تضطلع الشرطة بمهام متعددة المستويات تتقاطع في مجملها في المحافظة على النظام العام ومحاربة الجريمة بكل تمظهراتها، في إطار تدخلات "وقائية" وأخرى "قضائية" تضع الشرطيين في صلب إكراهات مهنية وقانونية وقضائية وواقعية، لا تخلو من المخاطر والإكراهات وأحيانا من الاختلالات والتجاوزات المهنية، بشكل يجعلهم طيلة مسارهم المهني، عرضة للمساءلة الإدارية والقضائية في حالة الوقوع في دائرة "الاختلال" و"التجاوز" بقصد أو بدونه، وفي هذا الإطار، نشير إلى الحديث المروري المميت الذي وقع بمدينة الدارالبيضاء أواخر شهر أبريل الماضي، لما أقدم شرطي دراجي تابع لشرطة المرور، على مطاردة دراجة نارية على مثنها ثلاثة أشخاص منهم فتاتان، انتهت بوفاة السائق في حينه، فيما أصيبت مرافقتاه بجروح بليغة، وذلك بناء على المعطيات الأولية التي كشفت عنها المديرية العامة للأمن الوطني في بلاغ صادر عنها حول الموضوع. الدراجي المعني بفعل المطاردة، تم وضعه رهن تدبير الحراسة النظرية، لضرورات البحث الذي أسند للمصلحة الولائية للشرطة القضائية تحت إشراف النيابة العامة، حتى يتسنى الإلمام بكافة الظروف التي أحاطت بالحادث الأليم، وكذا تحديد التجاوزات والاختلالات المحتملة المنسوبة للمعني بالأمر، وبالموازاة مع ذلك، ارتفعت الأصوات المنددة بما أقدم عليه الشرطي، متهمة إياه بتسببه في مقتل الضحية بعد الإقدام على عملية دفعه بقدمه، مطالبة بتطبيق القانون وتوقيع الجزاء المناسب في حقه، وفي المقابل فقد أدانت أصوات أخرى تهور الضحية ولجوءه إلى خيار الفرار لمخالفته مقتضيات قانون السير بدل الامتثال للشرطي الذي أمره بالتوقف وتحمل مسؤوليته أمام القانون، موضحة أن الشرطي لم يقم إلا بما هو مسند إليه من مهام وتدخلات مرتبطة بمراقبة السير والجولان وإيقاف المخالفين للقانون، وفي غياب المعطيات التي أبانت عنها الأبحاث والتحريات المنجزة من قبل المصلحة الولائية للشرطة القضائية بولاية أمن الدارالبيضاء، واحتراما لسلطة القضاء الذي تبقى له سلطة تحديد درجة التجاوزات المحتملة المنسوبة للشرطي "المطارد" بناء على نتائج الأبحاث القضائية المنجزة، لا يمكن إلا أن نترك الشق القضائي جانبا، لكن في المقابل يمكن إبداء الملاحظات التالية في ضوء ما تم تداوله إعلاميا من معطيات وتصريحات وفيديوهات: – الواقعة المرورية تسائل في مجملها "المطاردة البوليسية في "تشريع الأمن الوطني"، وفي هذا الإطار هل ما أقدم عليه الشرطي الدراجي من مطاردة يستند إلى خلفيات قانونية وضوابط مهنية؟ إذا كانت المطاردة لها إطار قانوني كما يرى البعض، فما قام به الشرطي هو إجراء قانوني لا محيد عنه لفرض احترام قانون السير والجولان، أما إذا كانت المطاردة ممنوعة في الممارسة المهنية الشرطية كما يرى البعض الآخر، فهذا يسائل الكثير من الشرطيين الذين ما زالوا يتعقبون مخالفي قانون السير والمجرمين في الشوارع والطرقات بكل ما لهذا الفعل من مخاطر محتملة على الشرطيين أنفسهم وعلى المخالفين والخارجين على القانون. – بالرجوع إلى مقتضيات قانون المسطرة الجنائية ومدونة السير، لم يتم التوقف عند أية إشارة تبيح عمليات المطاردة في الشارع العام، لكن بالمقابل، لا شك أن هناك دوريات ومذكرات تنظيمية مديرية تؤطر وتقنن تدخلات الشرطة في الشارع العام بما يضمن تطبيق القانون وعدم الوقوع في خانة الاختلالات والتجاوزات المهنية، وفي هذا الصدد، إذا كان التشريع الداخلي يبيح للشرطيين القيام بعمليات المطاردة لتعقب الجناة والخارجين عن القانون في إطار حماية حياة الأشخاص وسلامة الممتلكات، فنرى أن هذه المطاردات البوليسية لا بد أن تكون خاضعة لسلطة القانون ومؤطرة بعدة قواعد مهنية وضوابط تنظيمية لاعتبارين اثنين: أولهما حماية حياة الشرطيين وتجنيبهم خطر الوقوع في أي اختلالات أو تجاوزات مهنية وقانونية محتملة، وثانيهما: حماية الخارجين عن القانون أنفسهم بما في ذلك ضمان سلامة مستعملي الطريق. – المطاردات البوليسية معمول بها عبر العالم، لأنها تبقى إحدى آليات ضبط الجناة وكبح جماح الخارجين عن سلطة القانون، ونستبعد عملية المنع الكلي لهذه المطاردات على مستوى المؤسسة الأمنية، لما قد يترتب عن ذلك من عبث وانفلات وانحراف في الشارع العام، بدليل أن المؤسسة مكنت بعض الفرق الأمنية من دراجات نارية عالية السرعة ونخص بالذكر شرطة المرور وفرق الدراجين "الصقور" الذين نجحوا في كبح جماح المنحرفين ومتعاطي السرقات ومروجي المخدرات، وفي هذا الإطار قد يتساءل البعض كيف يمكن محاربة الجريمة في الشارع العام بدون فعل المطاردة؟ وما الجدوى من منح الشرطيين دراجات نارية ما لم يتم تسخيرها في تعقب الجناة والخارجين عن القانون؟ وبقدر ما نزكي هذا الطرح، بقدر ما نرى أن فعل المطاردة لا بد أن يكون محاطا بضوابط صارمة حتى لا يتحول إلى شطط أو تجاوزات أو يكون مهددا لحياة الشرطيين والأشخاص المطاردين على حد سواء. – "المطاردة" وبغض النظر عن "قانونيتها" أو "منعها" أو "السماح بها بضوابط صارمة"، فلا بد من التمييز من الناحية القانونية والمهنية بين عمل ضباط الشرطة القضائية الذين تتأطر مهامهم وتدخلاتهم بمقتضيات قانون المسطرة الجنائية، وأعمال هؤلاء تخضع لمراقبة الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف عندما تكون صادرة عنهم بهذه الصفة، وبين باقي فئات الشرطة التي تضطلع بمهام ذات طابع وقائي ومنها أعوان شرطة المرور الذين يضطلعون بمهام السهر على تطبيق مقتضيات قانون السير وتحرير مخالفات بشأن المخالفين، وأي خروج عن هذا الإطار، قد يدخل في خانة "التجاوز" و"الاختلال"، لأن مهمة شرطي المرور تتحدد في تنظيم حركة السير والجولان والسهر على تطبيق القانون، وليس في التربص بمستعملي الطريق للإيقاع بهم أو تعقبهم أو مطاردتهم في الشوارع والطرقات لما لهذه الممارسات من مخاطر محتملة، أما عمليات التثبت من الجرائم وتعقب الجناة، وما يرتبط بها من إجراءات وتدابير قانونية، فهي تدخل ضمن مهام واختصاصات ضباط الشرطة القضائية. – شرطي المرور/المطارد كان بإمكانه حسب تصور البعض، تفادي سلك طريق المأساة، لو تقيد بمقتضيات قانون السير الذي يؤطر عمله، والتزم بالضوابط والتعليمات الإدارية ذات الصلة، بالاكتفاء بتسجيل رقم لوحة الدراجة النارية وضبط مواصفاتها من حيث النوع واللون، وإشعار قاعة المواصلات بالموضوع، لاتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة، لكن ماذا إذا كانت الدراجة لا تحمل أي ترقيم؟ هل يغض الشرطي الطرف عنها ويباشر عمله الاعتيادي؟ أم أنه يتحمل واجبه المهني ويتعقب صاحب الدراجة الذي لاذا بالفرار رفقة فتاتين، بكل ما يحمله هذا الفرار من شكوك؟ – الضحية لم يمتثل بالوقوف، لأنه تواجد في وضعية مخالفة للقانون لعدم ارتدائه الخوذة ولكونه يقل مثن الدراجة شخصين آخرين في انتهاك واضح للقانون، وربما يكون مقترفا لمخالفات مرورية أخرى، وفراره هو تطاول على القانون وإهانة للشرطة وتقليل من شأنها، وكان يفترض أن يتحمل مسؤوليته أمام القانون بما أنه مخالف لمقتضيات قانون السير والجولان، لكنه اختار طريق الفرار، مما قاده إلى الموت والهلاك في لحظة عبث وتهور. – مجموعة من التصريحات أفادت بأن الشرطي/الدراجي طارد الضحية و"عمد إلى دفعه بقدمه" مما تسبب في سقوطه وهلاكه في الحين، وهذه الادعاءات لا يمكن إثباتها ولا نفيها، لأن عملية تحديد التجاوزات والاختلالات المحتملة المنسوبة إلى الشرطي، لا بد أن تمر عبر أبحاث وتحريات قضائية معمقة، تتأسس أولا على تفريغ المحتويات الرقمية التي توفرها كاميرات المراقبة المثبتة على مستوى المحلات والمساكن حيث وقع الحادث المروري، ويتأسس ثانيا على القيام بأبحاث ميدانية بما فيها تلقي تصريحات شهود العيان، غير ذلك، فالمتهم يبقى بريئا إلى حين توفر كافة المعطيات القضائية التي قد تخرجه من دائرة الاتهام والإدانة أو تدخله إليها إذا ما ثبت فعلا أنه أقدم على "دفع" الضحية بقدمه، وفي هذا الصدد وبما أن عملية إثبات "الدفع" من عدمه تبقى رهينة بما وثقته الكاميرات المثبتة في الشارع العام أو في المساكن المتواجدة بمكان الحادث، يمكن من الآن ومن باب الاقتراح، تزويد الشرطيين بكاميرات تتيح عملية توثيق ما يقدمون عليه من تدخلات وممارسات بالشارع العام، يمكن الرجوع إليها أو "الاستنجاد" بها في حالة وقوع أي حادث يستدعي فتح بحث إداري أو قضائي، وكاميرات من هذا القبيل، من شأنها حماية الشرطي في حالة وقوع نزاع ما أو حادث ما، كما من شأنها الإسهام في تجويد الأداء المهني والقطع مع بعض الممارسات غير المسؤولة الماسة بشرف المهنة وصورتها. – إذا كان الحادث وقع بسبب مطاردة الشرطي للضحية في الشارع العام، فنرى أنه في إطار تحديد المسؤوليات، أن المسؤولية مشتركة بين الشرطي الذي اختار خيار "المطاردة" بدل اختيار تدابير قانونية أخرى، والضحية الذي اخترق القانون ولم يمتثل بالوقوف واختار طريق التهور والعبث والهلاك، وهي أيضا مسؤولية السلطات المعنية بتدبير الشأن المحلي، بناء على الصور التي تم تداولها إعلاميا والتي تظهر حفرة عبارة عن "بالوعة" أو "قادوس" بدون غطاء حديدي، "ربما" تكون عجلت بسقوط الضحايا من الدراجة، ومسؤولية أسر لم تتحمل مسؤولية "الرقابة" على أبنائها. – بعض معارف وأصدقاء وزملاء الضحية اتهموا الشرطة بالقتل، وهذه الاتهامات فاقدة للمسؤولية، لاعتبارين اثنين: أولهما أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وثانيها أن الشرطة مهمتها الأساس هي حماية المواطنين والسهر على راحتهم وأمنهم واستقرارهم، وفي حالات كثيرة يتعرض موظفوها إلى الخطر وربما إلى الموت في سبيل حماية حياة المواطنين، كما حدث مؤخرا لضابط شرطة حديث التخرج، كان يقضي فترة عطلة بإنزكان، وتدخل لفض شجار نشب بين شخصين، لكن أصابه أحد المتخاصمين بواسطة سكين في العنق، مما عجل بوفاته بالمستشفى متأثرا بما تعرض له من جروح بليغة، وفي جميع الحالات، لا يمكن أن نتخذ ما وقع من حادث مروري مميت، ذريعة للهجوم على الشرطة أو اتهامها أو التقليل من شأنها، لأن الحادث المروري يبقى حالة معزولة ولا تعكس البتة القاعدة، بدليل أن المطاردات الأمنية التي تحدث عبر العالم وحتى في الدول المتقدمة الأكثر احتراما لحقوق الإنسان، تتم في إطار من الحزم والصرامة، بل ويستعمل فيها السلاح الوظيفي في حالة عدم الامتثال أو تهديد الشرطة، وإذا كان الضحية "ولد الشعب" كما يتم الترويج له، فالشرطي المعتقل هو أيضا "ولد الشعب" ويتحمل مسؤولية أسرة وربما يتحمل إعالة والديه، وتوصيفه بالقاتل، هو تصرف غير مقبول لا إنسانيا ولا قانونا ولا أخلاقا، لأن مهمة الشرطة عبر العالم تكمن في حماية حياة المواطنين وليس قتلهم. – العديد من المواقع الإلكترونية تناقلت صور محاصرة "الشرطي/الدراجي" من طرف المواطنين وهو بداخل سيارة الشرطة، حيث تلقى وابلا من السب والشتم والإهانة والتحقير والتصوير والتشهير، أمام أنظار زملائه، في خرق واضح للقانون ولمبدأ "قرينة البراءة"، والبعض حاول اقتحام سيارة الشرطة والاقتصاص منه بدون حرج أو حياء، وكأننا نحتكم إلى قانون الغاب، وهذه الممارسات اللامدنية والهمجية والحاقدة، مرفوضة جملة وتفصيلا ولا يمكن أن يقبل بها عقل ولا قانون ولا منطق ولا قيم ولا دين، وكان يفترض ترك القانون يتخذ مجراه وتفهم أن "كل متهم بريء حتى تثبت إدانته"، ورد فعل المواطنين "الهائجين"، هو رسالة مفتوحة تعكس أننا نعيش أزمة مواطنة وقيم وأخلاق واحترام والتزام، تفرض دق ناقوس الخطر، وسواء كان تدخل الشرطي "معيبا" أو "غير معيب"، فلا يمكن أن نسمح بإهانة شرطي بالزي الرسمي أو سبه أو تصويره والتشهير به في حضرة زملائه، لأنه مرآة عاكسة لهيبة الدولة وقوة مؤسساتها. – إذا كنا نتفق كمغاربة على ضرورة حماية حقوق الإنسان وصون الحريات، فباسم هذه الحقوق والحريات، ندين عملية محاصرة الشرطي بزيه الرسمي من طرف المواطنين بالشارع العام أمام أعين زملائه، كما ندين ما تعرض له من أعمال وتصرفات تدخل في إطار "البلطجة" و"السيبة" و"الفوضى" و"الخروج عن القانون"، بكل ما لذلك من مساس بهيبة الشرطة وباقي الأجهزة الأمنية، ومن تشجيع للعابثين والمتهورين والخارجين عن القانون، من أجل التمادي في إنتاج العبث والتهور والانحطاط والانحراف والإجرام، خاصة بعدما بلغ إلى علمهم أن الشرطي الذي قام بالمطاردة، تم وضعه رهن الاعتقال. – ما هو ثابت ومؤكد أن الحادثة المرورية المميتة، ستكون لها تداعيات مأساوية على أسر الضحايا، وعلى أسرة الشرطي الذي تورط في الحادث في لحظة ربما غاب فيها التبصر والتقدير والحس المهني والقانوني، بل وعلى الشرطي ذاته، لكن ما وقع سيخلف انعكاسات عميقة على عناصر الشرطة عموما، ويدفعهم إلى الخوف والتردد والتراجع على مستوى الإسهام في فرض النظام العام والسهر على تطبيق القانون، وهذا المعطى قد يستغله العابثون والمتهورون والمجرمون من أصحاب الدراجات النارية، للتمادي في انتهاك مقتضيات قانون السير بدون أدنى خوف، كما حدث في بعض المدن التي شهدت حالة من العبث والتسيب من جانب بعض سائقي الدراجات النارية الذين خرجوا إلى الشوارع في إطار من الفوضى في تحد واضح لعناصر شرطة المرور، كما قد يستغله بعض المجرمين المتعاطين للسرقات بالخطف أو تحت التهديد بالسلاح الأبيض أو مروجي المخدرات لاقتراف أفعالهم الإجرامية، لأنهم يدركون أن الشرطة لن تتحرك لتعقبهم أو مطاردتهم، كما أن الشرطيين -بعد اعتقال زميلهم- قد يعاينون جرائم في الشارع العام، وبدل التدخل، قد يكتفون بالملاحظة وغض النظر، بدل المجازفة والقيام بمطاردة في الشارع العام قد تجهز على مستقبلهم المهني وتنتهي بهم وراء القضبان، وهذا ما لا نتمناه، لأن تراجع للشرطة في الميدان، معناه تقدم جبهة "تصحر" العبث والبلطجة والتهور والانحراف والإجرام، خاصة ونحن نعيش في مجتمع "كاموني" يقتضي شرطة "مواطنة" تتملك أدوات الحزم والصرامة وفرض هيبة القانون، لفرض الأمن والانضباط والالتزام. ما حدث يسائل الجانب التكويني والتأطيري لنساء ورجال الشرطة، سواء تعلق الأمر بالتكوينات الأساس أو المستمرة، كما يسائل الجوانب التواصلية بين الرؤساء والمرؤوسين في ما يتعلق بتمرير التعليمات والتوجيهات اليومية لمختلف الدوريات التي تشتغل في الميدان، وفي هذا الإطار، وحتى لا نبخس الناس أشياءهم، لا بد من الإقرار أن المؤسسة الأمنية قطعت أشواطا مهمة على مستوى التحديث، سواء تعلق الأمر بالارتقاء بمستويات التكوين أو الوسائل اللوجستية وتقنيات ووسائل التدخل، أو بالنهوض بالأوضاع المهنية والاجتماعية والمادية لموظفيها، أو في ما يتعلق بتخليق المرفق الأمني، وراكمت من الخبرة المهنية ما جعلها تحظى بالإشادة من قبل عدد من الدول الوازنة، ومع ذلك ما زالت تسجل بعض الاختلالات والتجاوزات المهنية من قبل بعض الشرطيين بالشارع العام، مما يعمق البؤرة بين الشرطة والمواطنين، ويكرس الانطباع الفردي والجماعي بوجود شرطة "متجاوزة" ومنتهكة للحقوق والحريات. وعليه وفي ظل ما حدث من مأساة، لا بد من الرهان على تجويد التكوينات الأساس والارتقاء بمستوى التكوينات المستمرة ذات الصلة بالقانون من قانون جنائي ومسطرة جنائية وعلم الإجرام وحقوق الإنسان والحريات العامة وأخلاقيات المهنة الشرطية، وتفعيل آليات التواصل بين الرؤساء والمرؤوسين، والمضي قدما في وضع مدونة حديثة للسلوك المهني تحدد الحقوق والواجبات والالتزامات والضوابط المهنية، مع التفكير في إصدار منشورات في شكل "كتيبات" تحدد ضوابط وشروط المطاردة البوليسية بالشارع العام، والإطار القانوني الذي يحدد قواعد وظروف استعمال السلاح الوظيفي عند الاقتضاء، مع الاستمرار في استراتيجية تخليق المرفق العمومي عبر التصدي لكل مشاهد العبث التي تمس بشرف المهنة وصورتها المجتمعية، مع ضرورة أن تتحمل مؤسسات التنشئة الاجتماعية مسؤولياتها "المواطنة" في التربية والتنشئة والتأطير، من أجل الإسهام الفردي والجماعي في بناء إنسان/مواطن ينضبط للقانون ويحترم المؤسسات ويكون للوطن حصنا حصينا. وفي خاتمة المقال، لا يمكن إلا الترحم على الضحية الذي فارق الحياة وهو في ريعان الشباب في لحظة عبث وتهور، وتقديم خالص العزاء لأسرته المكلومة، والدعاء بالشفاء العاجل للفتاتين المصابتين بجروح بليغة، والتعبير عن مشاعر الأسف بالنسبة للشرطي الذي وقع في مأساة يمكن أن يقع فيها كل رجل أمن في ظل الفراغات التي تعتري واقع الممارسة المهنية، وهذه الفراغات أو الفجوات لا بد من سدها بالمزيد من التكوين والتأطير والتخليق و"الحماية القانونية" بالنظر إلى حجم المخاطر المحتملة التي تحيط بالمهنة، وهذا الشرطي سواء أصاب أو أخطأ أو تجاوز أو لم يتجاوز ما هو مرسوم له من قواعد وضوابط مهنية، فهو بريء حتى تثبت إدانته لأن "الأصل هو البراءة"، ولا يمكن أن نقسو عليه بالسب أو القدف أو التصوير أو التشهير، ويكفي أنه "تحطم" كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، مهنيا وأسريا ونفسيا واجتماعيا، ويستحق وأسرته العناية النفسية والاجتماعية وربما القانونية اللازمة، ما دام الحادث المميت وقع بمناسبة أداء الواجب المهني. وفي جميع الحالات فالقانون فوق الجميع، وما علينا إلا أن نترك هذا القانون يتخذ مجراه الطبيعي داخل أروقة القضاء بعيدا عن لغة المشاعر المجيشة والتأثير...، مع توجيه رسالة مفتوحة إلى الشرطيين، بتوخي الحيطة والحذر والالتزام بالضوابط المهنية والقانونية وبالتقيد بتعليمات وتوجيهات الرؤساء، تفاديا للوقوع في "جب" المأساة القاتلة... حينها لا ينفع ندم ولن تجدي حسرة، ورسالة ثانية إلى الأسر بتحمل مسؤولياتها في التربية والتنشئة والرقابة على أبنائها، في ظل شيوع ثقافة العبث والتهور وانعدام المسؤولية وسط شرائح واسعة من الأطفال والمراهقين والشباب، وإلى عموم المواطنين بالتقيد بالقوانين والامتثال للشرطة التي لم توجد، إلا لحمايتهم من العابثين والمنحرفين، والسهر على راحتهم وأمنهم واستقرارهم، ورسالة موازية موجهة إلى المديرية العامة للأمن الوطني من أجل إحاطة موظفها "المعتقل" بما يلزم من الحماية القانونية والدعم النفسي والاجتماعي، بما أن الحادث تم أثناء العمل، واستحضار تداعيات المأساة على الأسرة وخاصة على الأبناء الذين يحتاجون إلى الالتفاتة اللازمة، وتقدير تداعيات "فعل الاعتقال" على نساء ورجال الأمن الوطني الذين يصعب عليهم استيعاب أن طريق الواجب المهني قد تؤدي يوما إلى ما وراء القضبان. وإذ نتأسف على ما حصل من مأساة، نعبر عن تضامننا مع نساء ورجال الأمن الوطني، مثمنين ما يتحملونه من مهام جسام آن الليل وأطراف النهار بتضحية وصبر وتحمل، حتى ننعم بالأمن والسكينة والطمأنينة، مصرين على ضرورة أن تتحمل الشرطة أدوارها ومهامها في فرض احترام القانون وبسط النظام العام، والتصدي بحزم للعابثين والمتهورين والمنحرفين والمجرمين في إطار القانون، وفي هذا الإطار، وبقدر ما نحن مع القانون والحقوق والحريات، بقدر ما نحن مع الحزم والصرامة والمسؤولية والانضباط والالتزام، في ظل ما بتنا نشاهده في الشوارع والطرقات من مظاهر الانحطاط والوقاحة والفوضى والانحراف...، مع الإشارة إلى أن أجهزة أمنية أخرى تبقى معنية بموضوع "المطاردات" ونخص بالذكر "الدرك الملكي" و"الجمارك"، وهذه الأجهزة، لا بد أن تستخلص الدروس الممكنة مما حصل، من أجل ممارسة مهنية رصينة تقطع مع مشاهد "الاختلال" و"التجاوز" و"الجدل"، وتحول دون الوقوع في شباك مأساة أو مآس مهنية لن ينفع معها ندم ولن تجدي معها حسرة.... ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال، كان بالإمكان تفادي ما كان، لو احترم الضحية رحمه الله قانون السير والجولان وامتثل للشرطي بالوقوف، ولو تحمل مسؤوليته أمام القانون، لما كانت المطاردة، ولما كانت المأساة، إنها ضريبة التهور وفاتورة الترامي على سلطة القانون.. نأمل أخيرا وليس آخرا، أن يحظى الشرطي المذكور بالحماية القانونية الضرورية من جانب الإدارة المشغلة ويتمتع بمحاكمة عادلة بعيدا عن اللغط والتأثير والتجييش...، أما الضحية فنجدد له الدعاء بالرحمة والمغفرة، ونقدم لأسرته خالص العزاء والمواساة، وللفتاتين بالشفاء العاجل، وقدر الله ما شاء فعل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.