قال محمد الساسي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن ما جرى داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هو نموذج حي لما سماه هو نفسه "الديمقراطية بأثر رجعي"، مشيرا إلى أن "الأشياء كانت تتغير فعلا، ثم ينعقد المؤتمر لتزكيتها"، في إشارة إلى أن المؤتمرات لم تكن لحسم التوجهات أو تغيير السياسات، بل فقط لإضفاء الشرعية على قرارات اتخذتها القيادة مسبقا. وأضاف الساسي، في مداخلته خلال حفل تكريم الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بالرباط، مساء الجمعة 16 ماي 2025، أن الأصل في العمل الحزبي أن تكون المؤتمرات لحظة للمحاسبة وتقييم الخيارات وطرح البدائل، لا مناسبة للتصفيق وتمرير ما تقرر سلفا. وسجل أن هذه المفارقة تجسدت في المؤتمر السادس للحزب، الذي جاء بعد 12 سنة من انعقاد المؤتمر الخامس، دون أن يطال التغيير لا القيادة ولا البنية، بل تمت إعادة إنتاج نفس الأشخاص بنفس الآليات، قائلا: " يوم انعقد المؤتمر السادس كان كل شيء قد تغير، تغير الخط السياسي وتغيرت الأمور، ثم انعقد المؤتمر لتزكية ذلك".
وأوضح الساسي أن هذا النمط من تدبير الحياة الحزبية لا يفرز ديمقراطية حقيقية، بل يؤسس لزعامة تاريخية لا تُراجع ولا تُحاسب، مشيرا إلى أن بعض القادة، ورغم ما راكموه من شرعية نضالية، تحولوا إلى رموز للقرار غير القابل للنقاش داخل الحزب، لا بسبب نزوع استبدادي بالضرورة، ولكن لأن المحيط الحزبي ساعدهم على ذلك. وقال: "كنا نحن من نحبهم، ونحن من تركنا لهم هذا الامتياز"، لافتا إلى أن القيادة المركزية كانت هي من تعين مدير الجريدة، وتحدد المواقف، وتدير التنظيم من أعلى، دون تداول فعلي للسلطة. واعتبر أن لحظة تعيين عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أول شكلت اختبارا حقيقيا لهذه الديمقراطية الداخلية، إذ جرى استقبال اليوسفي من قبل الملك قبل انعقاد اللجنة المركزية، ما جعل البعض يطرح سؤالا جوهريا: هل الاجتماع لتزكية التعيين، أم لاتخاذ قرار بالمشاركة في الحكومة؟ وقال الساسي إن نجيب أقصبي ورفاقه أثاروا حينها نقطة نظام مهمة: "في حالة ما إذا قررت اللجنة المركزية عدم المشاركة، فهل سيتراجع الملك عن التعيين؟"، مؤكدا أن اليوسفي لم يجب على هذا السؤال، لأن الشروط التي شارك بها كانت تفترض القبول المسبق بالأمر الواقع. وعاد الساسي إلى مرحلة السبعينات التي تشكل خلفية التكوين الفكري والسياسي لنجيب أقصبي، قائلا إنه ينتمي إلى جيل حمل شعارات واضحة ضد ما كان يُسمى بالنظام "اللاوطني، اللاديموقراطي، اللاشعبي". وأضاف أن أقصبي، إلى جانب نشاطه الفكري، كان من المناضلين الفاعلين في بناء الشبيبة الاتحادية، كما ساهم في بلورة البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لأحزاب الكتلة الديمقراطية، الذي ضم أكثر من 700 إجراء، مشيرا إلى أن أقصبي كان عضوا في اللجنة المركزية للحزب، ومقررا للجنة الاقتصادية، وكان دائما يحتفظ بحس نقدي داخل الاجتماعات. وقال الساسي إن من أبرز المحطات التي بصمت علاقة نجيب أقصبي بالحياة الحزبية، رفضه التوجه نحو المشاركة الحكومية دون حسم موقف القواعد، مشيرا إلى أنه خاض نقاشا مع محمد نوبير الأموي، الذي طلب التريث، لكن أقصبي أصر قائلا: "يجب أن نختم المداولات بالتصويت، حتى لو صوتت لوحدي". وانتهى الأمر فعلا بقبول هذا الطرح، وهو ما جعل الصحافة تطلق على المجموعة التي لم تصوت لصالح المشاركة اسم "عصابة الأربعة"، وكان أقصبي أبرزهم إلى جانب سي خليل وسيمح النعيمي وآخرين. وأشار الساسي إلى أن هذه المحطة كانت تمهيدا لما سيعرف لاحقا بتقديم "وثيقة الوفاء للديمقراطية"، وهي وثيقة صاغها نجيب أقصبي برفقة عدد من رفاقه، تقترح لأول مرة أن تُعرض أكثر من وثيقة أمام المؤتمر، وأن يتم التصويت عليها من طرف القواعد، في إطار تعددي يضمن حرية الخيار. وقال الساسي إن أقصبي لم يكن ينازع في الأشخاص، بل في شرعية الوسائل، وكان يقول دائما: "يجب أن تكون الوسائل ديمقراطية". لكن قيادة الحزب رفضت مناقشة الوثيقة، ولم تُعرض على التصويت، وهو ما دفع أصحابها إلى تحويلها إلى تيار سياسي داخل الحزب، دون الانفصال عنه. وأكد الساسي أن هذه الوثيقة كانت تطرح بوضوح ضرورة الانتقال من منطق الزعامة التاريخية إلى منطق الزعامة الديمقراطية، أي من القائد الذي يملك شرعيته من تاريخه الشخصي، إلى القائد الذي يُحاسب على أدائه في المؤسسات. وأشار إلى أن نجيب أقصبي كان يعبر عن هذا التصور منذ نهاية التسعينات، من خلال مقالات ومحاضرات واقتراحات تنظيمية ظلت مهمشة. وسجل الساسي أن عددا من المقترحات التي طالب بها أقصبي ورفاقه داخل الحزب، مثل حرية الترشح، تحديد عدد الولايات، النشر العلني لمحاضر الاجتماعات، محاربة تراكم المسؤوليات، ضمان تمثيلية النساء، إعمال مبدأ التنافي، لم تلق آذانا صاغية داخل القيادة، لكن المفارقة، كما قال الساسي، أن وزارة الداخلية نفسها ستفرض لاحقا عددا من هذه الإجراءات ضمن أول قانون للأحزاب سنة 2006. وأضاف: "ساهمنا في دفع الدولة إلى أن تدفع الأحزاب إلى قبول ما كانت ترفضه"، معتبرا أن الديمقراطية الداخلية لم تكن وليدة إرادة حزبية، بل ضغطا قانونيا من الخارج. وقال الساسي إن التجربة الحزبية، وخاصة في الاتحاد الاشتراكي، كشفت أن النضال من أجل الديمقراطية داخل الأحزاب كان في أحيان كثيرة أصعب من النضال ضد الدولة، معتبرا أن بعض الخروقات التي كانت تُمارس من قبل السلطة، أصبحت تُمارس داخل الحزب ذاته، باستعمال نفس الوسائل. وأضاف: "الخروقات التي كنا نواجهها خارج الحزب، وجدناها تُمارس داخل الحزب نفسه". كما توقف الساسي عند أزمة الوسائل السياسية، متسائلا: "هل يمكن الوصول إلى أهداف نبيلة بوسائل واطئة؟"، مضيفا أن معاركهم داخل الاتحاد الاشتراكي كانت تتعلق دائما بقيمة التعاقد مع المواطنين: هل يمكن التراجع عن الالتزامات بدعوى الظروف الاستثنائية؟ وهل يمكن تأجيل الديمقراطية باسم الحكمة التنظيمية؟ وهي الأسئلة التي شكلت صلب "التمرين الأخلاقي" الذي خاضه أقصبي ورفاقه. واعتبر الساسي أن الحزب الذي نادى به نجيب أقصبي منذ أكثر من عقدين، والذي أسماه ب"الحزب من نمط جديد"، لم يُبن بعد، بل لا تزال شروطه غائبة، مضيفا أن هذا الحزب يجب أن يضمن حرية الاختلاف، والتداول الحقيقي على المسؤوليات، وإعمال مبدأ المحاسبة، وربط السياسة بالمجتمع لا فقط بالسلطة. وختم قائلا: "أفكار نجيب أقصبي لا تزال تحافظ على راهنيتها، بل أصبحت اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى".