حين نكتب ونتقاسم كتابتنا مع من نختار من زمرة نعتقد أنهم في مستوى التلقي والحوار، فإن هذه الكتابة لا تعني بالضرورة أنها ترفٌ بلاغي ندغدغ به مشاعر بعضنا البعض. الكتابة هنا تتعدى كونها مجرد متعة ذوقية أو إسهاب لفظي، لتصبح محاولة صادقة لمشاركة همومنا وأفكارنا مع ما تبقى من شرفاء هذا الوطن، أولئك الذين ما زالوا يتحسسون نبض الحياة ويشعرون بعواقب الأحداث اليومية التي تحيط بنا من كل جانب. هذه الكتابة ليست رفاهية، بل هي مساحة صغيرة نستطيع فيها الاحتفاظ ببعض كرامتنا ووعيّنا وسط دوامة العواصف اليومية التي لا يبتعد عنها الإنسان إلا بمسافة ضئيلة، قد لا تتجاوز سم الخياط أحيانًا. بالطبع، هناك من لا يعير هذه الكتابة اهتمامًا، لأسباب تخصه هو وحده. قد يكون انشغاله بحياته اليومية أو ربما ميله إلى موضوعات ترفيهية أو سطحية هو سبب عدم تفاعله. وهنا يبرز سؤال أساسي بالنسبة لي: ما الذي يجعلني أواصل مشاركة كتابتي مع من يهوى تيمات أخرى، غالبًا ما تكون ترفيهية؟ وما حاجتنا في عالمنا العربي إلى الترفيه عن الذات، في وقت باتت القلوب ممتلئة بالهموم، حتى كادت تصل الحناجر؟ الجواب يبدو واضحًا، فالكتابة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل أحيانًا متنفس ضروري، ولو أن من نكتب لهم لا يقدرون عمق الرسالة، فإن مجرد محاولة الوصول إلى القلوب القليلة الصادقة تستحق الجهد. أحيانًا يحزنني أنني لم أتمكن بعد من انتقاء بعناية من أرسل إليهم كتاباتي، إذ أن هذا الأمر يتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين، وأنا في عجلة من أمري، أجدني أرسلها إلى الجميع. وهذا "الجميع" ليسوا سواسية كأسنان المشط، فهناك من يقدر هذه الكتابة، ومن ربما يقرأها مرورًا سريعًا دون أن يعيرها أي اهتمام. ولأمثال هؤلاء أود أن أقول: اعذروني حين اقتحمت عليكم لحظاتكم الخاصة، فقريبًا سأعمل على تنقيح وتطهير قائمة المراسلة، فالأفضل هو التواصل مع القليل الذي يقدر الجوهر، لأن الكثرة قد تطل على عالم فوضوي لا نهاية له. لكن رغم هذا الفوضى، هناك جمال، فعالمي الفوضوي هذا ربما يقودني يومًا إلى التفكير في ترتيب فوضاي، وربما إلى ترتيب أفكاري ومشاعري بشكل أكثر وضوحًا. حين نكتب، غالبًا ما ننتظر الردود، ليس فقط لإرضاء الذات، بل لأن من خلالها نتعلم حقًا جمالية التلقي، وكيفية التفاعل بين الكاتب والمتلقي. التعليقات وردود الأفعال، مهما كانت بسيطة، تكشف لنا عن زوايا جديدة في فهمنا للكتابة، وتعلمنا أن هناك دائمًا خلف الكلمات ديدان زائدة، أي ملاحظات قد تبدو صغيرة لكنها غنية بالدروس. الكتابة إذن ليست مجرد فعل فردي، بل هي حوار متواصل، حتى لو كان المتلقي يحمل هوية عابر سبيل، يمر على نصوصنا مرور الكرام. نحن نكتب لمن نكتب، ولمن يتلقى كتابتنا، وحتى لأولئك الذين يمرون بجانبها دون أن يتوقفوا. في النهاية، الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد كلمات، بل رحلة صغيرة نحو فهم الذات وفهم الآخرين، نحو محاولة التواصل مع القلوب، رغم الاختلافات والتباعد. هي محاولة للتمسك بما تبقى من نقاء ووعي في عالم يميل إلى الفوضى والتشتت. هي لحظة صادقة من التأمل، من البحث عن صوت داخلي يُسمع، ولو بشكل محدود، ويترك أثرًا ولو صغيرًا. فالكتابة، في جوهرها، هي عمل شرف، وشهادة على أننا ما زلنا نحاول، على الرغم من كل الصعاب، أن نبقى إنسانيين في زمن يتطلب منا أكثر من أي وقت مضى، الصبر والمثابرة والصراحة. خاتمة مفتوحة: الكتابة في زمن الرقمنة وفي ختام هذا التأمل، تبقى الكتابة، رغم كل التحولات التي فرضها عصر الرقمنة، ملاذًا إنسانيًا لا يمكن للتقنيات أن تملأه بالكامل. فبين الرسائل الإلكترونية والتدوينات السريعة والشاشات التي تلتهم الوقت، هناك دائماً صوت داخلي يبحث عن المسافة للتوقف والتفكر، عن مساحة للإحساس العميق والتواصل الحقيقي مع الذات والآخرين. قد تتغير الوسائل، وقد تتقلص مساحة الانتباه، وقد يصبح العالم أسرع وأكثر صخبًا، لكن الكتابة ستظل شاهدة على حاضرنا، ومرآة لأفكارنا، ومنارة للأجيال القادمة إذا ما عرفنا كيف نوازن بين سرعة العصر وروح الإنسان. هل سنجد يومًا طرقًا جديدة للحفاظ على عمق النصوص وسط زحام التقنية؟ أم ستصبح الكتابة مجرد بيانات تتلاشى بعد لحظات؟ هذا المستقبل مفتوح، ونحن، من خلال كل حرف نكتبه اليوم، نشارك في تشكيله، ونترك للقارئ أن يتساءل ويستشرف هو الآخر: كيف ستبدو الكتابة غدًا في زمن الرقمنة جامعي