يبدو أن السلطات العليا في المملكة أصبحت تتفاعل بجدية أكثر مع احتجاجات جيل z الذي يمكن القول أنه تأثر بشكل كبير بالأحداث التي شهدتها النيبال من خلال ارتباط الجزء الأكبر من هذا الجيل بالعالم الرقمي الذي تنتشر فيه المعلومة والصورة بشكل سريع كما تنتشر النار في الهشيم! مؤشرات هذه الجدية تتضح من خلال ما يلي وفق تقديري الشخصي المتواضع: المؤشر الأول: لجوء عناصر الدرك الملكي إلى استعمال الرصاص الحي في إطار الدفاع الشرعي عن النفس بعد الهجوم على مركز الدرك في القليعة في محاولة للسطو على السلاح الوظيفي للدرك وفق ما نشر في وسائل الإعلام وهو الاستعمال الذي نتج عنه وفاة ثلاثة مواطنين دفعة واحدة وهذا وضع نأسف له كثيرا ونتمنى ألا يتكرر على الإطلاق لكي لا تتسع رقعة العنف لأن الحفاظ على أمن هذا الوطن الغالي جدا مسؤوليتنا جميعا! المؤشر الثاني: تصريحات الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية الذي قدم معطيات أولية حول حجم الخسائر والاصابات التي طالت الممتلكات الخاصة والعامة وعناصر القوات العمومية والمتظاهرين وتشديده على أن السلطات العمومية ستواجه أعمال التخريب بحزم وستقدم الجناة إلى العدالة! المؤشر الثالث يتجلى في تصريحات المسؤولين في جهاز النيابة العامة الذين سلطوا الضوء على أعمال التخريب الذي طالت المنشآت الخاصة والعامة وأكدوا على أن القانون سيتخد مجراه في مواجهة كل من ثبت تورطه في أعمال التخريب وفقا للقوانين الجاري بها العمل وفي لجوء وسائل الإعلام وعدد هائل من الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي بتذكير المحتجين بالعقوبات المترتبة عن جرائم التخريب واضرام النار في الممتلكات العامة والخاصة. المؤشر الرابع سياسي ويتمثل في الاستنفار الحكومي بعد صمت مريب لمكونات الاغلبية الحكومية خلال الأيام الأولى من بدء الاحتجاجات التي كانت سلمية وبدون ملثمين وبسقف مطالب اجتماعية واضح يتمثل في اصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد! المؤشر الأخير له طابع عسكري وهو الاستنفار الذي شهدته الثكنات العسكرية حيث نشرت بعض المواقع الصحفية أخبار حول قيام الجيش بارسال تعزيزات عسكرية إلى بعض المناطق التي شهدت أعمال عنف كبيرة حتى لا تنفلت الاوضاع ويتم استغلالها من طرف أي جهة معادية للمغرب وخصوصا في الجنوب وفي بعض المناطق الحدودية شديدة الحساسية! تحليل كل هذه المؤشرات يؤكد على أن هناك مخاوف حقيقية لدى الجهات العليا في البلاد من اتساع رقعة الاحتجاج السلمي ونزوحه نحو العنف غير المشروع في مناخ سياسي واجتماعي جد محتقن وفي ظل معطيات دولية مقلقة وجوار اقليمي معادي! السؤال المطروح هو: كيف ستتعامل الدولة في أعلى مستوياتها مع الاحتجاجات التي تزاوج بين السلمية المصرح بها من طرف جيل Z وأعمال العنف والتخريب الممارسة من طرف طرف عناصر إجرامية لاطفاء هذا الغضب المتنامي في نفوس جيل غير مؤطر ( اغلبهم قاصرون) ولا يعي مخاطر عدم الاستقرار على الدولة والمجتمع؟ في مقالي السابق الذي عنونته ب " احتجاجات جيل z : دينامية اجتماعية بدون أفق سياسي واضح" قلت بعد تشخيص أولي للاحتجاج أنه " يصعب الاقتناع بأن ما نشهده اليوم يمثل دينامية احتجاجية طبيعية وعفوية، كتلك التي عرفها المغرب في 2011 و 2017، بل الأرجح أننا أمام لحظة رمادية، تتطلب الكثير من اليقظة، والتحليل النقدي العميق، قبل الانخراط العاطفي في تأييد أو معارضة ما قد يكون مجرد واجهة لتحولات أكبر تطبخ في الخفاء" بعد ستة أيام على بروز تظاهرات جيل z بدأ خطاب هذا التعبير الاحتجاجي يتغير ولم يعد المطلوب هو إصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد بل ظهرت وثيقة منسوبة لهذا (التنظيم الهلامي) لها مضمون سياسي وحقوقي مغاير بل اختاروا هذه المرة مخاطبة رئيس الدولة بما يملكه من صلاحيات دستورية واسعة لاقالة الحكومة وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة وإطلاق سراح المعتقلين وأشياء أخرى مع إستثناء اصلاح التعليم والصحة! اذن نحن أمام تغير جوهري في المطالب ويمكن أن الأمر يتعلق بتغيير تكتيكي فرضته مواقف عدد من الفاعلين الذين اعتبروا التظاهر حق دستوري مشروع وأبدو تخوفاتهم من أجندة الجهات المجهولة التي تقف خلف تحريك هذا الجيل الغاضب من خلال منصة رقمية او تطبيق رقمي تتسع قاعدة المنتسبين له يوميا! لا يوجد عاقل في المغرب يرفض الاحتجاج السلمي ويقبل بمظاهر العنف من أي جهة كانت ولكن هناك معطيات لا بد من التوقف عندها وتحليلها بخلفية وطنية صادقة بعيدا عن منطق المؤامرة! سقف الاحتجاج إلى حدود الآن يبقى سلميا في المجمل كما أن أعمال العنف كانت في نطاق ضيق ولا أحد يعرف من هي الجهة التي تقف خلفها أو تحركها وبأي حسابات لاسيما وأن جيل z تبرؤوا من تلك الأعمال المدانة والمجرمة وطالبوا بمعاقبة الجناة. كما أن مخاطبة الملك الذي يعد وفقا لاحكام الدستور المغربي رئيسا للدولة وممثلها الاسمى وضامن الحقوق والحريات وأمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسحلة الملكية أمر إيجابي ويعني ضمنيا أن المحتجين لا خلاف لهم مع المؤسسة الملكية ويراهنون عليها في إخراج المغرب من عنق الزجاجة وإنقاد ما يمكن انقاده بعد أن تغول الفساد وضرب بنيات الدولة الرئيسية! مطالبة الملك باقالة حكومة عزيز أخنوش التي افرزها سياق انتخابي مشبوه مطلب سياسي وفيه تماهي مع مطالب احزاب سياسية وفعاليات مدنية وحقوقية سئمت من تدبير الشأن العام وفق عقلية "البيزنز" ووفق منطق "الهموز" وتضارب المصالح ونهج اسلوب التحكم في كل المجالات بما في ذلك مجال الصحافة والنشر وتضييق هامش الحريات العامة! ما العمل في ظل هذا الوضع غير الطبيعي إذن؟ المؤسسة الملكية مؤتمنة دستوريا على ضمان الحقوق والحريات وعلى تكريس الخيار الديمقراطي للمملكة وعلى تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة وعلى تأمين حوزة التراب الوطني بالنظر إلى صلاحياتها الدستورية الواسعة وليس هناك أي تقليل من شأن الدولة أو تنقيص من هيبتها إذا هي تفاعلت ايجابا مع مطالب الشباب الذين ينتمون لجيل ولي العهد مولاي الحسن ملك المستقبل! ينبغي التعامل مع هذا الحراك كهبة من السماء في ظل فراغ سياسي وحزبي ونقابي وجمعوي مهول لأنه سمح للدولة والمجتمع بالتعرف على عقلية جيل رقمي لا يفكر مثل باقي الأجيال التي تربت داخل بنيات ضبط اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة. هذا الجيل هو المحصول الطبيعي لما زرعته السياسات العمومية للدولة خلال عقود من الزمن وينبغي التعامل معه وفق مقاربات غير تقليدية وتنسجم مع روح العصر لأنه حتى عنف الدولة المشروع لم يعد خيارا ناجعا في ظل هذا العالم الرقمي الغريب الأطوار وفي ظل تآكل إن لم نقل موت وسائل الضبط السياسي والاجتماعي التقليدية واغتراب النخب الحزبية الهجينة عن المجتمع وانغماسها في الريع والفساد بمختلف أشكاله وتمظهراته! حفظ الله هذا الوطن الذي يبقى فوق الجميع وأغلى ما يملكه المغاربة في الداخل والخارج والرهان معقود على المؤسسة الملكية بالنظر لما تتمتع به من صلاحيات دستورية واسعة ومن حكمة وتبصر في اللحظات المفصلية والصعبة من تاريخ بلادنا.