لا يعصى له أمر ولا يُرفض له قرار ، ثم تلاه سلق الدستور الذي جاء به الرئيس لمصادرة كل المكتسبات التي انتزعها الشعب على مدى التاريخ الحديث. بل أدرك الغلابة أن الرئيس الذي انتخبوه ليس سوى ظل للمرشد اذي هو الحاكم الفعلي لمصر الثورة . وجاءت أشعار الشاعر أحمد فؤاد نجم أصدق تعبير عن الوضع إياه كالتالي : اجهل شعوب الارض اخترت ليه طرطور ارجوز فى ايد مرشده شايل لقب دكتور من يوم ما مسك الحكم مقطوعه ميه ونور قالوا فى ايده الخير ولو منه برده يغور ارجوز بلدنا اتكشف وعرفنا ايه مخبيه ممنوع عليه الكلام اصل الكلام مش ليه والكلمة كلمة جماعه ومرشده ممليه ومهما قال الغلط وراه جماعه تحميه إزاء وضعية الاستحواذ وإستراتيجية الأخونة ، خرج المصريون الغلابة لخوض ثورتهم الثانية حيث عادوا لنطقه الصفر وبدأوا عدّ الجمعات كما فعلوا مع نظام مبارك قبل سنتين ، "جمعة الخلاص" ثم "جمعة الرحيل" ؛ وقد تتوالى المليونات لحين الاستجابة لمطالب المتظاهرين والقوى السياسية المشَكّلة لجبهة الإنقاذ ، وعلى رأس تلك المطالب : تشكيل حكومة وحدة وطنية، إقالة النائب العام، وإعادة صياغة المواد الخلافية في الدستور، وتشكيل لجنة قضائية للتحقيق في سقوط الشهداء والمصابين في الأحداث الأخيرة ومحاسبة المسئولين. مطالب معقولة لا تمس شرعية الرئيس ولا تهدد كيان الدولة ؛ لكن الرئيس مرسي ، كما مبارك وغيره من رؤساء العرب الذين أسقطتهم الثورة ، لم يستوعب دقة المرحلة التي تمر منها البلاد ويعتقد أن الدستور المسلوق وجماعة الإخوان سيُفشلان كل المليونيات ، وأن "مصر بتقول لكل متآمر يا جبل ما يهزك ريح" . بل تحول الثوار إلى متآمرين وبلطجية وفلول ، وهم الذين حموا الثورة وواجهوا فلول النظام وبلطجيته يوم كان الإخوان يفاوضون الرئيس المخلوع . على خلفية هذه الصورة التي رسمها مرسي وإخوانه للمتظاهرين ، سيتخذ سلسلة من الإجراءات أعادت مصر إلى تلك الأجواء التي سادت فيها المواجهة مع نظام مبارك : فكان إعلان حالة الطوارئ ، وقتل المتظاهرين ، وتجييش البلطجية ، والمبالغة في استعمال القوة لترهيب المواطنين حتى إن وزير الثقافة اضطر لتقديم استقالته احتجاجا على العنف الغير مبرر الذي تستعمله الأجهزة الأمنية ضد المواطنين ، وخاصة واقعة سحل المواطن المصري الغلبان حمادة صابر وتعذيبه ، وهي الواقعة التي شاهدها الملايين من المصريين والعرب وغيرهم في فيديو جد مؤثر ، وأثبتتها المعاينة تحت إشراف النيابة وبأمر منها ، والتي كشفت أن حمادة المسحول مصاب بطلق ناري في القدم وجرح في قدميه وأنه تعرض للاعتداء على يد عدد من الأفراد الذين نزعوا ملابسه وسحلوه وتم نقله إلى مستشفى الشرطة بمدينة نصر. واقعة تبين أن لا شيء تغير في تعامل النظام وأجهزته الأمنية مع المواطنين . بل الفظيع في الواقعة هو استغلال حالة الفقر والضعف لابتزاز حمادة صابر وحمله على تغيير شهادة بتبرئة الأمن واتهام المتظاهرين . مصر ، إذن ، تعيش ثورتها من جديد لكن في ظروف أخطر من التي تفجرت فيها الثورة الأولى، حيث بات الرئيس متحصنا "بالشرعيات" الثلاثة : الانتخابية والدستورية والدينية. والشرعيات إياها هي التي هيأت المناخ لترويج خطاب التكفير والكراهية والتحريض على قتل المعارضين . أجواء أقر بخطورتها الدكتور أيمن علي، مستشار الرئيس لشؤون المصريين في الخارج حين أعرب في صفحته على "فيس بوك"، عن خشيته من أن يكون «الخطاب المفعم بالكراهية هو تهيئة الأجواء لمشهد يستهدف تصفية السياسيين من جميع التوجهات». بل حذر بشدة «أخشى أن يكون ما يقع الآن إنما هو تهيئة الأجواء لمشهد أكثر عنفًا يستهدف تصفية السياسيين من جميع التوجهات» . وصدق الشيخ مظهر شاهين خطيب مسجد عمر مكرم حين تحسر في خطبة "جمعة الرحيل" (يا للحسرة عندما تصبح الثورية عمالة وحينما يصبح القصاص خيانة للشرعية" ، وحين صارح الإخوان والسلفيين بقلة الأصل (من العجب أن من بين هؤلاء الذين يكفرون الناس أنفسهم هم من كانوا يحرمون الخروج عن الحاكم، وبعد ثورة عادوا يقولون إن الخروج عن الحاكم يستوجب القتل، وأصبح الخلاف السياسى عن هؤلاء ردة عن الدين) إن المخرج السليم لمصر من حالة الاحتقان السياسي التي تخنقها يتمثل في التحرر من وهم "الشرعية الانتخابية" والانخراط في حوار وطني جاد ومسئول تشارك فيه كل القوى السياسية والمدنية لرسم خارطة طريق آمن يحفظ لمصر أمنها ويضمن انتقالها الديمقراطية السليم . أما التعنت الرئاسي والتطرف الديني فلن يقودا إلا إلى خراب مصر .