ارتفعت ميزانية الدولة المغربية لسنة 2026 إلى نحو 760 مليار درهم، وهو مستوى غير مسبوق، بفعل الزيادات الكبيرة في الاعتمادات المخصصة للقطاعات الاجتماعية، وعلى رأسها التعليم والصحة. لكن هذا الارتفاع السريع في حجم الإنفاق قابله صمت رسمي حول تفاصيل الموارد المالية التي ستغطي هذه الميزانية الضخمة، في وقت تثير فيه آلية "التمويل المبتكر" والقروض الخارجية تساؤلات متزايدة حول مدى استدامة هذه المصادر الجديدة.
تسعى الحكومة في ميزانية عام 2026 إلى توسيع استخدام ما يسمى ب "التمويل المبتكر" لتعبئة موارد مالية إضافية دون زيادة في المديونية المباشرة، رغم التحذيرات السابقة من بنك المغرب والمؤسسات المالية الدولية بشأن المخاطر التي قد ترافق هذا النوع من الأدوات غير التقليدية. وبحسب تقرير الميزانية الجديد، تتوقع الحكومة تعبئة نحو 35 مليار درهم من التمويلات المبتكرة خلال سنتي 2025 و2026، مقابل 25 مليار درهم في 2027، أي ما يعادل نحو 2% من الناتج الداخلي الخام. "التمويل المبتكر".. مصطلح جديد قديم وغامض في الميزانية وفقاً للتقرير الاقتصادي والمالي المرفق بمشروع قانون المالية، يُنتظر أن تسجل الموارد العادية ارتفاعاً بنسبة 9,5% مقارنة بسنة 2025، مدفوعة بتحسين تعبئة المداخيل الجبائية، وتوسيع الوعاء الضريبي، ومواصلة الإصلاح الضريبي الجاري. وتُقدّر الضريبة الداخلية على الاستهلاك بنحو 45,4 مليار درهم، والرسوم الجمركية ب 18,5 مليار درهم، ورسوم التسجيل والتمبر ب 24 مليار درهم. أما الموارد غير الجبائية، فتصل إلى 62,7 مليار درهم، أي ما يعادل 14,5% من مجموع الموارد العادية، لتشكل العنصر الأكثر تطوراً ضمن موارد الدولة للسنة المقبلة. وتحت بند "التمويل المبتكر" يشير التقرير إلى تعبئة نحو 20 مليار درهم عبر "آليات التمويل المبتكر"، من دون تقديم تفاصيل دقيقة حول طبيعتها، ما أثار تساؤلات لدى خبراء المالية والاقتصاد حول ما إذا كان المقصود شراكات بين القطاعين العام والخاص، أو صناديق استثمارية خاصة، أو حتى قروضا بشروط ميسّرة. ويأتي إدراج هذا المفهوم في سياق بحث الحكومة عن موارد بديلة غير تقليدية لتقليص الاعتماد على الاقتراض المباشر من الخزينة، في ظل سعيها إلى خفض عجز الميزانية إلى 3% من الناتج الداخلي الخام بحلول نهاية 2026. غير أن التقرير لا يوضح إن كانت هذه الآليات تشمل تمويلات خارجية من شركاء دوليين أو مؤسسات مانحة، ولا يقدم ما يكفي من المعطيات حول مخاطرها المالية أو التزاماتها طويلة الأمد، وهو ما يجعلها، بحسب محللين، "مصدر تمويل محفوفاً بعدم اليقين". وسبق لوزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي العام الماضي خلال مناقشة ميزانية 2025 في البرلمان، أن الحكومة تسعى إلى الحفاظ على توازن المالية العمومية وتقليص عجز الميزانية في أفق بلوغ مستوى مديونية أقل من 70% من الناتج الداخلي الخام بحلول سنة 2026، وفق ما أعلنته آنذلك. وقالت الوزيرة حينها إن الهدف من هذا التوجه هو "استرجاع الهوامش المالية لتمويل البرامج الاستراتيجية للدولة، مع تقليص الاعتماد على القروض المباشرة"، مشيرة إلى أن التمويلات المبتكرة أصبحت "آلية معتمدة على الصعيد الدولي لتوفير موارد آنية دون زيادة الدين العمومي". من بيع الأصول إلى إعادة التأجير: ميكانيزمات التمويل المبتكر منذ سنة 2019، يعتمد المغرب على آليات التمويل المبتكر لتمويل المشاريع العمومية من خلال تسييل الأصول العامة، أي بيع بعض ممتلكات الدولة لمؤسسات استثمارية ثم إعادة تأجيرها بعقود طويلة الأمد (leaseback). ويُعد كل من صندوق الإيداع والتدبير (CDG) والصندوق المغربي للتقاعد (CMR) من أبرز الشركاء في هذه العمليات. وتُظهر بيانات مديرية الميزانية أن هذه العمليات مكّنت من تعبئة حوالي 72 مليار درهم بين 2019 و2024، منها 25,4 مليار درهم سنة 2023 وحدها، و11,86 مليار درهم عبر الصندوق الأول، و13,58 مليار درهم عبر الثاني. وتتعلق أغلب العمليات بإعادة تأجير مؤسسات عمومية، من بينها المراكز الاستشفائية الجامعية التي تم تحويلها إلى الصندوق المغربي للتقاعد مقابل 5 مليارات درهم. وتقول الحكومة إن هذه التقنية تتيح تمويل المشاريع الاجتماعية والاستراتيجية، مثل البنى التحتية والتعليم والصحة، دون الحاجة إلى اقتراض جديد من السوق. تحذيرات سابقة من بنك المغرب والبنك الدولي ووكالة "فيتش" رغم نجاح هذه العمليات في تعبئة السيولة، فقد حذّر والي بنك المغرب عام 2024، من "الحاجة إلى إخضاع التمويلات المبتكرة لإشراف صارم شبيه بعمليات الخوصصة"، مؤكداً أنها تُصنف ضمن "الإيرادات الجارية" بحسب معايير صندوق النقد الدولي، ويجب ألا تُستخدم لتغطية نفقات دائمة. وأوضح الوالي أن "الزيادات المتتالية في حجم هذه العمليات تتطلب وضوحاً أكبر حول الجهات المالكة للأصول بعد انتهاء العقود، وحول تأثيرها على النفقات الجارية وسوق السندات". وأضاف أن اللجوء المتزايد إلى مؤسسات الادخار الوطنية لتمويل هذه العمليات "قد يحد من قدرتها على شراء سندات الخزينة، ما قد يؤثر على تمويل الدين العمومي". أما البنك الدولي، فكان قد نبّه في تقريره الصادر قبل ثلاث سنوات إلى أن "عمليات البيع وإعادة التأجير تخلق التزامات مالية مستقبلية على الدولة"، لافتاً إلى أن "الإيرادات الناتجة عنها غير متكررة، ما يجعل التحسن الظاهري في عجز الميزانية ظرفياً وليس هيكلياً". ودعا البنك في تقريره إلى "ضمان الشفافية الكاملة حول تفاصيل هذه المعاملات في المخطط الثلاثي للميزانية". وفي مذكرة صدرت في يوليو 2024، أشارت وكالة التصنيف الائتماني Fitch Ratings إلى أن التمويلات المبتكرة ساهمت في "تحسين المداخيل العمومية مؤقتاً منذ 2019"، لكنها حذّرت من "احتمال تقويض جهود الضبط المالي مستقبلاً بسبب طبيعتها غير الدائمة". ودعت الوكالة الحكومة المغربية إلى تطوير "مصادر دخل أكثر استدامة" بدل الاعتماد على موارد ظرفية أو عمليات تسييل الأصول. نقد داخلي حول الشفافية والمساءلة في المقابل، يثير غياب التفاصيل حول قائمة الأصول المبيعة أو المؤجرة قلقاً لدى مراقبين محليين، خصوصاً في ظل عدم عرض هذه العمليات على البرلمان ضمن قانون المالية السنوي. ويعتبر خبراء أن "التمويل المبتكر" يمثل في جوهره خصخصة مقنّعة، إذ يتيح للدولة السيولة الفورية مقابل التخلي عن ملكيتها لأصول عامة لفترة طويلة، دون الخضوع لمسطرة تشريعية واضحة. ويحذر الخبراء من أن هذه الآليات، رغم نفعها الظرفي، قد تخلق ضغطاً متزايداً على النفقات الجارية في المستقبل عبر مدفوعات الإيجار، ما يعني تحوّل عبء الدين من الظاهر إلى المستتر. بين ضبط المديونية واستدامة الموارد لكن بالنسبة لمسؤولو المالية فإن التمويل المبتكر يمثل "خياراً واقعياً" في ظل ارتفاع حاجيات الاستثمار العمومي وتحديات التمويل الخارجي. ويعتقد محللون اقتصاديون أن الحكومة تراهن على هذه الأدوات لتفادي اللجوء المكثف إلى الأسواق الدولية في وقت تتزايد فيه تكلفة الاقتراض. ومع ذلك، تبقى مخاطر الشفافية والإدارة طويلة الأمد مطروحة. فبينما يرى البعض أن التمويل المبتكر يجسد "تحولاً نحو مالية ذكية أكثر مرونة"، يراه آخرون "رهاناً محفوفاً بالديون المقنّعة" قد يحد من قدرة المغرب على تحقيق ضبط هيكلي للمالية العمومية خلال السنوات المقبلة.