عدم استكمال هياكل مجلس النواب يؤجل تقديم الحصيلة البرلمانية    المبادرة الملكية الأطلسية تطمح لجعل المنطقة الأفرو – أطلسية فضاء أمن ورخاء مشترك    الموعد الجديد لمواجهة بونو ورحيمي في قمة "أبطال آسيا"    مركز تصفية الدم بالعيون.. التزام تام للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية لفائدة مرضى القصور الكلوي    قرار جديد لمحكمة فاس في قضية "شر كبي أتاي"    26 قتيلا و2725 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال أسبوع واحد    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الزيادة في الأجور بأثر رجعي نهاية أبريل    سانشيز: كأس العالم 2030 "سيكون ناجحا"    صديقي: مجزرة بوقنادل تضمن جودة عالية    صندوق النقد يتوقع نموا ب 3.1 % في المغرب    أمطار غزيرة تُغرق دول الخليج والسيول تودي ب18 شخصا في عُمان    النيابة العامة تستدل بالقرآن الكريم وتتمسك بالإعدام في قضية الشاب بدر    عصابة المجوهرات تسقط في قبضة أمن البيضاء    كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع الهجوم الإيراني على إسرائيل؟    مجلس المستشارين.. بنسعيد يبرز دور الثقافة في النهوض بالأوضاع الاجتماعية للشباب    علماء أمريكيون يحذرون من تأثير مادة "الباراسيتامول" على صحة القلب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    شركة ميتا تكشف عن سعيها لإحداث ثورة في التعليم    الحسن أيت بيهي يصدر أولى إبداعاته الأدبية    جلالة الملك يهنىء رئيس جمهورية سلوفاكيا الجديد    نجم برشلونة الإسباني: لا إحساس يضاهي حمل قميص المنتخب المغربي    ابن كيران: رفضنا المشاركة في ملتمس الرقابة بسبب إدريس لشكر(فيديو)    إسبانيا توفر خدمات لعاملات مغربيات    أرباب المقاهي يفاجئون المغاربة برفع أسعار القهوة والمشروبات الغازية    دونالد ترامب في مواجهة قضية جنائية غير مسبوقة لرئيس أمريكي سابق    بحالو بحال قيوح: القاديري البرلماني الاستقلالي كيموت على المناصب وداير حملة وحرب باش يبقا فمكتب مجلس النواب ومكفاتوش تعدد المسؤوليات وبغا ريع الامتيازات وطوموبيل البرلمان باش يتفطح    الصندوق المغربي للتقاعد.. نظام التقاعد "التكميلي" يحقق نسبة مردودية صافية بلغت 5.31 في المائة سنة 2023    تأجيل جلسة البرلمان المخصصة لعرض الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة إلى وقت لاحق    مساء اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : لمحات من سيرة وشعر الأمير الشاعر المعتمد بن عباد دفين أغمات    مسؤولية كبيرة قدام الطالبي العلمي للي مصر على تطبيق الدستور وابعاد البرلمانيين المتابعين فالفساد من المسؤولية: اليوم عندو اجتماع حاسم مع رؤساء الفرق على مناصب النيابات ورؤساء اللجان وكولشي كيستنا لاليست ديال البام    إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024 من مدينة أولمبيا اليونانية    الدكيك: ملي كنقول على شي ماتش صعيب راه ما كنزيدش فيه والدومي فينال مهم حيث مؤهل للمونديال.. وحنا فال الخير على المنتخبات المغربية    كمية الصيد المتوسطي تتقلص بالمغرب    الحصيلة الإجمالية للقتلى ترتفع في غزة    الأمين بوخبزة في ذمة الله .. خسارة للحركة الإسلامية والعمل التطوعي بالمغرب    هذه مستجدات إلغاء ذبح أضحية عيد الأضحى لهذا العام    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    دراسة: الشعور بالوحدة قد يؤدي إلى مشاكل صحية مزمنة    بورصة الدار البيضاء : تداولات الافتتاح على وقع التراجع    كيف يمكن أن تساعد القهوة في إنقاص الوزن؟: نصائح لشرب القهوة المُساعدة على إنقاص الوزن    عبد الإله رشيد يدخل على خط إدانة "مومو" بالحبس النافذ    هجوم شرس على فنان ظهر بالملابس الداخلية    مؤسسة منتدى أصيلة تنظم "ربيعيات أصيلة " من 15 إلى 30 أبريل الجاري    الجزائر تغالط العالم بصورة قفطان مغربي .. والرباط تدخل على خط اللصوصية    دراسة تحذر من خطورة أعراض صباحية عند المرأة الحبلى    أشرف حكيمي: "يتعين علينا تقديم كل شيء لتحقيق الانتصار في برشلونة والعودة بالفوز إلى باريس"    المدرسة العليا للأساتذة بمراكش تحتفي بالناقد والباحث الأكاديمي الدكتور محمد الداهي    مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان يدعو إلى انهاء الحرب في السودان    العنصرية ضد المسلمين بألمانيا تتزايد.. 1464 جريمة خلال عام وجهاز الأمن تحت المجهر    سليم أملاح في مهمة صعبة لاستعادة مكانته قبل تصفيات كأس العالم 2026    المغرب وبلجيكا يدعوان إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    المغرب التطواني يصدر بلاغا ناريا بشأن اللاعب الجزائري بنشريفة    هذه طرق بسيطة للاستيقاظ مبكرا وبدء اليوم بنشاط    الأمثال العامية بتطوان... (572)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    هل قبل الله عملنا في رمضان؟ موضوع خطبة الجمعة للاستاذ إلياس علي التسولي بالناظور    مدونة الأسرة.. الإرث بين دعوات "الحفاظ على شرع الله" و"إعادة النظر في تفاصيل التعصيب"    "الأسرة ومراعاة حقوق الطفل الروحية عند الزواج"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لمَّا كان طب الشرق رافعاً لطب أوبئة الغرب..
نشر في لكم يوم 29 - 03 - 2020

وضع وبائي رهيب وفصول قاسية مقلقة لفيروس يضرب عالمنا من محيطه الى محيطه، تطورات بقدر ما هي عليه من طوارئ صحية تروم احتواء الوباء مع ما يرافقها أيضاً من اجراءات احترازية لمحاصرته ومنع انتشاره، بقدر ما يدفعنا واقع الحال هذا لوقفة تأمل تجاه ماضينا والسؤال حول ما طبع تاريخنا من بؤر وباء ووقائع وتماسات، ومن سبل وقاية أيضاً خلال فترات أزمات من حين لأخر كلما حصلت جائحة، منها من حصدت ملايين القتلى تشهد كتب التاريخ على ما كانت عليه من رعب وهول انتشار وقوة نزيف.
تفاعلا مع هذا وذاك وفي ذات الوقت منفتحين على عِبر تاريخنا ونحن نعيش وقع فيروس كورونا"كوفيد 19″، ارتأينا ورقة تجمع بين وباء وتاريخ وأمكنة وطب وقاية وتلاقح علم وعلماء وأطباء. ونعتقد أنه من المفيد بدءاً الاشارة الى شبه اجماع باحثين دارسين أطباء، على أن علم الأوبئة هو ذلك الذي يهتم بدراستها في حالاتها العامة وليست الخاصة الفردية. وأنه بقدر اهتمامه بأسباب العدوى بقدر ما يستحضر أمرين أساسيتين. انتشار الوباء في الأمكنة وبين الجماعات بما في ذلك من علاقة بأعمار واثنيات وجنس..الخ، ثم أسباب الوباء وانتقاله ومن هنا فهو يجمع بين أسئلة عدة تهمه باستثناء ما يتعلق أعراضه وسبل الشفاء منه.
وفي علاقة وثيقة بالأوبئة تعد حركة الانسان من عوامل انتشارها الأساسية تاريخياً، فقد كان تنقل الناس على اختلاف أنشطتهم ومهامهم سبباً في انتشار الوباء على مساحات واسعة. والثابت تاريخيا أن هؤلاء بقدر ما يأخذونه معهم من أوبئة ويكونوا سبباً في اتساع مجالها بقدر ما يكتسبوا أوبئة بالمقابل يعملون على نشرها. وفي هذا الاطار من المفيد استحضار ما ورد في عدد من الدراسات، حول ما حصل في التاريخ وبخاصة خلال أواسط القرن الرابع عشر الميلادي، عندما أبحرت سفن على متنها عدد من التجار من ميناء "كريميا" عن البحر الأسود وكان موبوءاً بالطاعون. وحصل أن حطت بعض هذه السفن التجارية بموانئ ايطاليا فعم وباء انتقل الى انجلترا، فكان ما كان من جائحة ودمار بشري تكرر ظهوره في صور أوبئة استمرت لحوالي أربعة قرون. وكان ما ضرب أروبا خلال هذه الفترة من وباء سبباً في نزيف ديمغرافي فضيع. بل الأمر لم يبق مقتصراً على شمال البحر المتوسط، بل انتقلت الجائحة جنوباً حيث مصر وغيرها من البلاد ما تكرر لعدة مرات بالمنطقة الى غاية القرن التاسع عشر. فصول وبائية كانت بنزيف بشري كبير وانهيار جاء على أخضر ويابس من الانسان، على امتداد فترات من القرن الرابع عشر الميلادي حتى التاسع عشر. مع أهمية الاشارة لِما ساعد على انتقال جائحة هذه الفترة وتأثيرها من قحط وجفاف، وفق ما أورده محمود عبد جواد في تقديم خص به ترجمة لدراسة على درجة عالية من الأهمية حول الموضوع.
ومن جملة ما تذكره كتب التاريخ حول وباء 1347م مثلاً :"في صيف هذه السنة اعتلت الفئران والبراغيت المصابة بالطاعون متن السفن التجارية الجنوية (الايطالية) في كافا (ميناء بالبحر الأسود)، وفي هذه السنة مرت بعض هذه السفن عبر الدردنيل ثم رست في صقلية وبعد ذلك ابحرت الى بيزا وجنوا ومرسيليا، وبعض هذه السفن الجنوية أبحرت الى من كافا الى مصبات نهر النيل بمصر. وخلال بضعة أشهر بدأ وباء من نوع غير معروف في قتل الرجال والنساء والاطفال على جانبي البحر المتوسط. وبنهاية عام 1348 بدأ هذا الطاعون في مهاجمة السكان على طول شواطئ المحيط الأطلسي وبحر البلطيق، بعد ذلك صعد الى الأنهار وعلى طول الممرات وعبر الحقول حتى وصل الى الأروبيين الذين يعيشون في عمق الداخل." وقد ورد أيضاً عن هذا الوباء الذي بلغ بلاد مصر عام 1347:" بدأت الوفيات في سينا في ماي 1348 كان هذا فضيعاً وقاسياً.. هجرة الآباء للأبن والزوجة والزوج، ليس هناك من يقوم بدفن الموتى..وفي العديد من الأماكن في سينا وجدت حفر كبيرة أعدت وكومت بها أعداد كبيرة من الموتى…وكان هناك فقراء غطوا بالتراب ونبشت جثثهم الكلاب وأخذوا يلوكونها في المدينة، ولم يكن هناك أي أحد يبكي على أي ميت حيث توقع كل واحد أنه يموت."
وعندما يتعلق الأمر بأمكنة موبوءة يتحدث الباحثون المتخصصون على أنه مع كل انتقال من منطقة ما إما خالية من الوباء أو ما هو بها ضعيف باتجاه أخرى شديدة الاصابة، فإن وضع الوباء والتجربة معه مقارنة مع من هو موبوء من السكان الأصليين للمنطقة، كثيراً ما تكون رهينة بما يحمله هؤلاء معهم من مناعة وبائية وعادات ونمط تغذية وغيره، ومن هنا يتحدث المتخصصون عما يحصل من استجابات مختلفة لتأثيرات ضارة في منطقة مستقبلة انتقلوا اليها، بحيث غالباً ما تظهر عليهم أعراض جديدة بسبب البيئة الجديدة. كما أنه مع انتقال جماعة ما من منطقة موبوءة بشدة الى منطقة ضعيفة أو منعدمة الاصابة، فما يسجل في مثل هذه الحالات هو كون السكان الأصليين كثيراً ما يتعرضون لضربة وبائية قوية بسبب غياب مناعتهم، ولعله ما حدث عند هجرة الأروبيين تجاه الأمريكيتين وما حدث بها من جذري وزهري وانفلونزا، ما ترتب عنه انهيار ديمغرافي من شدة الاصابة وبالتالي وفيات على قدر كبير لدرجة انقراض ساكنة بعض المناطق.
وكانت بعض الدراسات على درجة من الجرأة في حديثها عن أوبئة ضربت عدداً من جهات العالم خلال القرون الأخيرة، من خلال ما أوردته من علاقة بين ما حصل من دمار وبائي وأطماع وتوسعات استعمارية لوضع اليد على ثروات شعوب بقارة افريقيا وأسيا وأمريكا. عبر ما تم نقله من أمراض جديدة تم نشرها في صور أوبئة بمناطق وشعوب عن طريق عمليات غزو وتوغلات وتسربات بما يعني نفس الهدف، فضلاً عما حصل من تجارة عبيد شهيرة بين افريقيا وامريكا مثلاً، ومن هنا ما حصل من تفكيك لأنماط عيش شعوب ونظم حياة ومقومات تفاعل. وعليه، فإن ما يذكره التاريخ من ابادة لشعوب لم يكن عبر ما هو عسكري فقط بل وبائي أيضاً وقد يكون الثاني أكثر دماراً وقوة من الأول. وتذكر كتب التاريخ أن ما ظهر من أوبئة لدى الشعوب التي تم استعمارها، جمع بين طاعون وجذام لكوليرا وزهري وجذري وحمى صفراء وملاريا وغيرها، مع أهمية الاشارة الى أن من الأوبئة ما انتشر وينتشر عبر حشرات وعدوى مباشرة وعبر الجهاز الهضمي والجنسي كما بالنسبة للزهري.
وكان انتقال الانسان من جهة لأخرى دوما سبباً في انتقال جوائح عدة والذاكرة الوبائية الجماعية العالمية مليئة بتجارب ونماذج، فالتاريخ يذكر أن انتقال الكوليرا الى انجلترا حصل عن طريق التجارة وتنقل التجار مع تأسيس شركة بالهند "الهند الشرقية". فقد حصل أن ظهر وباء قاتل بهذه البلاد نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر أتى على حوالي خمسة وعشرين مليون فرد، قبل أن ينتقل الى انجلترا بداية ثلاثينات القرن نفسه ويأتي على حوالي مائة وثلاثين ألف فرد. مع أهمية الاشارة هنا الى أن انجلترا تعرضت لهذا الوباء خمس مرات خلال القرن التاسع عشر عن طريق جنودها وموظفيها في ادارة الاحتلال. ويذكر أنه بعد وصول كريستوف كولمب الى القارة الأمريكية وبعد تدفق لآلاف الابيريين عليها وكانوا حاملين للجذري، وصل الوباء الى أمريكا الوسطى نهاية العقد الثاني من القرن السادس عشر، والى بلاد المكسيك بداية عشرينيات نفس القرن والى بلاد الأنكا في نهاية عشرينات نفس الفترة، وهو ما كان بأثر كبير في دمار وابادة شعوب أصلية مع هجرة بعضها الى وجهات أخرى، لدرجة الحديث عن انقراض حوالي تسعين بالمائة من شعوب الأمريكيتين.
وليس سهلاً القفز على ما كان لتجارة العبيد بين افريقيا وامريكا من أثر في انتقال الوباء الشهير بالحمى الصفراء والملاريا الى شعوب الأمريكيتين ومعها حتى مسببات هذه الأوبئة، علما أن تجارة العبيد هذه حصلت مع بداية ثلاثينات القرن السابع عشر نظرا لما كان عليه الاسبان من حاجة لليد العاملة من اجل زراعة قصب السكر بعد احتلالهم للأمريكيتين. وغير خاف تاريخياً أيضاً أنه منذ سبعينات هذا القرن والى غاية نهاية القرن التاسع عشر، تم نقل ما يقرب من ثلاثين مليون افريقي عن الواجهة الغربية للقارة. وكانت عملية التهجير هذه وما رافقها من وبائية، وراء ما انتشر على نطاق واسع من حمى صفراء وملاريا بكل من جزر الهايتي وكوبا والبرازيل ولويزيانا بأمريكا الشمالية وبعدد من مدن جنوبها، على امتداد الفترة ما بين بداية ستينات القرن السابع عشر وأواسط القرن التاسع عشر على محطات، مع أهمية الاشارة في هذا الاطار الى أنه خلال الحرب الأهلية الأمريكية حيث ستينات القرن التاسع عشر، قتل حوالي أربعمائة ألف جندي جزء هام منهم كان بسبب وباء الحمى الصفراء.
وعلى أساس ما حصل من ضربات وبائية قاتلة هنا وهناك من العالم خلال القرون الماضية، عمل الأروبيون على تطوير أنظمتهم واجراءاتهم ومؤسساتهم الصحية والطبية. فعلى اثر جائحة طاعون القرن الرابع عشر الشهير(1347) وعلى امتداد حوالي المائة سنة، اعتمدت جملة اجراءات وقائية لحصر انتشاره والحد من آثاره القاتلة والمدمرة لحياة الانسان. وخلال أواسط القرن الخامس عشر اعتمدت وطبقت مدن الشمال الايطالي ما يعرف حاليا ب"الحجر الصحي"، وبمكوناته واجراءاته الأساسية الخمسة أي الحد من انتقال الأفراد ثم الدفن الاجباري لقتلى الطاعون في حفر خاصة، مع تغطيتها بالجير الحي مع تخلص تام من متعلقاتهم الشخصية، ثم عملية عزل الموبوء بالطاعون في مستشفيات الأمراض المعدية، ثم فرض ضرائب بغرض توفير موارد مقاومة الجائحة وتقديم الخدمات الطبية والصحية وأخيرا ضمن الاجراءات الخمسة نجد تقديم مساعدات تم تخصيصها لمن تضررت حياته من هذه الجائحة، وفق ما أورد أحمد محمود عبد الجواد الذي سبقت الاشارة اليه، مع أهمية الاشارة في هذا السياق الى أن حاكم منطقة ميلانو الايطالية خلال سبعينيات القرن الرابع عشر، عمد الى عزل احدى المدن المصابة بالوباء من اجل الوقاية.
والشيء بالشيء يذكر كما يقال فإن ما حصل من حجر صحي بعدد من المدن الايطالية، ومن تعامل جديد مع الأوبئة على اثر طاعون أواسط القرن الخامس عشر يرجع الفضل فيه لتراكمات طب المسلمين في زمنهم الذهبي. ولعله ما عرفته أروبا من خلال ما حصل من اتصال لها بمراكز علمية اسلامية، وبواسطة هجرة عدد من رجال فكر وعلم وطب ايضاً تجاه المدن الايطالية بعد فتح القسطنطينية، ناهيك عما انتقل من بلاد الأندلس الاسلامية الى اروبا من معرفة علمية فضلاً عما حصل من انتقال لعلوم اسلامية عبر صقلية، ما يذكره مؤرخو الطب الأروبي المنصفين منهم تحديداً باعتبارها حقائق حول فضل بلاد العرب والمسلمين على الغرب. وفي هذا الاطار يصعب القفز على ما أسهم به كل من "الرازي" (849- 925م) وابن سينا( 980- 1037م) مثلاً، فما بلغه هؤلاء من معرفة طبية علمية ومؤلفات كانت بأثر وتأثير معبر على أروبا، بدليل ترجمة اعمالهم الطبية لعشرات المرات ما بين نهاية القرن الخامس عشر وأواسط القرن التاسع عشر. فمؤلف "الرازي" مثلاً الذي ضم ثلاثة وعشرين جزءا تعرض في عدد منها للأمراض المعدية من جرب وسل وجدام وجدري..، وفي حديثه عن هذه الأمراض الوبائية قسم المرضى الى مجموعتين لتجنب انتشارها، وهو ما كان وراء ظهور "الحجر الصحي" عند الأروبيين. أما ابن سينا من خلال مؤلفه الشهير "القانون" فقد شكل موسوعة حقيقية لجميع تفرعات الطب، وكانت اسهامات كل من "الرازي" و"ابن سينا" الطبية جزءا أساسياً ضمن مقررات الدراسات الطبية بأروبا في القرن التاسع عشر.
وفي علاقة بزمن الأوبئة جدير بالاشارة الى أن الطب الاسلامي والاطباء المسلمين كانوا بفضل على بلاد أروبا في هذا المجال، ذلك أنه كان بمدن بلاد الاندلس عدد من الأطباء المتخصصين في فروع عدة نذكر منهم أبو القاسم الزهراوي خلال القرن العاشر الميلادي وقد اشتهر بتخصصه في علم الجراحة، وهناك أيضاً مروان بن زهر خلال القرن الثاني عشر الميلادي ثم ابن رشد خلال الفترة نفسها. وهناك لسان الدين بن الخطيب خلال القرن الرابع عشر الميلادي وقد استخدم هذا الأخير مفهوم الوباء كنتيجة للعدوى، وهو ما كان غائبا عن الأروبيين خلال العصر الوسيط وعن كتاباتهم الطبية. علماً أن ابن الخطيب ترك وصفاً دقيقاً لطاعون 1348 الكبير أو جائحة هذه الفترة التي ضربت ضفاف البحر المتوسط شمالاً وجنوباً مع بلاد أروبا الوسطى والشمالية فقد كان معاصراً، وكانت له رسالة علمية حول الوباء والعدوى والانتشار عبر الاتصال. ولعل منطقية وعلمية ابن الخطيب في حديثه عن الوباء تتبين بشكل واضح من خلال ما أورده في هذه الفقرة:"فإن قيل كيف نسلم بدعوى العدوى، وقد ورد الشرع بنفي ذلك قلنا: لقد ثبت وجود العدوى والتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والاخبار المتواردة، هذه هي مواد البرهان. ثم انه غير خفي على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه، كذلك فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أو آنية فالقرط يتلف من علقه بأذنه ويبيد البيت بأسره، ومن البيت ينتقل المرض الى المباشرين، ثم الى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق، وأما مدن السواحل فلا تسلم أيضاً ان جاءها المرض عبر البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء."
والمهم والأهم الذي فيما أورده ابن الخطيب هو ما تعلق بمقاومة الأوبئة والوقاية منها، تلك التي تقوم على عزل مصابين وعزل مكان مصاب، مع ما يقتضيه الأمر من رقابة على نقل وتنقل قادم من أمكنة ووجهات موبوءة، ولعلها في شموليتها هي اجراءات ما يعرف بعمل"الحجر الصحي" الذي اعتمدته وطبقته المدن الايطالية خلال طاعون أواسط القرن الخامس عشر الشهير. ومن خلال ابن الخطيب وغيره مما سبق ذكره من الأطباء المسلمين، يتبين أن الطب الاسلامي كان على دراية معبرة بالأوبئة و"الحجر الصحي" و"العزل الصحي" منذ القرن العاشر الميلادي كزمن ذهبي لعلوم المسلمين. مع أهمية الاشارة الى أن طب هؤلاء كانت له مراكزه شرقاً من خلال مدن بخارى وبغداد ودمشق والقاهرة وبالجهة الغربية من البلاد الاسلامية حيث الأندلس. ما انتقل كما تذكره وثائق وكتب التاريخ عبر التجارة والترجمة الى بلاد أروبا، فبعد سقوط طليطلة مثلاً بداية العقد الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي اصبح ما كان بها من كنوز فكر وعلوم اسلامية في متناول الأروبيين. ليبقى واضحاً أن الأطباء المسلمين، كانوا مبتكرين رئيسيين لما يمكن نعته بالنظرية العامة للعدوى ولعلم الأوبئة في معناه الحديث. وأن هؤلاء كانوا وراء وضع قواعد المقاومة والرقابة الوبائية الأساسية، وأنه أولاً وأخيرا لهؤلاء يعود فضل ابتكار "الحجر الصحي" المعتمد في زمن الأوبئة كالتي نوجد على ايقاعها ويوجد عليه العالم كاملاً منذ حوالي الشهرين نسأل الله العفو والعافية.
عضو مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.