تتجه أنظار المغاربة إلى مآلات مراجعة مدونة الأسرة، في ظل تصاعد المطالب الحقوقية والنسائية بإدراج مبدأ المساواة في الإرث ضمن التعديلات المرتقبة، في وقت تؤكد فيه المؤسسة الدينية الرسمية أن أحكام التوريث من "القطعيات" التي لا يجوز الاجتهاد فيها. في شتنبر 2023 كلف الملك محمد السادس الحكومة بفتح مدونة الأسرة للمراجعة، حيث شدد على ضرورة أن تأخذ هذه المراجعة بعين الاعتبار الاجتهاد الفقهي المنفتح، ومقاصد الشريعة الإسلامية، والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، مشيرا إلى أن الهدف هو تعزيز مكانة المرأة والأسرة وضمان حقوق الأطفال، وتحقيق التوازن داخل الأسرة المغربية.
وتضمنت التوجيهات الملكية إشراك مؤسسات متعددة، بما فيها وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنيابة العامة، فضلا عن مشاورات واسعة مع الأطراف المعنية، منها المجلس العلمي الأعلى والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والهيئات المدنية والخبراء، بما يحقق مقاربة تشاركية. "إرث البنات" والحلول البديلة تجدر الإشارة إلى أن مدونة الأسرة التي أقرت عام 2004 هي حجر الزاوية في تنظيم الحياة الأسرية، بما في ذلك الزواج والطلاق والنفقة والحضانة والإرث وغيرها، وقد اعتبر هذا الإصلاح حينها بمثابة "ثورة اجتماعية هادئة"، بينما الآن يجري العمل على 139 مقترحا تقدمت بها الهيئة الملكية المكلفة بالمراجعة، مع رأي المجلس العلمي الأعلى، بهدف صياغة مدونة جديدة تطرح على البرلمان. وفقا لما أفادت به وزارة العدل، فإن المقترحات المطروحة تستند إلى توصية المجلس العلمي الأعلى بشأن "إرث البنات"، التي تتيح للأب أو الأم منح بناتهم جزءا من المال في حياتهم عن طريق الهبة، كما يشمل التعديل المقترح السماح ب"الوصية والهبة بين الزوجين" في حال اختلاف ديانتهما. في هذا السياق، يؤكد المجلس العلمي أن التعصيب من الثوابت الشرعية المستندة إلى نصوص الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، ولا يمكن إلغاؤه، لذا أوصى بالهبة للبنات كحل شرعي يحقق العدالة دون مخالفة الأحكام الشرعية. النسوية وقاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" بالنسبة لعموم المغاربة، يحظى موضوع نظام الإرث باهتمام خاص، نظرا لتشابك أبعاده القانونية المرجعية بالدين والموروث الاجتماعي، فالقانون الحالي يستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية في التوريث، حيث تقضي الآية القرآنية الشهيرة بأن "للذكر مثل حظ الأنثيين"، وبناء عليه ترث الأنثى عادة نصف ما يرثه الذكر في مواضع متكافئة. لكن ترى منظمات حقوقية ونسائية أن أحكام الإرث الحالية تحمل تمييزا بين الجنسين، إذ تحصل الإناث على نصيب ثابت وفق القواعد الشرعية، بغض النظر عن احتياجاتهن، بينما يحصل الذكر على حصة أكبر في حالات معينة، بما يعطيه امتيازا إضافيا مقارنة بالأنثى. وتشير هذه المنظمات إلى أن مشاركة المرأة المعاصرة في تحمل تكاليف المعيشة ومسؤوليات الأسرة تجعل هذا التفاوت غير متناسب، مما يثير مطالب متزايدة بإعادة النظر في أحكام المواريث لضمان العدالة والإنصاف بين الجنسين. في المقابل، يؤيد نحو 82 بالمائة من المغاربة قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" ويرفضون المساس بها، بحسب استطلاع للرأي شمل 1200 مشارك أنجزته جمعية النساء المغربيات للبحث والتنمية عام 2022، وقد كشفت النتائج عن تباين في المواقف، حيث يميل 36 بالمائة من المستجوبين إلى تعديل بعض المقتضيات المتعلقة بالإرث باعتبارها غير منصفة للنساء، في حين رفض 44 بالمائة أي تعديل، وتردد 20 بالمائة في إبداء موقف واضح. مطالب بإلغاء التعصيب النقاش حول تعديل نظام الإرث في المغرب يعود إلى تراكم طويل من المطالب الحقوقية والنسوية، ففي مارس 2018 وقع مثقفون وباحثون وناشطات عريضة دعت إلى إلغاء قاعدة التعصيب باعتبارها غير منسجمة مع تحولات الأسرة المغربية، حيث أكد الموقعون أن النظام القائم يفاقم هشاشة النساء الاقتصادية، ويدفع العديد من الآباء إلى نقل ممتلكاتهم لبناتهم في حياتهم لتفادي حرمانهن بعد الوفاة. واجهت هذه المبادرة مهاجمة من التيار الإسلامي المحافظ، حيث اتهمها الشيخ السلفي حسن الكتاني بأنها تشكل امتدادا لدعاة علمانيين معادين للإسلام من الغرب، في محاولة لتقويض القيم الإسلامية المتجذرة في المجتمع المغربي. وردا على ذلك، أوضح الباحث محمد عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص)، وهو أحد الموقعين على العريضة، أن المقصود بالتعصيب في هذا السياق لا يشمل جميع أنواعه، وإنما يقتصر على الحالات التي تُفضي إلى ظلم بيّن في حق المرأة، مؤكداً أنه لا يمكن الاستمرار في القبول بمثل هذه الممارسات أو تبريرها بالاستناد إلى اجتهادات قديمة تجاوزها الزمن وتغيرت ظروفها. على الجهة المقابلة، برزت شخصيات فكرية نسوية تدعو إلى قراءة مقاصدية للإرث، من أبرزهم الباحثة في الفكر الاسلامي أسماء المرابط، التي دافعت منذ سنوات عن ضرورة إنصاف المرأة عبر اجتهاد يستند إلى مقاصد الشريعة ومبادئها الأخلاقية، معتبرة أن بعض الأحكام الفقهية الموروثة لم تعد قادرة على الاستجابة للتحولات الاجتماعية المعاصرة. وأكدت المرابط أن المطالبة بالعدالة لا تعني التخلي عن مرجعية الدين، بل تقتضي تحرير النص القرآني من "القراءات التاريخية الضيقة" التي صنعت تعارضاً مصطنعاً بين مبادئ المساواة القرآنية وبين "اجتهادات فقهية تجاوزها الزمن". النساء السُّلاليات والملكية الجماعية في سنوات سابقة، شهد المغرب تجارب لحركات نسوية أخرى أثبتت إمكانية تحقيق مكاسب، ومنها حركة "السُّلاليات" التي انطلقت عام 2007 للمطالبة بحقوق النساء في الملكية العقارية الجماعية، وقد أسفرت هذه الحركة في 2019 عن إقرار قانون ينص صراحة على المساواة بين الذكور والإناث في عضوية الجماعات السلالية واستفادتهم من أموالها وممتلكاتها، وهو ما اعتبر انتصارا كاسحا للحقوق الاقتصادية للمرأة في المجتمع القروي. باختصار، يظل موضوع الإرث أحد أعقد الملفات في مراجعة مدونة الأسرة المغربية، نظرا للتوازن الدقيق بين مطالب التحديث والانفتاح من جهة، وتمسك بعض الفئات الدينية بالثوابت الشرعية من جهة أخرى، لذلك تسعى الحكومة من خلال الحلول الوسط المقترحة، مثل تسهيل الوصايا والهبات الزوجية، إلى تقليل الفجوة بين هذه المطالب دون المساس جوهريا بالنصوص الفقهية الموروثة. والواضح، أن ملف الإرث يظهر كمؤشر لمدى نضج العملية السياسية في تدبير الملفات الحساسة، بالتالي فإن نجاح أي تعديل سيعتمد على قدرة الأغلبية الحكومية على بناء تحالفات كافية لتمرير نصوص متوازنة، وعلى مهارة التواصل السياسي لتفكيك مخاوف الشارع وتقديم ضمانات دستورية للمؤسسات الدينية.