المنهجية الأغنوصية، التي كانت موضوع التدوينة السابقة، تستدعي، كما سبقت الإشارة، تجربة ذهنية من نوع "المتفرج المحايد" (Le spectateut impartial) بتعبير أدم سميث (نظرية الوجدان الأخلاقي La théorie des sentiments moraux )، تجربة ذهنية مُتخلِّصة من سلطة المنافع والمواقف والمواقع، هدفُها وضعُ الشروط التي يقوم عليها المُشْتَرك (Commun)، الجماعي والوطني، وتكوين النواة الصلبة الشاملة لما أسميته "الضروري من التنمية" (تدوينة 16 نونبر 2018). لكن الهندسة العملية، والإجرائية لكل من الخيارات الاستراتيجية ، والأولويات التنموية، تستوجب مقاربة مختلفة ذات طبيعة توافقية، مقاربة هي في المحصلة تركيب وتوليف لثلاثة موارد مختلفة، ومتكاملة فيما بينها : الأولى هي موارد "الخبرة الوطنية"، أقول الوطنية وليس الأجنبية، بالنسبة للجوانب العلمية، والتقنية، والفكرية، وأيضاً الُمقارِنة للنموذج التنموي. الثانية هي "المداولة العمومية"، والمشاركة الشعبية في تحديد الحاجيات، والتعبير عن التطلعات، والطموحات، محلياً، وجهوياً، ووطنياً. أما الثالثة فهي "الآلية الديمقراطية" التي وحدها تُضْفي المشروعية على مُخْرجات كل من الخبرة الوطنية والمداولة الشعبية، وذلك بالرجوع إلى الأجهزة التمثيلية. ويكون موضوع التوافق هو الخيارات الاستراتيجية، أو الإطار المرجعي، والمُوجِّه للسياسات العمومية الحكومية الحاملة لها. أربعة شروط لا بد أن تكون حاضرة في الصياغة التوافقية : من جهة، شرط توافر النسقية في النموذج التنموي، ومنها شمولية الاختيارات وانسجاميتها، ومنها تكاملية الأولويات، والتقائيتها. من جهة أخرى، شرط ترجيح كفة الدينامية الوطنية وبناء القدرات الذاتية للانخراط الفعال في الدينامية الدولية، ولركوب أمواج العولمة. الخيارات الاستراتيجية تروم، في آخر التحليل، إرساء أساسيات التنمية الوطنية، الشاملة والمستقلة، المستوعبة لدينامية التحولات البيئية، والقائمة على "الثوابت" التالية : الاستثمار العمومي، والتكوين الخام لرأس المال الثابت، التصنيع المتوازن، الإدماجي، والتنافسي، الحماية الاجتماعية، الأمن الغذائي، الأفضلية الوطنية، العدالة الاجتماعية والنوعية، والتوازن المجالي. الاختيارات الاستراتيجية تحدِّد خريطة الطريق وتندرج في الزمن الطويل، وهي، من حيث طبيعتها، لا تستجيب للحاجيات الفورية والملحة. من ثمة، فإن المقاربة التوافقية تشمل، في طور ثانٍ، تحديدُ الأولويات التي يختزلها مفهوم "الضروري من التنمية" (تعليم، صحة، سكن، عمل لائق). الأولويات لا تعني مباشرة الاقتصادي وتأجيل الاجتماعي والثقافي والمؤسسي إلى أن يتم النمو وتستقيم المؤشرات الماكرواقتصادية (عجز الميزانية، معدل التضخم، الدين العمومي). سيرورة التنمية تضم مسارين متساوقين في الخطو، يشد بعضه بعضاً : التوازنات الماكرواقتصادية، والتوازنات الاجتماعية والمجالية والنوعية؛ الاستثمار في الضروري من التنمية، والاستثمار في البنيات التحتية، وفي البنيات الفوقية (الثقافية، والسلوكية، والجمالية)؛ تحسين مناخ الأعمال (شفافية، منافسة) وتجويد الخدمات الاجتماعية. التنمية تنهض وتمشي، منذالبدء، على قدمين، بتعبير ماو تسي تونغ.