برز المغرب في عام 2024 كوجهة استثمارية صاعدة على مستوى القارة الإفريقية، محتلا المرتبة الثالثة عشرة في تصنيف الدول الأكثر استقبالا للاستثمار الأجنبي المباشر، وفقا الاستثمار العالمي الصادر عن مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لعام 2025. وأوضح التقرير أن المغرب سجل خلال عام 2024 أداء لافتا على صعيد جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث بلغت تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلى المملكة حوالي 1.64 مليار دولار أمريكي، ما يعادل نحو 15.8 مليار درهم مغربي، محققا بذلك نموا بنسبة 55 بالمائة مقارنة بعام 2023 الذي سجل فيه 1.4 مليار دولار.
وبحسب تقرير الأونكتاد، فقد تمكن المغرب من احتلال المركز الثاني على مستوى شمال إفريقيا، خلف مصر التي تصدرت القارة ب46.6 مليار دولار بفضل اتفاق تمويلي ضخم مع صندوق أبوظبي للتنمية، ومتقدما على الجزائر التي استقطبت 1.43 مليار دولار، وتونس ب936 مليون دولار. وأشار تقرير الاستثمار العالمي إلى أن المغرب يستفيد من عدة عوامل مهيكلة، أهمها استقراره السياسي والاقتصادي، والتصنيفات الإيجابية التي يحظى بها من قبل وكالات التصنيف الائتماني، وهو ما أسهم في تعزيز ثقة المستثمرين الأجانب في السوق المغربية. وأبرز التقرير ذاته أن المغرب يستند إلى نسيج اقتصادي متنوع، حيث شكلت المناطق الصناعية المتكاملة مثل طنجة المتوسط، والقنيطرة، ومنطقة "أتلانتيك فري زون" عناصر رئيسية في جذب المستثمرين، لاسيما في قطاعات السيارات، والطيران، والإلكترونيات. كما سلط التقرير الضوء على بروز المغرب كمركز مالي إقليمي من خلال مبادرة "كازابلانكا فاينانس سيتي"، التي تمثل رافعة مؤسساتية مهمة في توجيه الاستثمارات نحو البلاد. مع ذلك، لا يزال المغرب، وفق تقرير الأونكتاد، يواجه مجموعة من العراقيل البنيوية التي تحول دون بلوغه أقصى طاقاته الاستثمارية. إذ أشار التقرير إلى استمرار التعقيدات الإدارية والتنظيمية، وارتفاع تكلفة الولوج إلى العقار الصناعي، فضلا عن غياب الوضوح القانوني والضريبي في بعض القطاعات، إلى جانب التأثير السلبي للاقتصاد غير المهيكل في عدد من سلاسل القيمة. وعلى الرغم من هذه الإشكاليات، فقد بين التقرير أن المغرب تمكن من الحفاظ على ثقة المستثمرين الدوليين في سياق عالمي موسوم بعدم الاستقرار الجيوسياسي وارتفاع كلفة التمويل، وهو ما يعكس مرونة بنيته الاقتصادية. ويأتي هذا الأداء المغربي في إطار طفرة عامة على مستوى القارة الإفريقية، إذ سجلت إفريقيا رقما قياسيا في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بلغ 97 مليار دولار في عام 2024، أي بزيادة قدرها 75 بالمائة مقارنة بعام 2023، حسب ما أفاد به تقرير الاستثمار العالمي للأونكتاد. وتُعزى هذه القفزة بشكل أساسي إلى مشروع رأس الحكمة المصري الذي ضخ وحده نحو 35 مليار دولار. ومع استبعاد هذا المشروع، تبقى الزيادة المسجلة في عموم القارة مهمة، إذ تجاوزت نسبة 12 بالمائة لتصل قيمة الاستثمارات إلى نحو 62 مليار دولار. وعلى صعيد التوزيع الجغرافي، أوضح تقرير الأونكتاد أن شمال إفريقيا كانت المنطقة الأبرز من حيث نمو الاستثمارات، بقيادة كل من مصر، والمغرب، وتونس. وقد ارتفعت قيمة الاستثمارات الأجنبية في شمال القارة بنسبة 12 بالمائة في 2024، بينما تراجعت في باقي المناطق الإفريقية. وتجدر الإشارة إلى أن المغرب برز بشكل خاص في استقطاب الاستثمارات ذات الصلة بالطاقة المتجددة، وخاصة مشاريع الهيدروجين الأخضر والأمونيا النظيفة، وهو ما ورد بوضوح في القسم المخصص للمشاريع القطاعية في تقرير الأونكتاد. وقد شهدت المملكة المغربية خلال عام 2024 إطلاق مشروع كبير لإنتاج الأمونيا الخضراء والوقود الصناعي النظيف، بدعم من مستثمرين قادمين من الصين، وفرنسا، والإمارات، والمملكة المتحدة. كما أشار تقرير الأونكتاد إلى توجه المغرب الحثيث نحو تعزيز موقعه في الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، من خلال وضع استراتيجيات قطاعية واضحة، وتوفير حوافز استثمارية مركزة. في الوقت نفسه، بين تقرير الاستثمار العالمي أن قيمة الاستثمارات في مشاريع ميدانية جديدة في إفريقيا تراجعت بنسبة 37 بالمائة لتستقر عند 113 مليار دولار في 2024، مقارنة ب178 مليار دولار في 2023، في حين سجلت زيادة بنسبة 12 بالمائة في شمال إفريقيا وحدها. ومن بين القطاعات التي شهدت نموا، تميز قطاع الطاقات المتجددة بتوقيع سبعة عقود رئيسية بلغت قيمتها مجتمعة نحو 17 مليار دولار، لا سيما في مجال الكابلات الكهربائية البحرية، ومزارع الرياح والطاقة الشمسية، وذلك طبقا للإحصاءات الواردة في تقرير الأونكتاد. أما فيما يخص التدفقات الاستثمارية العابرة للحدود، فقد كشف التقرير أن عمليات الاندماج والاستحواذ الدولية أصبحت ذات تأثير سلبي على مجمل الاستثمارات في القارة، وأن هذه العمليات التي كانت تمثل نحو 15 بالمائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في إفريقيا خلال السنوات الماضية، شهدت انخفاضا حادا بل وتحولت إلى صافي سلبي. ومع ذلك، فإن المغرب، بحسب التقرير، لم يتأثر بهذه التحولات بشكل كبير نظرا لاعتماده الأكبر على المشاريع الميدانية والاستثمارات الجديدة، وليس فقط على صفقات الاستحواذ. وفي السياق العالمي، أشار تقرير الاستثمار العالمي إلى أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تراجعت عالميا بنسبة 11 بالمائة لتصل إلى 1.5 تريليون دولار خلال سنة 2024، وهي السنة الثانية على التوالي التي تشهد فيها الأسواق تراجعا في هذا النوع من التدفقات. وأوضح التقرير أن البيانات الظاهرية التي توحي بارتفاع طفيف بنسبة 4 بالمائة هي في الواقع مضللة، حيث ترتبط بتدفقات غير مستقرة مرت عبر دول تلعب دور معابر مالية دون أن تعكس أنشطة استثمارية حقيقية على الأرض. وفي تصريحات رسمية ضمن التقرير، أكدت ريبيكا غرينسبان، الأمينة العامة للأونكتاد، أن الاستثمار أصبح اليوم مؤشرا جوهريا على طبيعة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي يتبناها العالم، ودعت إلى إعادة توجيه التدفقات الاستثمارية نحو مسارات أكثر استدامة وشمولا، خاصة في المجالات الرقمية، والطاقة النظيفة، والبنية التحتية الذكية. من جانب آخر، أبرز التقرير تحولا في ملامح الاتفاقيات الاستثمارية الدولية، حيث أشار إلى تراجع الاعتماد على آلية التحكيم بين المستثمرين والدول في الاتفاقيات الحديثة، إذ أن 45 بالمائة من هذه الاتفاقيات الموقعة خلال السنوات الخمس الماضية لا تتضمن هذا البند، وهو ما يعكس تحولا نحو اتفاقيات قائمة على التيسير والتعاون بدلا من التركيز على الحماية الصارمة لرؤوس الأموال. كما أشار التقرير إلى تصاعد أهمية "السلوك الاستثماري المسؤول"، إذ أن نحو نصف الاتفاقيات الاستثمارية الحديثة تضمنت إشارات إلى قضايا مثل مكافحة الفساد، والبيئة، والحوكمة، والتنمية الاجتماعية، وإن كانت هذه الإشارات في الغالب غير ملزمة قانونيا. ومع ذلك، بدأت بعض الاتفاقيات في تبني التزامات صريحة وملزمة تجاه المستثمرين، وهو ما من شأنه تعزيز قدرة الدول على توجيه الاستثمارات بما يخدم أهدافها الإنمائية الشاملة.