مع اندلاع فضيحة أستاذ الماسترات، أو كما يحب أن ينعته المغاربة ب"مول الماسترات"، رجعتْ بي الذاكرة إلى تجربة مريرة عشتها، منذ سنوات، مع مقابلات الشفوي بإحدى الجامعات المغربية. حيث لم أتفوق، كل مرة، بسبب الحيف الذي تمارسه اللجان المُمتحِنة. وقد "نصحني" أحد الأصدقاء بسلوك طريق الزلفى، عبر سماسرة يعرفون كيف ينالون رضى أعضاء هذه اللجان باعتبار أن هذه السبيل، حسب زعمه، أضحت السبيل الوحيدة القمينة بالنجاح، خصوصا مع بعض اللجان المعروفة لدى الطلبة. فكنت، كل مرة، أدفع هذه "النصيحة" بكوني لست من الطينة التي تبنى مسارها العلمي والأكاديمي والمهني على العلاقات المحرمة، أو التدخلات المُهينة. فالله طيب لا يقبل إلا طيبا. ولو شئت سلوك هذه السبيل لفعلت منذ زمن، ولنِلْتُ من حظوات الدنيا الشيء الكثير، ولكن الحرام يبقى حراما ولو فعله كل الناس !. في إحدى المرات التي تقدمت فيها لاجتياز مباراة الولوج إلى سلك الماستر، ظللت أياما ولياليَ أعد لهذه المباراة بجد ومصابرة كبيرين، حيث كنت ألتهم واقرأ كل ما يقع بين يدي مما حسبت أنه قد يسعفني في المرور بسلاسة عبر هذا الامتحان؛ من مراجع وكتب تحيل على التخصص. فلم أدع مرجعا أو بحثا وقع بين يدي، إلا اطلعت عليه. وظننت أنني قد أحطت بما سيسعفني للإجابة الجامعة المانعة، خلال المباراة الكتابية، التي تفوقت فيها، ثم الشفوية بعد ذلك. غير أن المفاجأة، التي أسقطت في يدي، وألجمت فكري، وأطبقت لساني، أن كل ما راكمته من معارف وأفكار تطلبت مني ساعات وأياما، لا فائدة منه إطلاقا أمام لجنة غير مبالية تماما، يترأسها أستاذ، قيل لي فيما بعد: إنه منسق الماستر !!. يضع رِجلا على رِجل، ويجلس على كرسي تاركا حمله كله إلى الوراء، وبنظرات شاخصة، ووجه مُتجهِّم، وملامحَ بلا تعبير؛ طرح علي سؤالا مفاجئا، وأنا بصدد التعريف بنفسي. وقبل أن أتم الجواب بادرني زميله، بسؤال آخر سهل ممتنع، أربك متابعتي، وأسقط في يدي، لأنني لم أكن أتخيل أن الامتحان الشفوي، الذي يفترض أن يكون اختبارا لمستوى الطالب المُمْتحَن، مما يتطلب تمكينه من وقت ضافٍ للجواب عن الأسئلة، من أجل اختبار مخزونه الفكري والمعرفي، وأسلوبه في الاستدلال والبرهان على ما يقول؛ يكون بهذه البهلوانية السمجة في طرح الأسئلة، ومعاملة الممتحَنين، وفي غياب تام لمبدأ تكافؤ الفرص، الأسُّ الذي تبني عليه المنظومة التربوية فلسفتها الإصلاحية. وكأني بهذه اللجنة في عجلة من أمرها، تسعى لتمرير أكبر عدد ممكن من الممتحَنين، في أقل وقت ممكن، ثم تخلص إلى اختيار العدد المطلوب، والمعلوم سلفا(!(، دون اعتبار للكفاءات العلمية، أو المعرفية. فأنا، شخصيا، كنت سأضع أمام أنظار هذه اللجنة اهتماماتي الفكرية والعلمية التي تلخصها إصداراتي التربوية والفكرية، والتي كان آخرها مؤلَّفا حملته معي لأعرضه على أنظار اللجنة، وبحثا أكاديميا، فضلا عن عشرات المقالات الفكرية والثقافية والتربوية، وحتى السياسية، بالإضافة إلى عرض ألخص فيه الأسباب الثاوية خلف اختياري لهذا الماستر، وآفاق البحث فيه،… لكن للأسف، لم تسمح لي بمجرد التقاط أنفاسي، لتبادرني بسؤال تلو سؤال، في استفزاز غير مفهوم. ولقد اشتكى لي بعض من صادفت من الطلبة قريبا من هذا. وهو السلوك الذي يظهر أن هذه اللجنة تعتمده، بشكل ممنهج، مع من "لاحاجة لها به"، والذي كان له، بلا شك، ضحايا كثر. إنني أكاد أجزم أن هذا الظلم/الفساد هو أعظم وأشد ما قد يتعرض له طالب علم. فحينما تكون وحيدا تقاوم عبث جماعة مُتحكِّمة، تعاملك في حضرتها كورقة مستهلكة، وتحكم عليك، قبل أن تختبرك، بأنك خارج اللائحة المحظوظة، لأنك اخترت أن تدخل البيت من بابه، وتعتمد على شطارتك العلمية لا على علاقاتك المحترمة جدا(!). وحينما تُحَوِّل نباهتك، وكفاءتك، إلى موضع الرَّف؛ تُحِس آنئذٍ أن السكين قد بلغت العظم، وأن الظلم قد تجاوز مداه. لقد وقفوا عثرة في طريقنا، وحكموا على كفاءتنا، رجما بالغيب، دون تحقق ولا اختبار. فموعدنا معهم يوم يقوم الأشهاد. "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".. ! أخيرا، لا يفوتني أن أهمس في أذن أولئك الطلبة الذين حركوا الهواتف، والأقارب، والأصدقاء،… لنيل هذه الحظوة (النجاح): إنكم بفعلتكم هذه قد سرقتم مقاعد ليست لكم، و ارتميتم على حقوق غيركم. فانتظروا لعنة ستتبعكم إلى قبوركم. ويوم يُنادَى عليكم :"وقفوهم إنهم مسؤولون"، ستعلمون أي جرم ارتكبتم، وأي ظلم اقترفتم في حق إخوانكم.. !. أما عن "مول الماسترات"، وقبله " مول الجنس"، فليسا سوى الشجرة التي تخفي الغابة، كما يقول الفرنسيون، وإلا فما خفي أعظم. ولكل مظلوم عند ربه العَوَض، ولمن ظلمه؛ لجنة كانت، أو أستاذا متنفذا، أو صاحب وساطة ارتمى على مقعده فحرمه إياه،… نقول: موعدنا معكم ليس في الدنيا، ولكن هناك عند أحكم الحاكمين، حيث تجتمع الخصوم.. وكفى!!. كما لا يفوتني، أخيرا، أن أتوجه بالتقدير الصادق، والامتنان البليغ، لأساتذة نزهاء، شرفوا الجامعة المغربية، جمعتنا بهم سنوات الدراسة الجامعية خلال ثمانينيات القرن الماضي، كانوا فرسان علم حقيقيين، لم يأخذوا من هذه الدنيا إلا القليل، وأعطوا من جهدهم، وعلمهم، ومالهم، الشيء الكثير؛ "منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا"… تحية لهم في الأولين، وتحية لهم في الآخرين! ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لَا يَعْلَمُونَ﴾ دمتم على وطن.. !