الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لمَّا كان طب الشرق رافعاً لطب أوبئة الغرب..
نشر في لكم يوم 29 - 03 - 2020

وضع وبائي رهيب وفصول قاسية مقلقة لفيروس يضرب عالمنا من محيطه الى محيطه، تطورات بقدر ما هي عليه من طوارئ صحية تروم احتواء الوباء مع ما يرافقها أيضاً من اجراءات احترازية لمحاصرته ومنع انتشاره، بقدر ما يدفعنا واقع الحال هذا لوقفة تأمل تجاه ماضينا والسؤال حول ما طبع تاريخنا من بؤر وباء ووقائع وتماسات، ومن سبل وقاية أيضاً خلال فترات أزمات من حين لأخر كلما حصلت جائحة، منها من حصدت ملايين القتلى تشهد كتب التاريخ على ما كانت عليه من رعب وهول انتشار وقوة نزيف.
تفاعلا مع هذا وذاك وفي ذات الوقت منفتحين على عِبر تاريخنا ونحن نعيش وقع فيروس كورونا"كوفيد 19″، ارتأينا ورقة تجمع بين وباء وتاريخ وأمكنة وطب وقاية وتلاقح علم وعلماء وأطباء. ونعتقد أنه من المفيد بدءاً الاشارة الى شبه اجماع باحثين دارسين أطباء، على أن علم الأوبئة هو ذلك الذي يهتم بدراستها في حالاتها العامة وليست الخاصة الفردية. وأنه بقدر اهتمامه بأسباب العدوى بقدر ما يستحضر أمرين أساسيتين. انتشار الوباء في الأمكنة وبين الجماعات بما في ذلك من علاقة بأعمار واثنيات وجنس..الخ، ثم أسباب الوباء وانتقاله ومن هنا فهو يجمع بين أسئلة عدة تهمه باستثناء ما يتعلق أعراضه وسبل الشفاء منه.
وفي علاقة وثيقة بالأوبئة تعد حركة الانسان من عوامل انتشارها الأساسية تاريخياً، فقد كان تنقل الناس على اختلاف أنشطتهم ومهامهم سبباً في انتشار الوباء على مساحات واسعة. والثابت تاريخيا أن هؤلاء بقدر ما يأخذونه معهم من أوبئة ويكونوا سبباً في اتساع مجالها بقدر ما يكتسبوا أوبئة بالمقابل يعملون على نشرها. وفي هذا الاطار من المفيد استحضار ما ورد في عدد من الدراسات، حول ما حصل في التاريخ وبخاصة خلال أواسط القرن الرابع عشر الميلادي، عندما أبحرت سفن على متنها عدد من التجار من ميناء "كريميا" عن البحر الأسود وكان موبوءاً بالطاعون. وحصل أن حطت بعض هذه السفن التجارية بموانئ ايطاليا فعم وباء انتقل الى انجلترا، فكان ما كان من جائحة ودمار بشري تكرر ظهوره في صور أوبئة استمرت لحوالي أربعة قرون. وكان ما ضرب أروبا خلال هذه الفترة من وباء سبباً في نزيف ديمغرافي فضيع. بل الأمر لم يبق مقتصراً على شمال البحر المتوسط، بل انتقلت الجائحة جنوباً حيث مصر وغيرها من البلاد ما تكرر لعدة مرات بالمنطقة الى غاية القرن التاسع عشر. فصول وبائية كانت بنزيف بشري كبير وانهيار جاء على أخضر ويابس من الانسان، على امتداد فترات من القرن الرابع عشر الميلادي حتى التاسع عشر. مع أهمية الاشارة لِما ساعد على انتقال جائحة هذه الفترة وتأثيرها من قحط وجفاف، وفق ما أورده محمود عبد جواد في تقديم خص به ترجمة لدراسة على درجة عالية من الأهمية حول الموضوع.
ومن جملة ما تذكره كتب التاريخ حول وباء 1347م مثلاً :"في صيف هذه السنة اعتلت الفئران والبراغيت المصابة بالطاعون متن السفن التجارية الجنوية (الايطالية) في كافا (ميناء بالبحر الأسود)، وفي هذه السنة مرت بعض هذه السفن عبر الدردنيل ثم رست في صقلية وبعد ذلك ابحرت الى بيزا وجنوا ومرسيليا، وبعض هذه السفن الجنوية أبحرت الى من كافا الى مصبات نهر النيل بمصر. وخلال بضعة أشهر بدأ وباء من نوع غير معروف في قتل الرجال والنساء والاطفال على جانبي البحر المتوسط. وبنهاية عام 1348 بدأ هذا الطاعون في مهاجمة السكان على طول شواطئ المحيط الأطلسي وبحر البلطيق، بعد ذلك صعد الى الأنهار وعلى طول الممرات وعبر الحقول حتى وصل الى الأروبيين الذين يعيشون في عمق الداخل." وقد ورد أيضاً عن هذا الوباء الذي بلغ بلاد مصر عام 1347:" بدأت الوفيات في سينا في ماي 1348 كان هذا فضيعاً وقاسياً.. هجرة الآباء للأبن والزوجة والزوج، ليس هناك من يقوم بدفن الموتى..وفي العديد من الأماكن في سينا وجدت حفر كبيرة أعدت وكومت بها أعداد كبيرة من الموتى…وكان هناك فقراء غطوا بالتراب ونبشت جثثهم الكلاب وأخذوا يلوكونها في المدينة، ولم يكن هناك أي أحد يبكي على أي ميت حيث توقع كل واحد أنه يموت."
وعندما يتعلق الأمر بأمكنة موبوءة يتحدث الباحثون المتخصصون على أنه مع كل انتقال من منطقة ما إما خالية من الوباء أو ما هو بها ضعيف باتجاه أخرى شديدة الاصابة، فإن وضع الوباء والتجربة معه مقارنة مع من هو موبوء من السكان الأصليين للمنطقة، كثيراً ما تكون رهينة بما يحمله هؤلاء معهم من مناعة وبائية وعادات ونمط تغذية وغيره، ومن هنا يتحدث المتخصصون عما يحصل من استجابات مختلفة لتأثيرات ضارة في منطقة مستقبلة انتقلوا اليها، بحيث غالباً ما تظهر عليهم أعراض جديدة بسبب البيئة الجديدة. كما أنه مع انتقال جماعة ما من منطقة موبوءة بشدة الى منطقة ضعيفة أو منعدمة الاصابة، فما يسجل في مثل هذه الحالات هو كون السكان الأصليين كثيراً ما يتعرضون لضربة وبائية قوية بسبب غياب مناعتهم، ولعله ما حدث عند هجرة الأروبيين تجاه الأمريكيتين وما حدث بها من جذري وزهري وانفلونزا، ما ترتب عنه انهيار ديمغرافي من شدة الاصابة وبالتالي وفيات على قدر كبير لدرجة انقراض ساكنة بعض المناطق.
وكانت بعض الدراسات على درجة من الجرأة في حديثها عن أوبئة ضربت عدداً من جهات العالم خلال القرون الأخيرة، من خلال ما أوردته من علاقة بين ما حصل من دمار وبائي وأطماع وتوسعات استعمارية لوضع اليد على ثروات شعوب بقارة افريقيا وأسيا وأمريكا. عبر ما تم نقله من أمراض جديدة تم نشرها في صور أوبئة بمناطق وشعوب عن طريق عمليات غزو وتوغلات وتسربات بما يعني نفس الهدف، فضلاً عما حصل من تجارة عبيد شهيرة بين افريقيا وامريكا مثلاً، ومن هنا ما حصل من تفكيك لأنماط عيش شعوب ونظم حياة ومقومات تفاعل. وعليه، فإن ما يذكره التاريخ من ابادة لشعوب لم يكن عبر ما هو عسكري فقط بل وبائي أيضاً وقد يكون الثاني أكثر دماراً وقوة من الأول. وتذكر كتب التاريخ أن ما ظهر من أوبئة لدى الشعوب التي تم استعمارها، جمع بين طاعون وجذام لكوليرا وزهري وجذري وحمى صفراء وملاريا وغيرها، مع أهمية الاشارة الى أن من الأوبئة ما انتشر وينتشر عبر حشرات وعدوى مباشرة وعبر الجهاز الهضمي والجنسي كما بالنسبة للزهري.
وكان انتقال الانسان من جهة لأخرى دوما سبباً في انتقال جوائح عدة والذاكرة الوبائية الجماعية العالمية مليئة بتجارب ونماذج، فالتاريخ يذكر أن انتقال الكوليرا الى انجلترا حصل عن طريق التجارة وتنقل التجار مع تأسيس شركة بالهند "الهند الشرقية". فقد حصل أن ظهر وباء قاتل بهذه البلاد نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر أتى على حوالي خمسة وعشرين مليون فرد، قبل أن ينتقل الى انجلترا بداية ثلاثينات القرن نفسه ويأتي على حوالي مائة وثلاثين ألف فرد. مع أهمية الاشارة هنا الى أن انجلترا تعرضت لهذا الوباء خمس مرات خلال القرن التاسع عشر عن طريق جنودها وموظفيها في ادارة الاحتلال. ويذكر أنه بعد وصول كريستوف كولمب الى القارة الأمريكية وبعد تدفق لآلاف الابيريين عليها وكانوا حاملين للجذري، وصل الوباء الى أمريكا الوسطى نهاية العقد الثاني من القرن السادس عشر، والى بلاد المكسيك بداية عشرينيات نفس القرن والى بلاد الأنكا في نهاية عشرينات نفس الفترة، وهو ما كان بأثر كبير في دمار وابادة شعوب أصلية مع هجرة بعضها الى وجهات أخرى، لدرجة الحديث عن انقراض حوالي تسعين بالمائة من شعوب الأمريكيتين.
وليس سهلاً القفز على ما كان لتجارة العبيد بين افريقيا وامريكا من أثر في انتقال الوباء الشهير بالحمى الصفراء والملاريا الى شعوب الأمريكيتين ومعها حتى مسببات هذه الأوبئة، علما أن تجارة العبيد هذه حصلت مع بداية ثلاثينات القرن السابع عشر نظرا لما كان عليه الاسبان من حاجة لليد العاملة من اجل زراعة قصب السكر بعد احتلالهم للأمريكيتين. وغير خاف تاريخياً أيضاً أنه منذ سبعينات هذا القرن والى غاية نهاية القرن التاسع عشر، تم نقل ما يقرب من ثلاثين مليون افريقي عن الواجهة الغربية للقارة. وكانت عملية التهجير هذه وما رافقها من وبائية، وراء ما انتشر على نطاق واسع من حمى صفراء وملاريا بكل من جزر الهايتي وكوبا والبرازيل ولويزيانا بأمريكا الشمالية وبعدد من مدن جنوبها، على امتداد الفترة ما بين بداية ستينات القرن السابع عشر وأواسط القرن التاسع عشر على محطات، مع أهمية الاشارة في هذا الاطار الى أنه خلال الحرب الأهلية الأمريكية حيث ستينات القرن التاسع عشر، قتل حوالي أربعمائة ألف جندي جزء هام منهم كان بسبب وباء الحمى الصفراء.
وعلى أساس ما حصل من ضربات وبائية قاتلة هنا وهناك من العالم خلال القرون الماضية، عمل الأروبيون على تطوير أنظمتهم واجراءاتهم ومؤسساتهم الصحية والطبية. فعلى اثر جائحة طاعون القرن الرابع عشر الشهير(1347) وعلى امتداد حوالي المائة سنة، اعتمدت جملة اجراءات وقائية لحصر انتشاره والحد من آثاره القاتلة والمدمرة لحياة الانسان. وخلال أواسط القرن الخامس عشر اعتمدت وطبقت مدن الشمال الايطالي ما يعرف حاليا ب"الحجر الصحي"، وبمكوناته واجراءاته الأساسية الخمسة أي الحد من انتقال الأفراد ثم الدفن الاجباري لقتلى الطاعون في حفر خاصة، مع تغطيتها بالجير الحي مع تخلص تام من متعلقاتهم الشخصية، ثم عملية عزل الموبوء بالطاعون في مستشفيات الأمراض المعدية، ثم فرض ضرائب بغرض توفير موارد مقاومة الجائحة وتقديم الخدمات الطبية والصحية وأخيرا ضمن الاجراءات الخمسة نجد تقديم مساعدات تم تخصيصها لمن تضررت حياته من هذه الجائحة، وفق ما أورد أحمد محمود عبد الجواد الذي سبقت الاشارة اليه، مع أهمية الاشارة في هذا السياق الى أن حاكم منطقة ميلانو الايطالية خلال سبعينيات القرن الرابع عشر، عمد الى عزل احدى المدن المصابة بالوباء من اجل الوقاية.
والشيء بالشيء يذكر كما يقال فإن ما حصل من حجر صحي بعدد من المدن الايطالية، ومن تعامل جديد مع الأوبئة على اثر طاعون أواسط القرن الخامس عشر يرجع الفضل فيه لتراكمات طب المسلمين في زمنهم الذهبي. ولعله ما عرفته أروبا من خلال ما حصل من اتصال لها بمراكز علمية اسلامية، وبواسطة هجرة عدد من رجال فكر وعلم وطب ايضاً تجاه المدن الايطالية بعد فتح القسطنطينية، ناهيك عما انتقل من بلاد الأندلس الاسلامية الى اروبا من معرفة علمية فضلاً عما حصل من انتقال لعلوم اسلامية عبر صقلية، ما يذكره مؤرخو الطب الأروبي المنصفين منهم تحديداً باعتبارها حقائق حول فضل بلاد العرب والمسلمين على الغرب. وفي هذا الاطار يصعب القفز على ما أسهم به كل من "الرازي" (849- 925م) وابن سينا( 980- 1037م) مثلاً، فما بلغه هؤلاء من معرفة طبية علمية ومؤلفات كانت بأثر وتأثير معبر على أروبا، بدليل ترجمة اعمالهم الطبية لعشرات المرات ما بين نهاية القرن الخامس عشر وأواسط القرن التاسع عشر. فمؤلف "الرازي" مثلاً الذي ضم ثلاثة وعشرين جزءا تعرض في عدد منها للأمراض المعدية من جرب وسل وجدام وجدري..، وفي حديثه عن هذه الأمراض الوبائية قسم المرضى الى مجموعتين لتجنب انتشارها، وهو ما كان وراء ظهور "الحجر الصحي" عند الأروبيين. أما ابن سينا من خلال مؤلفه الشهير "القانون" فقد شكل موسوعة حقيقية لجميع تفرعات الطب، وكانت اسهامات كل من "الرازي" و"ابن سينا" الطبية جزءا أساسياً ضمن مقررات الدراسات الطبية بأروبا في القرن التاسع عشر.
وفي علاقة بزمن الأوبئة جدير بالاشارة الى أن الطب الاسلامي والاطباء المسلمين كانوا بفضل على بلاد أروبا في هذا المجال، ذلك أنه كان بمدن بلاد الاندلس عدد من الأطباء المتخصصين في فروع عدة نذكر منهم أبو القاسم الزهراوي خلال القرن العاشر الميلادي وقد اشتهر بتخصصه في علم الجراحة، وهناك أيضاً مروان بن زهر خلال القرن الثاني عشر الميلادي ثم ابن رشد خلال الفترة نفسها. وهناك لسان الدين بن الخطيب خلال القرن الرابع عشر الميلادي وقد استخدم هذا الأخير مفهوم الوباء كنتيجة للعدوى، وهو ما كان غائبا عن الأروبيين خلال العصر الوسيط وعن كتاباتهم الطبية. علماً أن ابن الخطيب ترك وصفاً دقيقاً لطاعون 1348 الكبير أو جائحة هذه الفترة التي ضربت ضفاف البحر المتوسط شمالاً وجنوباً مع بلاد أروبا الوسطى والشمالية فقد كان معاصراً، وكانت له رسالة علمية حول الوباء والعدوى والانتشار عبر الاتصال. ولعل منطقية وعلمية ابن الخطيب في حديثه عن الوباء تتبين بشكل واضح من خلال ما أورده في هذه الفقرة:"فإن قيل كيف نسلم بدعوى العدوى، وقد ورد الشرع بنفي ذلك قلنا: لقد ثبت وجود العدوى والتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والاخبار المتواردة، هذه هي مواد البرهان. ثم انه غير خفي على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه، كذلك فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أو آنية فالقرط يتلف من علقه بأذنه ويبيد البيت بأسره، ومن البيت ينتقل المرض الى المباشرين، ثم الى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق، وأما مدن السواحل فلا تسلم أيضاً ان جاءها المرض عبر البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء."
والمهم والأهم الذي فيما أورده ابن الخطيب هو ما تعلق بمقاومة الأوبئة والوقاية منها، تلك التي تقوم على عزل مصابين وعزل مكان مصاب، مع ما يقتضيه الأمر من رقابة على نقل وتنقل قادم من أمكنة ووجهات موبوءة، ولعلها في شموليتها هي اجراءات ما يعرف بعمل"الحجر الصحي" الذي اعتمدته وطبقته المدن الايطالية خلال طاعون أواسط القرن الخامس عشر الشهير. ومن خلال ابن الخطيب وغيره مما سبق ذكره من الأطباء المسلمين، يتبين أن الطب الاسلامي كان على دراية معبرة بالأوبئة و"الحجر الصحي" و"العزل الصحي" منذ القرن العاشر الميلادي كزمن ذهبي لعلوم المسلمين. مع أهمية الاشارة الى أن طب هؤلاء كانت له مراكزه شرقاً من خلال مدن بخارى وبغداد ودمشق والقاهرة وبالجهة الغربية من البلاد الاسلامية حيث الأندلس. ما انتقل كما تذكره وثائق وكتب التاريخ عبر التجارة والترجمة الى بلاد أروبا، فبعد سقوط طليطلة مثلاً بداية العقد الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي اصبح ما كان بها من كنوز فكر وعلوم اسلامية في متناول الأروبيين. ليبقى واضحاً أن الأطباء المسلمين، كانوا مبتكرين رئيسيين لما يمكن نعته بالنظرية العامة للعدوى ولعلم الأوبئة في معناه الحديث. وأن هؤلاء كانوا وراء وضع قواعد المقاومة والرقابة الوبائية الأساسية، وأنه أولاً وأخيرا لهؤلاء يعود فضل ابتكار "الحجر الصحي" المعتمد في زمن الأوبئة كالتي نوجد على ايقاعها ويوجد عليه العالم كاملاً منذ حوالي الشهرين نسأل الله العفو والعافية.
عضو مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.