طنجة.. مكبرات صوت وDJ في الهواء الطلق تثيران استياء المصلين وسكان كورنيش مالاباطا    "السيبة" في أصيلة.. فوضى في الشوارع وغياب للسلطات    تشلسي يصعق باريس سان جيرمان ويتوج بلقب مونديال الأندية الموسع بثلاثية تاريخية    الفنانة الهولندية من أصول ناظورية "نوميديا" تتوَّج بلقب Stars on Stage    كرة القدم.. "فيفا" يكشف عن قرارات جديدة بخصوص صحة وفترات راحة اللاعبين واللاعبات    من عاصمة سوس.. حزب "الحمامة" يطلق دينامية شبابية جديدة للتواصل مع الشباب وتقريبهم من العمل السياسي    "كان" السيدات .. تأهل نيجيريا والجزائر    رفاق حكيمي يسقطون بثلاثية أمام تشيلسي في نهائي كأس العالم للأندية    بناني والحاجي والمرنيسي يحسمون لقب "بطل المغرب" في الفروسية    اليمين المتطرف في بلدة إسبانية يستغل حادثة للعنف لربط الهجرة بالجريمة    وفاة رئيس نيجيريا السابق محمد بخاري    صاروخ يقتل أطفالا يجلبون الماء بغزة    أطروحة دكتوراه تكشف محدودية تفاعل المواطنين مع الخدمات الرقمية بالمغرب: فقط 40% راضون    الوزيرة بنعلي تعلن الشروع رسميا في إنجاز مشروع أنبوب الغاز المغرب- نيجيريا        دونالد ترامب يحضر مباراة نهائي كأس العالم للأندية لكرة القدم    منظمة الصحة العالمية تحذر: تلوث الهواء يهدد أدمغة الأطفال ويعيق نموهم    نشرة إنذارية: موجة حر من الثلاثاء إلى الجمعة بعدد من مناطق المغرب    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    عودة العيطة إلى مسرح محمد الخامس.. حجيب نجم النسخة الثالثة    لطيفة تطرح الدفعة الأولى من ألبوم "قلبي ارتاح".. أول ألبوم عربي بتقنية "Dolby Atmos"    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يتفاعل مع فاجعة 'خزان أولاد يوسف'    الكوكب يراهن على خبرة الطاوسي في رحلة التحدي الكبير    تيزنيت: للسنة الثانية على التوالي..نسبة النجاح بالبكالوريا تُلامس 80%    إصابة أربعة أشخاص في سقوط أرجوحة بمرتيل    « البسطيلة بالدجاج» تحصد المركز الثالث في مسابقة «تحدي طهاة السفارات» بواشنطن    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية مونتينيغرو بمناسبة احتفال بلاده بعيدها الوطني    متحدية الحصار الإسرائيلي.. سفينة "حنظلة" تنطلق من إيطاليا باتجاه غزة    "فيفا" يُنصف حكيمي: أفضل مدافع في مونديال الأندية بأرقام دفاعية وهجومية مذهلة    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يأسف لتطورات اعتصام قصبة تادلة ويحذر من نشر مشاهد صادمة دون ضوابط    الشاعرة نبيلة بيادي تجمع بتطوان الأدباء بالقراء في برنامج "ضوء على القصيدة"    "نوستالجيا 2025": مسرح يحفر في الذاكرة... ويستشرف الغد    بملتقى فكري مفتوح حول «السؤال الثقافي: التحديات والرهانات»، بالمقر المركزي للحزب بالرباط .. الاتحاد الاشتراكي يفتح نقاشاً ثقافياً استعداداً لمؤتمره الثاني عشر    دلالات خفقان القلب بعد تناول المشروبات المثلجة        "عدالة" تنبه إلى التدهور المقلق للوضع الحقوقي بالمغرب وتدعو لإصلاح يضمن الحقوق والحريات    انتهاك صارخ لقدسية الأقصى.. مستوطنون يقتحمون قبة الصخرة ويؤدون طقوسًا تلمودية في ذكرى خراب الهيكل    مراكش تنادي إفريقيا: إصلاح التقاعد لضمان كرامة الأجيال المقبلة    سبعيني ينهي حياته شنقًا بجماعة بني بوشيبت    ألمانيا تدعو إلى إجراء مفاوضات عملية وسريعة لحل النزاع التجاري مع الولايات المتحدة    الرابطة المغربية للشباب والطلبة تختتم مخيم "الحق في الماء" بمركب ليكسوس بالعرائش    "بوحمرون" يسلب حياة طفل في مدينة ليفربول    يديعوت أحرونوت: موجة هجرة إسرائيلية غير رسمية نحو المغرب في خضم الحرب    أقدم مكتبة في دولة المجر تكافح "غزو الخنافس"    صحافي أمريكي: الملياردير جيفري إبستين صاحب فضيحة شبكة الدعارة بالقاصرات كان يعمل لصالح إسرائيل    صدور كتاب عن قبيلة "إبقوين" الريفية يفكك الأساطير المؤسسة لقضية "القرصنة" عند الريفيين    تقرير: المغرب ضمن 3 دول أطلقت سياسات جديدة لدعم الزراعة الشمسية خلال 2024    أسعار الذهب تتجاوز 3350 دولارا للأوقية في ظل التوترات التجارية العالمية    تقرير دولي يضع المغرب في مرتبة متأخرة من حيث جودة الحياة        بورصة البيضاء .. أداء أسبوعي إيجابي    نحو طب دقيق للتوحد .. اكتشاف أنماط جينية مختلفة يغيّر مسار العلاج    علماء ينجحون في تطوير دواء يؤخر ظهور السكري من النوع الأول لعدة سنوات    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما حاول المفكر سبيلا زرع واحة الحداثة في قلب صحراء القفر العربي
نشر في هسبريس يوم 05 - 08 - 2021

"في الحب ليس كل ما كان ظاهرا هو الحقيقي، الشيء الوحيد الذي يعتبر حقيقيا هو الشعور المستقر في أعماق النفس" .. عن مسرحية "سَمك عَسير الهضم" للغواتيمالي مانويل جاليش
قد يكون الموت أحد أوجه الغروب فقط.. باب ضروري للغياب يسمح للذاكرة بأن تستعيد عافيتها ووهجها، وللحياة بأن تزخر بدماء جديدة، إذ إن المبدعين العميقين لا يموتون خبط عشواء، أو كما قال جورج بطل مسرحية "نيكراسوف": "الحياة ما هي إلا حالة فزع في مسرح يشتعل نارا، كل امرئ يبحث عن باب الخروج ولا أحد يجده، وكل الناس تتخبط في كل الناس... أنا صاحب الأمر في مولدي وموتي. وكما أني كنت صنيع أعمالي، فأنا أيضا قاتل نفسي.. لنقفز، أيها الرفاق، إن الفارق الوحيد بين الرجل والحيوان هو أن الرجل يستطيع اقتراف قتل نفسه؛ أما الحيوان فلا".. هل رحل محمد سبيلا عنا عنوة؟ هل اقترف "قتل نفسه" بالمعنى السارتري، ليكتشف أثره ووشمه فينا نحن الذين صادقناه وأحبابنا؟ لعبة أخرى ربما للبقاء حيا، وإن كان لا يرزق سوى فكره وحبه وشغبه الدؤوب على قضايا أرّقت وما زالت الفكر المغربي والعربي؟
بين الحضور والغياب
ظل محمد سبيلا دائب الحضور، حتى في غيابه الفيزيقي لعلّة أو أخرى، يحرص على أن يترك دليلا يقودنا إليه: فكرة، نكتة، بسمة ساخرة، تعليق عابر يعمق وشمه كالجمر في الكلمات والأشياء.. إلا الآن، فقد حزم حقائبه ولم يشر إلينا بمنديل الوداع الأخير.. أتذكر يوما كنا في ندوة حول "المغرب إلى أين؟"، نظمها منتدى الفكر الذي كان يرأسه سبيلا وكنت عضوا في مكتبه، أشرفت على تسييرها الراحلة نجية ملاك، أن متدخلا متحمسا أخذ الكلمة، ومما جاء في كلامه استشهاده بقولة لسبيلا، أردفها المتدخل ب"قولة للمرحوم سبيلا"، الذي كان مشاركا في الندوة.. انفجرت القاعة بالضحك، فعلقت لزميلي الذي كان يجاورني، وأعتقد أنه كان الصديق عمر أوشن: "الأخ لم يرتكب أي خطأ؛ فالكتابة صنو الموت، وكل كتابة هي قتل متعمد للذات أو لشخوص عبروا حياتنا".. وعلي اليوم أن أقنع ابنته إيناس بأن محمدا سبيلا لم يمت، وبأنه حي بيننا؛ فالمبدعون، كما قال جان كوكتو، لا يمكن أن نصدق أنهم يموتون، إذ كما قال شيلر: "المنذور لأن يحيى أبدا في القصائد لا بد له في الوجود أن يبيد".
وجع الرحيل..
ها قد رحل عنا سبيلا إلى حيث لم يعد من هناك أحد ليحدثنا عن الطقس وألفة المكان وأهله، اختار توقيت غيابه في غفلة عمن أحبوه، رحل فيما يشبه الومض ونحن الذين كنا نسهر على تنظيم احتفاء بهيج يليق بمقام تكريمه، وبعد موافقته على سلسلة من اللقاءات عبر الأثير في برنامج "مدارات" كان اقترحها الزميل المبدع عبد الإله التهاني قبل نصف عام، كأنه ملك حاسة استباقية.. قبل أسبوع من رحيله، كنت في عطلة بالشمال، كان ذلك يوم سبت حين هاتفني ولم أجب، ولما طلبته مساء الأحد الموالي حين شغلت هاتفي.. لم يرد، لم أقلق فقد كانت تلك عاداتنا.. سألني صديقي من النمسا الكاتب حميد لشهب عن هاتف العزيز إلى قلب المرحوم سبيلا، المفكر عبد الإله بلقزيز، بطلب من ابنته إيناس على وجه الاستعجال، راودتني بعض الشكوك، وبعدها أتاني الخبر اليقين بأن الإمبراطور المعظم كوفيد 19، الذي سخرنا منه معا بسحر لا يضاهى.. قد أنهى شغبه.
تيقنت، الآن، أنه في الموت "الدور الأكثر تعاسة، ليس من نصيب الذي رحل وما عاد معنيا بشيء، إنما من نصيب الذي سيرى قدر الأشياء بعده"، يوم تشييع جنازته لم أستطع الحضور، ليس الخوف من الموت هو ما يؤرقني.. فلن نموت قبل الموت، وإنما حاولت أن أحتفظ للراحل بصورة الرجل القوي في ذاكرتي.. وكتبت بحرقة الملتاع: "حين وصلني نعيه ليلة أمس، تيقنت لو أن شيئا على الأرض كان منطقيا لما حدث شيء على الإطلاق، وأن الموت هو مشكل الأحياء دوما، وعلى حرمه الأستاذة سعيدة وابنته الهدية الربانية إيناس وزوجها خالد القادري وحفدته الذين كان أعز ألفة لهم، وباقي الأحبة... أن يعودوا إلى فيء ظلال وثمار شجرة الذكريات الضخمة التي ترك لهم، وأن يتآلفوا مع كل أشيائه الحميمة، فالموتى لهم حيل جميلة يصرون على تركها لفتنة ورثتهم.. أكبر من المال والثروات، لأن الثروة الوحيدة التي تركها الراحل محمد سبيلا هي حبه وفكره، وعلينا نحن أصدقاءه أن نعيد سرد أدق إشاراته وتفاصيل آخر لقاء لنا به ووشم الذكريات، وتأويل آخر ما نطق به، والاستسلام لوجع الفقد".
على درب البدايات
تعرفت على محمد سبيلا باكرا، في مدرجات كلية الآداب بالرباط.. كنت في نهاية عقدي الثاني، حين قادني صديقي الراحل أحمد العقاد الذي كان متخصصا في شعبة الفلسفة في منتصف الثمانينيات، إلى إحدى محاضرات مفكرنا، وبعدها هجرت الكثير من الدروس الثقيلة على نفسي في شعبة الآداب لأجدني في حضرة الأستاذين الكبيرين محمد عابد الجابري ومحمد سبيلا رحمة الله عليهما، وهو ما سيقودني إلى صداقة استثنائية مع المفكرين، كانت مع سبيلا أقوى بحكم تقاطعنا في مجالات العمل عن قرب، فقد ملتُ إلى الكتابة في جريدة "الزمن" التي كان الراحل سبيلا رئيس تحريرها، ومنذ 1996 سأصبح عضوا في هيئة تحريرها كمستشار، كانت الجريدة ملتقى أقلام وازنة: عبد الجبار السحيمي، محمد العربي المساري، محمد ضريف، فتيحة الطايب، حميد لشهب، عبد الرزاق المروري وآخرين... إذ نجح محمد سبيلا في استقطاب كتاب ومفكرين وأقلام وازنة ل"الزمن" التي كانت نصف شهرية.
لقد جمع بيننا الانبهار، أو بلغة سبيلا العشق المتبادل لما نكتبه، هو في مجال تخصصه الفكري الذي كان عملاقا لا يضاهى فيه، وأنا في كتاباتي الصحافية المطعمة بأسلوب أدبي وبرؤية (بين قوسين) "فكرية".. نشأت بيننا علاقة عشق لافتة، كان والراحل عبد الجبار السحيمي قارئين مغرمين بكتاباتي كما سجلتها رسائلهما إلي وكانا دوما يوجدان في خلفية ما أكتب، أستحضرهما باستمرار كقراء مفترضين.. ظلت ملاحظاته متسمة بطابع الصدق، سواء كانت سلبية أو إيجابية، واحترمت فيه قدرته على اتخاذ المسافة الضرورية اتجاه الأشياء والكلمات، وأتأسف كثيرا أني لم أنجح في تحويل كثير من التماعاته التي كانت تتخلل جلساتنا كل سبت بهرهورة أو بمنزله ذي الدفء المشع إلى مقالات أو إبداعات، في كل لقاء معه كنت أحس كما لو أنني بصحبة رائد يقودني إلى أراض قصية لم يطأها أحد قبلي أو سماوات بعيدة ببهاء لا يوصف أستطيع أن ألمس نجومها بيديّ مثل ثمار دانية القطوف.
القارئ الإمبراطوري
كنت ألقب الراحل سبيلا بالقارئ الإمبراطوري، إذ يذكرني دوما ببطل قصة حكاها المبدع أحمد بوزفور ذات ربيع بزاكورة، حول إمبراطور صيني طلب من فنان تشكيلي أن يرسم له جدارية تتضمن لوحة للطبيعة، قضى الرسام فترة طويلة وهو يخط جدارية القصر الإمبراطوري بطبيعة حية: أشجار وهضاب وواد يشق المراعي والمروج الخضراء وطيور تحلق في سماء زرقاء... بعد مدة طلب الإمبراطور إحضار الرسام على وجه السرعة، ركب الرعب الفنان وهو يقف بين يدي الإمبراطور وتساءل إن كان الإمبراطور لم يعجب برسمه؛ لكنه فوجئ به وهو يمدحه على جداريته المبهجة، فقط طلب منه إزالة الوادي من اللوحة لأنه يسمع هدير مائه ليلا وهو ما يجعله يفقد شهية النوم.. وسبيلا كانت لديه أذن إمبراطورية، قارئ ذكي يلتهم الكتب ومفتون بقراءة الروايات، التي كلما استعرت منه واحدة لقراءتها بتوصية منه، كنت أجدها وقد خطت بقلمه، حتى أصبحت أقرأ نصين، نص الرواية المطبوع ونص مواز يتشكل من تعليقات وانطباعات سبيلا المخطوطة بقلمه الأسود غالبا.
كان شديد الصمت، يحب الإصغاء جيدا لمحاوريه، وحتى حين تتطلع إلى ملامح وجهه، لن تستطيع اكتشاف أي سيماء على محياه دالة على الرضا أو الغضب، على الاتفاق أو الاختلاف، وحين يتكلم تجد صوته دافئا وهادئا، نبرته تبدأ خافتة ثم ترتفع تدريجيا دون أي تشويش في الانتقال من مقام صوتي إلى مقام آخر.. فوق هذا كان للراحل محمد سبيلا جانب عاطفي جميل في العلاقات مع الأصدقاء، وهو السؤال المستمر مع أي غياب، وفي أكثر من مرة، في لحظات الانتقالات الصعبة بين منبر وآخر، كنت أجد سبيلا رحمه الله، يبحث لي عن الحلول أو يقترح علي الاشتغال في هذا المنبر أو ذاك، وهذا الأمر أكبرته فيه حتى وإن لم أطاوع فكرته، عدا تعاوني مع مجلة "الشعب" الباريسية التي كان يديرها الأخ حسن السوسي.
المبهر المتوهج دوما
على الحداثة اليوم أن تلبس ثوب الحداد حزنا على أحد أعمدتها، وعلى الإيديولوجيا أن تبتهج لغياب من كشف تلاويناها وعرى عورتها في السياسة كما في الفكر والقول، وعلى التقليد أن يرقص طربا برحيل أحد ألد أعدائه الذي كان يكشف مخابئه حتى وإن تخفى في أزياء الحداثة..
محمد سبيلا كان أكبر من صديق وأعظم من أستاذ ومفكر، بحضوره الجليل تستعيد الأشياء وضوحها وبهاءها، وتنفض الكلمات عنها وطأة الاستعمال لتصبح مبهرة، مبهجة في فصاحتها وإبانتها الشفيفة؛ لأنه كان صائغا يزن كل شيء بميزان من ذهب.. كان صاحب أخلاقيات عالية يمج الخوض في النميمات الصغرى، وذاكرة متقدة تحفظ الصور والوقائع والأسماء.. لم أشعر يوما برفقته بتمزقات ووجع الشباك الفارغة للصياد، مثل نسيج من الأنغام المنسجمة، كان حديثه ذا هرمونية فائقة، ينساب بين خلجان اللغة بسلاسة يعز نظيرها، كنت وزميلي حميد لشهب نلقبه ب،"الجنرال" الذي لا يُرفض له أمر، ونمزح مع كل جملة يقولها: "حاضر مون جنرال"، وكان حقا جنرالا بزي فكري لا عسكري.. تلميحات هنا وإشارات هناك، بعد كل جلوس مع هذا النديم، كنت أحس بأنني مكتنز، أدخل حلقة اللقاء جاهلا وأخرج مثل حكيم، أسير ببطء كي لا يسقط أي شيء مما زخر به اللقاء من حمل وافر..
قبل حلول الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر، لا يمكن أن يمر شهر دون أن نلتقي، لا بد من أخذ "بركة الولي الصالح" ما استطعت إلى ذلك سبيلا.. ومع اشتداد وطأة الفيروس كنا نزداد قلقا على الراحل محمد سبيلا، نصر أنا وصديقي رشيد العلوي على أن نجلس في المقهى المحاذي لإقامته بأكدال بشارع عقبة، ثم نزوره لبضع دقائق.. نقف على مسافة أمان أمام منزله، يفتح الباب ويصر علينا بالدخول بطيبوبته وكرمه؛ لكننا نرفض.. حتى اعتدنا مثل هكذا لقاء، الذي كان يعيدني إلى ذكريات العشاق زمن الفرسان النبلاء وهم يقفون تحت شرفة من يحبون لتتناجى الأرواح دون أن تلتقي الأجساد.
كان ملهما حقيقيا للشلة القليلة التي ظلت محيطة به، شعلة من الأفكار والمواضيع والتلميحات..
مصباح ديوجينيس
يعتبر الراحل من المفكرين القلائل الذين اشتغلوا على مشروع فكري ضخم، كان مبتدأه ومنتهاه البحث عما أسماه بالشرط الحداثي؛ فقد انشغل الراحل بإشكالية الإيديولوجيا في زمن كانت تبدو السياسة هي المحور الأساسي للكينونة البشرية.. وبعدها بأسئلة الحداثة والتحديث واعتبرهما محددين لشرط الوجود الإنساني وتحديث وعينا بالتاريخ والوجود والعالم.. فالحداثة بالنسبة إليه لم تكن تعني أكثر من الانتساب إلى الزمن والإنصات إلى أسئلته. لذلك، لم يبق حبيس التنظيرات الفلسفية للحداثة وما بعد الحداثة، بل انطلق نحو مجال أرحب، بتوجيه البحث نحو إشكالات أعطاب الحداثة في الفكر والمجتمع، وخصص جزءا من وقته لثيمات الديمقراطية والسياسة وحقوق الإنسان والأخلاق وتفكيك الأماكن المعتمة التي يختبئ فيها التقليد الذي أصبح له ألف قناع، يتمدد بوجه حربائي في كافة أنشطتنا وسلوكنا، ولم يوقر وعيه النقدي ومهماز بحثه لا اليمين ولا اليسار، لا الأصولي ولا الحداثي، لا المجتمع ولا النخب التي تتحدث باسمه... إذ ظل سبيلا مناصرا للحقيقة التي اعتبر أنها ابنة زمانها، وليست ابنة أية سلطة. لذلك، فعمله الكبير لا يكمن فقط في مشروعه الفكري الذي كرس له اجتهاده حول الحداثة والإيديولوجيا وتقعيد أسس العلوم الإنسانية؛ بل في تشجيع البحث في التفاصيل التي يكمن فيها شيطان التقليد: المرأة، السياسة، اللغة، التقنية، حقوق الإنسان...
لم يتخذ الفلسفة كتخصص نظري، بل كتجربة في الحياة، بحيث تلمس وعيا نقديا حادا في الدردشة معه في أي موضوع، يفكك ما يختفي وراء الانطباعات العامة، يذهب بك عميقا نحو جذر "تلك الاستعارات التي نحيى بها"، بتعبير الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي..
بالإضافة إلى البعد الأخلاقي في علاقاته، فهو قليل الخوض في تلك النميمات الصغرى التي تجري بين المثقفين في الصالونات الخاصة عادة، إنه لا يستثير ذاكرته حول الأشخاص إلا إذا كانت للأمر دلالة في سياق الحديث أو في شرح فكرة، أو تفسير سلوك.. من ثم، ظل يواجه خصومه العاقلين بالمنطق، والسذج منهم بالصمت والابتسامة التي كانت تهزمهم..
تعرض سبيلا إلى الكثير من التهميش من طرف حماة التقليد في اليسار كما في اليمين، لدى مدعي الحداثة والتقدمية كما لدى حراس الظلام.. لذلك، تولد لديه وعي نقدي فيبري (نسبة إلى ماكس فيبر) لإدراك أن الشيطان يوجد في قلب السياسة، وأن الأخلاق مهما سمت همة الفاعل السياسي كانت تبدو مثل كلمة لبناء جملة لجلب المريدين وحشد الأتباع.. وفي معيشه اليومي، كان ميالا إلى مهج الحياة بغير إفراط؛ كأنه يردد صرخة "جاليليو" برتولد بريخت: "أقدّر متع الحواس، ولا أحتمل النفوس الضعيفة التي تحسب هذا نوعا من الضعف، إني أقرر أن الاستمتاع فعل كريم".. لقد ظل ميالا إلى الانتصار للحياة.
عدو التقليد أنّى اختفى
في مسار بحثه الطويل في القضايا الفكرية التي شغلت باله منذ أطروحته حول الإيديولوجيا، كان الراحل محمد سبيلا يشعر بأن له وظيفة أن يجر العرب من "قرونهم" من أسر التقليد إلى فضاء الحداثة، ليدركوا حجم التغيير الذي أصاب العالم والالتفات إلى بعد الزمن، عبر الانتقال من عالم الوهم: "قدسية التراث، قدرة التقليد على التجدد، عائق الأصالة والخصوصية، فتنة المقدس، أعطاب الحداثة الشكلية"... وكل أشكال المسوخ التي جعلت العرب خارج الشرط الحداثي الذي به يتحدد وجودهم الفاعل والمتفاعل مع التبدلات المصاحبة للزمن.. إلى عالم الحقيقة، ضرورة الولوج إلى الحداثة بعد التخلص من أوهامها، حيث يبدو العرب اليوم كما بطل مسرحية (الحياة حلم) للكاتب الإسباني كاليدرون دي لاباركا، وقد اختلطت الأمور عليهم حتى لم يعودوا يميزون بين عالم الوهم وعالم الحقيقة الذي ليس من معنى غير الانخراط في الحداثة والانتقال من الجبرية إلى الحرية.
لا ينسى الكثيرون الدور الكبير الذي لعبه محمد سبيلا في منشورات "الزمن" للراحل عبد الكبير العلوي الإسماعيلي؛ فالعديد من المؤلفين الجادين ما كانت لتنشر مؤلفاتهم الرصينة لولا وجود الراحل سبيلا. لقد كنت في قلب الدار وأعرف ما كان يقوم به من عمل جبار في البحث عن الأسماء الجادة والبحوث التي تناولت مواضيع وازنة حتى وإن بدت هامشية، كما لو كان يزرع نبتاته في حقول شاسعة، وسيفتقده الكثير من الباحثين والكتاب الذين كان سندا سريا لهم، كما ستفقد الثقافة الوطنية سبيلا الذي كان يحمل هذا الهاجس في دعم الحداثة ونشر التنوير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.