برقية تهنئة من الملك محمد السادس إلى عاهلي المملكة الأردنية الهاشمية بمناسبة عيد الجلوس الملكي    المغرب يستقبل تدفقاً غير مسبوق للسياح الصينيين في 2025 مع زيادة قياسية في الحجوزات    التوت الأزرق المغربي.. فاكهة صغيرة بعوائد بملايين الدولارات تغزو الأسواق العالمية    إلغاء المباراة الودية بين منتخبي تونس وجمهورية إفريقيا الوسطى    مهرجان الدارالبيضاء للفيلم العربي يستقطب نجوم الصف الأول للتحكيم    وزارة الدفاع بحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا: الأوضاع الأمنية في طرابلس "مستقرة" عقب تحركات ميدانية في بعض المناطق    الدفاع الجوي يشغل "الحلف الأطلسي"    "هولوغرام موازين" يشعل الخلاف بين عائلة عبد الحليم حافظ والمنظمين    الأميرة للا حسناء تشارك في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للمحيطات بفرنسا    الجيش الإسرائيلي يقتحم سفينة مادلين ويختطف المتضامنين المتجهين لغزة    تقرير.. قادة من الوليساريو يتسللون إلى صفوف "داعش" ويهددون أوروبا من داخل الساحل    صراع أوروبي محتدم على نايف أكرد    توقيف 3 أشخاص بالبيضاء بشبهة تبادل العنف بالشارع العام وإلحاق خسائر مادية بممتلكات الغير    سيارة أجرة تصطدم ب"رونو كليو" قرب سطيحة.. إصابات وخسائر مادية    رصاص الشرطة يصيب مبحوثًا عنه هاجم الأمن بسلاح أبيض وقنينات زجاجية        بما في ذلك الناظور، الدريوش والحسيمة.. الداخلية تحدد موعد الحسم في مقاعد شاغرة ب80 جماعة ترابية        إمبرودا: إغلاق المغرب للجمارك دمّر 60% من اقتصاد مليلية    العراق يحظر رواج "الكاش" في مؤسسات الحكومة    بعد نصف عام من "سقوط الأسد" .. سوريا تواصل تشكيل الأحلام المؤجلة    لوس أنجليس تواجه "قوات ترامب"    مشجع يفارق الحياة في نهائي دوري الأمم الأوروبية    مباراة المغرب وبنين.. التوقيت والقنوات الناقلة    رونالدو: لعبت وأنا أعاني من إصابة.. ولا شيء يضاهي هذا التتويج    توقعات أحوال الطقس لليوم الاثنين    المغرب يضاعف رهانه على صناعة السيارات الكهربائية: لتصل إلى 60% من إجمالي الإنتاج في أفق 2030    الجامعة الملكية تكرم قدماء "أسود الأطلس" في فاس وتُعزز جسور التواصل بين الأجيال    تحطم طائرة تقل 20 شخصا في ولاية تينيسي الأمريكية    كأنك تراه    اكتشاف نوع جديد من الديناصورات في فوسفاط "أولاد عبدون" بخريبكة        الشركات الأجنبية في الصين تواصل تعزيز تجارتها خلال شهر ماي    طفولة مخيمات تندوف بين فكي الدعاية السياسية والإستغلال الإيديولوجي تحت غطاء "عطل في سلام"    المغرب يحتفي بثقافته في قلب الصين عبر ألحان التراث وإيقاعات الفلكلور    دبلوماسية الإنسان للإنسان: مزارعو آيوا يرون في العلاقات المباشرة جسراً لإنعاش التجارة بين الصين والولايات المتحدة        تعزية إلى الكولونيل رضوان أحصاد في وفاة شقيقته    موجة حر تقود إلى مأساة في إقليم العرائش: وفاة طفل وشاب غرقًا في حادثين متفرقين    البرتغال بطلة للمرة الثانية بتغلبها على إسبانيا بركلات الترجيح    الأميرة للا حسناء تمثل جلالة الملك في مؤتمر المحيطات بنيس    التحذير من ارتفاع إصابات كوفيد19 بسبب متحور جديد والدعوة لتشديد إجراءات وقائية    المحامية كوثر جلال تصدر كتابا جديدا يسلط الضوء على الثغرات القانونية والاجتماعية في مدوّنة الأسرة المغربية    مايا تطلق "فحلة".. عمل فني يحتفي بالمرأة التونسية    عيد لصاحبة القبر    الصحة العالمية تحذر من ارتفاع إصابات "كوفيد-19" بسبب متحور جديد وتدعو لتشديد الإجراءات الوقائية    انسيابية في رمي الجمرات واستعدادات مكثفة لاستقبال المتعجلين في المدينة المنورة    المغرب ضمن أكبر خمسة اقتصادات إفريقية في 2025    صادرات المغرب الفلاحية نحو إسبانيا تسجل رقما قياسيا    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "الربحة"    "واتساب" يختبر ميزة جديدة تمنح مستخدمي "أندرويد" حرية الاختيار    كلب مسعور تسلل من الناظور يستنفر سلطات مليلية المحتلة    هولندا.. اكتشاف مزرعة سرية وحجز أضاحي في ثاني أيام العيد    يوميات حاج (9): بين منى ومكة .. الانعتاق من شهوات سنين الغفلة    أطباء مغاربة يحذرون من تزايد حالات الاجتفاف نتيجة ارتفاع درجات الحرارة    الحجاج ينهون رمي الجمرات في أول أيام العيد    الحجاج يبدأون رمي "جمرة العقبة" الكبرى في مشعر منى    "يمكن" عمل جديد للفنان زياد جمال – فيديو-    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدب الاعتذار


هوية بريس – الجمعة 02 ماي 2014
الاعتذارُ خُلقٌ نبيل، وبرهانُ صدقٍ للقلوب الحيَّة، وسجيَّة محمودةٌ لا يتمتَّع بها إلا مَن كان ذا فطرةٍ سويَّة لم تُفسِدْها التَّقاليد الباليَة، والعادات الاستعمارية المُتعجرفة، بحيث يأنَفُ المُتكبِّرون وتلامذتُهم من الاعتذار عن أخطائهم التي يرتكِبونها في حقِّ غيرهم من الناس؛ اعتقادًا منهم أن ذلك سيجعلُهم صِغارًا في أعينِ مَن يُبجِّلونهم ويَذُوبون في تقديرِهم واحترامهم.
وهناك مَن لا يقبَلُ الاعتذارَ من إخوانه، ولا يرفَعُ به رأسًا، ولا يُقِيم له وزنًا، وكأنه كان ينتظِرُ بفارغِ لؤمِه خطأَ أخيه في حقه؛ لتكونَ النقطةَ التي تفيض كأس العداوة في قلبِه المريض، وقد قال الشاعر:
إذا اعتذرَ الجاني محا العُذرُ ذنبَه — وكلُّ امرئٍ لا يَقبَلُ العذرَ مُذنِبُ
وقال الآخرُ:
إذا ما امْرُؤٌ من ذنبه جاءَ تائبًا — إليكَ فلم تَغفِر له فلكَ الذَّنبُ!
تُخطِئ المرأةُ في حقِّ زوجها فلا تعتذر، ولا تُحدِّث نفسَها بذلك، وقد تكون لها أمٌّ شرسةُ الأخلاق، تُحرِّضها على ذلك، بدعوى أن الاعتذار قد يدفع الزوجَ للعُجبِ بنفسه، والنظر في عِطْفَيه زهوًا وافتخارًا، وكذلك الزوج لا يعتذر لزوجته إن أساء إليها، ظانًّا أنه أكبر من أن يعتذر لها، ويطلب منها الصفح والعفو.
يقولُ أحدُ الكُتَّاب:
الكبارُ يفهَمون الاعتذار فهمًا راقيًا، فلا ضَيْر من الاعتذار للزوجة إذا أخطأوا في حقِّها، ولا مانعَ من الاعتذار لمرؤوسيهم إذا قصَّروا في أداء الواجبات المَنُوطة بهم، ولا ينقص من قدرِهم إذا اعتَذَروا، ولو كانوا في مراكزَ قياديَّةٍ.
على العكس تمامًا من صِغار النفوس، والعامَّة من الناس الذين دأبوا على التهرُّب من الاعتذار عن أخطائهم التي ارتكبوها؛ فالزوجُ تأخُذُه العزَّة بالإثم من الاعتذار لزوجتِه، خوفًا من أن ينقصَ ذلك من رجولتِه، والمدير لا يعتَذِرُ لموظَّفيه، خشيةَ أن يعتبروه ذا شخصيةٍ ضعيفة، والمدرِّس لا يعتذر لتلاميذه إذا أخطأ معهم، خوفًا من الاتِّصاف بعدم التمكُّن من مادته.
لقد اقتصر الاعتذارُ بين العامَّة على الأشياء العابرة الخفيفة؛ مثل الاصطدام الخفيف أثناء المشي، أما في المواقف الجادَّة والحقيقية، التي تحتاجُ الاعتذارَ حتى تستمرَّ عجلة الحياة، ويستقر التعامل بين الأقران، فنرى التجاهلَ وعدم المبالاة، والواقع يُؤكِّد ما نقول"؛ اه.
قال ابن عبد البر الأندلسي في عِقده (ج:2 ص:19): ومن الناس مَن لا يرى الاعتذارَ، ويقولُ: إيَّاك وما يُعتذَرُ منه.
وقالوا: ما اعتذرَ مذنبٌ إلا ازدادَ ذنبًا.
وقال الشاعرُ محمود الورَّاق:
إذا كانَ وجهُ العُذرِ ليسَ ببيِّنٍ — فإنَّ اطِّراحَ العُذر خيرٌ منَ العُذرِ
لكنه منهج غيرُ سويٍّ، لا يقبَلُه إلا مَن شرِب من كأس الضياع حتى ثَمِل، فعندمَا يأتيك الإنسانُ معتذرًا يا أخي، معترفًا بذنبه الذي ارتكبَه في حقك، ومقرًّا أنَّ الغضبَ قد حالَ بينَه وبينَ إنصافِك، فتقبَّل عُذرَه بصدر رَحبٍ، وقلبٍ أبيضَ، لا يَمُتُّ للحقد والإحَن بصلةٍ، مستحضرًا أن خيرَه أكثر من شرِّه، والماء إذا بلغ القُلَّتيْنِ لا يحملُ الخبَثَ، وراسمًا على مُحيَّاك ابتسامةَ الرِّضا التي تَجبُر خاطرَه، وتروي ندَمه، عندها تستحقُّ وبجدارةٍ أن تكونَ أخا وعيٍ في نعيمٍ ينعمُ، يَغبطكَ عليه مَن كانَ له قلب أو ألقى السمعَ وهو شَهِيد.
هذا، وقد عقدَ كثيرٌ من الأدباء والعلماء قديمًا في تآليفِهم الأدبية بابًا خاصًّا بأدب الاعتذار لأهميتِه، ساقوا فيه الكثير من الآثار والأحاديث، والحِكم والأشعار التي لو قرأها الواحدُ منَّا بتجرُّد، لاستحال إلى رمادٍ إزاءَ معانيها التي تقطُرُ سموًّا وأدبًا رفيعًا لا يليق إلا بمسلمٍ يخاف الله، ويجعل نُصْبَ عينَيْه اليومَ الآخر.
قال ابنُ قُتَيبة في عيون الأخبار:
وعن مُعلَّى بن أيوب قال: هجا الحميريُّ الشاعرُ الفضلَ بنَ يحيى، ثم أتاه راغبًا معتذِرًا إليه، فقال له الفضل: بأيِّ وجه تلقاني؟ فقال: بالوجه الذي ألقى به ربي، وذنوبي إليه أكثرُ من ذنوبي إليك، فضحك ووصَله ورضي عنه!
فما المانعُ من تقديمِ الاعتذار على خطأٍ إن صدرَ منا، وما الضَّيْرُ في طلب الصَّفْح من إنسانٍ إن أسأنا إليه، فهل نحنُ أفضلُ من الأنبياء والمرسلين الذين كانوا يُسارِعون في الخيرات بقلوبٍ مِلْؤها الإيمان واليقين، ثم إذا أخطأوا أخطاءً غير متعمَّدة رأيتَهم يُسابِقون في طلب الصَّفح والعفو من ربِّهم، الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفِي الصدور، لا يُبرِّرون أخطاءَهم، ولا يُجادِلون فيها كما يفعل الذين لا يعلَمون، فهذا أبونا آدم يأكل من الشجرةِ المحرَّمة، فيشعُرُ بحرجٍ شديد هو وزوجُه أمام ربِّه، وهو يعاتبه على مخالفته لأمره، فيطلبان العفو والغفران، معتذريَنِ ومُقدِّمينِ بين يدَي اعتذارِهما عباراتِ الذل والاستكانة والخنوع، التي إن دلَّت على شيء، فإنها تدلُّ على كمال العبودية وتمامها، ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف:23).
وكليمُ الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، يقتلُ رجلاً غير عامد، فيكاد يخترقُه الحزن والهمُّ، وتضيق به الدنيا بما رَحُبَت، فلا يجد أدنى حرجٍ في طلب العفو والصَّفح من ربِّه الكريم، قائلاً: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (القصص:16).
والمُطالِع لكتبِ العلماء والأدباء يرى بوضوحٍ في مقدَّمة تواليفِهم حُسنَ أخلاقهم وأدبهم، وهم يعتذرون في مقدماتهم عن زلاَّتهم وهفواتهم وأخطائهم إن وُجدت، وقد أفردَ بعضُ طلبة العلم رسالةً لطيفةَ الحجم، جمَع فيها بعضَ اعتذارات الأئمة في مقدِّماتهم؛ لذا يروق لي في هذا المقام أن أُسجِّل نموذجَينِ من اعتذارات أئمتِنا كخاتمةٍ مِسْكية لمقالِنا هذا؛ الأول للأديب الأَرِيب الفحل: ياقوت الحموي، في مقدِّمة كتابه المعطار: «معجم الأدباء»، ج:1 ص:11، والثاني للعلامة ابن قيِّم الجوزية رحمهما الله:
يقول ياقوت -لله دَرُّه-: (وأنا فقد اعترفتُ بقُصُوري فيما اعتمدتُ عن الغاية، وتقصيري عن الانتهاءِ إلى النهاية، فأسألُ الناظرَ فيه ألاَّ يعتَمِدَ العَنَتَ، ولا يقصِدَ قصدَ مَن إذا رأى حسَنًا ستَرَه وعيبًا أظهَرَه، وليتأمَّلْه بعين الإنصاف، لا الانحراف، فمَن طلبَ عيبًا وجدَّ وجَدَ، ومَن افتقدَ زَلَلَ أخيه بعَيْنِ الرِّضا فقَدْ فقَدَ، فرَحِمَ اللهُ امرَأً قهرَ هواه، وأطاعَ الإنصافَ ونواه، وعذرُنا في خطأٍ إن كان منَّا، وزلَلٍ إن صدَرَ عنَّا، فالكمالُ مُحالٌ لغيْرِ ذي الجلالِ، فالمرءُ غيرُ معصوم، والنسيانُ في الإنسان غيرُ مَعدوم، وإن عجزَ عن الاعتذار عنَّا والتصويبِ، فقد علِمَ أن كُلَّ مُجتَهدٍ مصيبٌ، فإنا وإن أخطأنا في مواضعَ يسيرَةٍ، فقد أصبنا في مواطنَ كثيرَةٍ، فما عَلِمْنا فيمَن تقدَّمَنا وأمَّنا من الأئمةِ القُدماء، إلا وقد نُظِمَ في سِلْكِ أهلِ الزَّلل، وأُخِذ عليه شيءٌ من الخَطَل، وهُمْ هُمْ، فكيفَ بنا مع قصورنا واقتِصارِنا، وصرفِ جُلِّ زماننا في نهمةِ الدنيا وطلبِ المعاشِ، وتنميقِ الرِّياشِ، الذي مُرادُنا منه صيانةُ العِرْضِ، وبقاءُ ماءِ الوجهِ لدى العَرْضِ).
ويقول ابن القيم في كتابه الرائع: «مدارج السالكين» ج:3 ص:384: (فيا أيها القارئ لهُ، لك غُنْمه وعلى مؤلِّفه غُرْمه، لكَ ثمرتُه وعليه تَبِعتُه، فما وجدتَ فيه من صوابٍ وحقٍّ فاقبَلْه، ولا تلتَفِت إلى قائله، بل انظُرْ إلى ما قال، لا إلى مَن قال، وقد ذمَّ الله تعالى مَن يَرُدُّ الحقَّ إذا جاءَ به مَن يُبغِضُه، ويقبَلُه إذا قاله مَن يُحبُّه، فهذا خُلُق الأمَّة الغَضَبية، قال بعض الصحابة: اقبَل الحقَّ ممَّن قاله، وإن كان بغيضًا، ورُدَّ الباطلَ على مَن قاله، وإن كانَ حبيبًا).
وما وجدتَ فيه من خطأ، فإنَّ قائلَه لم يألُ جهدَ الإصابة، ويأبى الله إلا أن يتفرَّد بالكمال، كما قيل:
والنَّقصُ في أصلِ الطبيعةِ كامنٌ — فبنو الطبيعةِ نقصهُم لا يُجحَدُ
وكيفَ يُعصَمُ من الخطأ مَن خُلِقَ ظلومًا جهولاً؟
ولكن مَن عُدَّت غلطاتُه أقربُ إلى الصواب ممَّن عُدَّت إصاباتُه.
والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على خاتم المُرسَلين؛ محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.