مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عزمه فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100% على جميع الواردات الصينية ابتداء من 1 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، جاء رد الصين مفاجئ و صادم، فقد قررت بدورها فرض عقوبات بخصائص صينية، فلجأت إلى أسلوب غير متوقع و يتمثل في تشديد القيود على تصدير المعادن النادرة والمواد التي تحتوي حتى على "آثار ضئيلة" منها، ويشمل المنع الشركات في دول ثالثة من شحن أي منتجات تحتوي على عناصر أرضية نادرة مصدرها الصين من دون ترخيص مسبق.و لكن ما قصة هذه المعادن الناذرة التي إجتاحت وسائل الإعلام و الخطابات الدولية طيلة السنوات الأخيرة ؟ و لماذا ترامب هدية للدول الطامحة في الصعود؟ و لماذا بلداننا العربية مجرد عشب في معركة الفيلة؟ و ما إستراتيجيات الخروج من النفق المظلم؟ هذا المقال سيحاول شرح هذه العناصر بإيجاز ، و لمزيد من التفاصيل و الفهم الأعمق لطبيعة الأحداث الجارية من منظور إستشرافي و كلي، تابعوا الحلقات السابقة واللاحقة من برنامجكم "إقتصاد×سياسة" ، و التي يتم بثها كل إثنين وخميس على الساعة 20.00 مساءا بتوقيت المغرب والساعة 19.00 بتوقيت غرينتش و 22.00 مساءا بتوقيت القدس الشريف ، على منصة اليوتيوب[i] * المعادن النادرة هي مجموعة من 17 عنصراً كيميائياً، من بينها الإيتريوم، السكانديوم، اللانثانوم، النيوديميوم، الديسبروسيوم، وغيرها. تتميز هذه العناصر بخصائص فيزيائية وكيميائية تجعلها ضرورية في صناعات التكنولوجيا المتقدمة، مثل الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والشاشات والبطاريات، والرقائق الإلكترونية ، كما تدخل هذه المعادن في صناعات جد متقدمة كتكنولوجيا الفضاء، والروبوتات، والرقائق الدقيقة المستخدمة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة عالية الأداء. والصناعات العسكرية مثل الطائرات المقاتلة F-35 التي وظفتها إسرائيل في إختراق أجواء المنطقة العربية و قصف إيران و اليمن و سوريا و قطر . و المعادن النادرة ليست نادرة كما يوحي الوصف، فهي متوفرة في القشرة الأرضية، بل إن عناصر مثل السيريوم واللانثانوم تُعد أكثر وفرة من معادن شائعة كالنحاس والرصاص. لكن التحدي لا يكمن في العثور عليها، بل في استخراجها ومعالجتها. * هوس عالمي ومع تصاعد المنافسة العالمية على التفوق التكنولوجي، والهوس العالمي بالتحول نحو الطاقة النظيفة، ارتفع الطلب على المعادن الناذرة ، إذ تُستخدم في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية، والأنظمة الكهروضوئية للطاقة الشمسية، والمكونات الأساسية لتوربينات الرياح. هذا الاعتماد المتزايد يجعلها عنصراً استراتيجياً في جهود الدول لتحقيق أهدافها في خفض الانبعاثات الكربونية والتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، و تلك قصة أخرى لنهب دول العالم وتركيز الثروة في يد قلة من البلدان و الشعوب و الشركات و الأشخاص.. و يرجع وصف هذه العناصر ب"النادرة" إلى ندرتها في التواجد بتراكيز اقتصادية تسمح باستخراجها تجارياً، هذا فضلا عن صعوبة فصلها عن بعضها البعض نتيجة وجودها ضمن معادن معقدة التركيب. كما أن عدد الدول القادرة على تكريرها ومعالجتها محدود للغاية. ووفق تقرير صادر عن مجموعة "بوسطن كونسلتينغ جروب" (BCG) فإن قطاع المعادن النادرة يحتاج إلى استثمارات ضخمة تبلغ 100 مليار دولار بحلول عام 2035، لتلبية الطلب المتزايد، خاصة على العناصر المستخدمة في صناعة المغناطيسات الدائمة مثل النيوديميوم والتربيوم والديسبروسيوم، والتي ترتبط بشكل وثيق بثورة السيارات الكهربائية وتوليد الطاقة النظيفة. * ورقة ضغط جيوسياسية استغلال بكين لورقة المعادن الناذرة في صراعها مع واشنطن ، نابع من حقيقة أن الصين تسيطر على حوالي 70% من الإنتاج العالمي، وتحتكر أكثر من 80% من عمليات التكرير والمعالجة، ما يمنحها قدرة هائلة على التأثير في سلاسل التوريد العالمية واستخدامها كورقة ضغط جيوسياسية. في المقابل، تفتقر الولاياتالمتحدة تقريباً إلى أي قدرة معالجة للمعادن المستهدفة..وخلال اتفاق تجاري سابق بين البلدين، أعلن الرئيس الأميركي "ترمب" عن إبرام صفقة مع الصين لتسريع شحن المعادن النادرة إلى أميركا. وفي الوقت ذاته، تبحث واشنطن عن بدائل لاستيراد هذه الموارد المعدنية النادرة لتأمين مخزوناتها منها… * ترامب هدية لكل طامح و الواقع أن ترامب هدية للصين و لكل القوى التي ترغب في إيجاد موقع قدم في عالم متغير ، فالرجل يسرع بإنهاء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية و الذي كرس للهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي و الأهم كرس لنظام نقدي ظالم ومجحف أدعوكم لمتابعة الحلقة 11 و 12 من برنامج "إقتصاد في سياسة" والتي تناولنا فيها مشكل تسليع المال وهيمنة نظام نقدي عالمي ينهب ثروات الشعوب [ii] .. فالرجل لديه عقدة من العجز التجاري، وهو يتعامل بعقلية ميركانتيلية بدائية، تهتمّ بتخفيض العجز من دون النظر الى باقي الأثار و المعطيات الموازية ..فالعجز التجاري لأمريكا تحديدا لا يمثل مشكلة إقتصادية ، و سأشرح لكم لماذا ؟ أولا- النموذج الأمريكي قام على أساس حرية التجارة ، و نفوذ أمريكا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تأسس على قاعدة التجارة و السوق الأمريكي المفتوح .. ثانيا – الحرية التجارية في مصلحة أمريكا بالدرجة الأولى ، لأنها تساعد في رفع معدل الاستهلاك والنمو ، أما الوظائف الصناعية التي خسرها الاقتصاد الأمريكي لصالح الصين ، فقد تم استبدالها عمليا بوظائف أفضل في قطاع الخدمات، وهذه الوظائف تحتاج الى استهلاكٍ واستيراد. ثالثا- العجز التجاري مضر و غير صحي بالنسبة للبلدان التي تشتري بالعملة الصعبة،وهذا الأمر لا ينطبق على أمريكا تحديدا فالدولار هو العملة العالمية ، فحين تشتري اميركا من الخارج فهذا وفقا لمنطق السياسة النقدية، لا يختلف عن الشراء من السوق الداخلي طالما أنك تستخدم نقدك المحلّي لاستيراد السّلع. ولولا إحتكار أمريكا ل "امتياز الدولار "، لإنهارت عملتها منذ زمن بعيد تحت وطأة العجز الضّخم وخروج العملة الصعبة من البلد مقابل السلع التي تدخل. اميركا تطبع الدولار وكل العالم يطلبه، ولهذا السبب فقط طورت اميركا عجزاً تجارياً متزايداً، منذ السبعينيات ونهاية المعيار الذهبي في النقد، من دون أن تدفع الثمن. * عشب المعركة فعندما تتعارك الأفيال يدفع العشب الثمن، بمعنى ان النظم الضعيفة و الهشة ينبغي ألا تجعل اوطانها كالعشب الذي يتصارع فوقه الفيلة..بل تدرك حدود قوتها و نقاط ضعفها و ان تتعامل مع الواقع الجيوإستراتيجي ببرغماتية و حذر شديدين ، بل و ان تعمل على الاستفادة من حالة الصراع الإقليمي و الدولي و تحويله إلى قبة حماية .. * إستراتيجية النمل و ان يكون سلاحها الحياد و خدمة المصلحة الوطنية اولا و ثانيا و عاشرا …ففي ظروف صىراع العمالقة لا ينبغي ان تتحول البلدان ذات السيادة الهشة و القدرات العسكرية والاقتصادية المحدودة عشبا في معارك النفوذ ، و الأهم من ذلك ينبغي على هذه البلدان تبني استراتيجية النمل، و الذي يستطيع المرور بسلام من تحت اقدام العماليق إذا وظف قدراته و مؤهلاته بذكاء و بحكمة .. لذلك، أقول لبلداننا العربية وللبدان المشابهة ، الظرفية والساحة الدولية حبلى بالتحديات و التهديدات وأيضا بالفرص التي ينبغي التعامل معها ببرغماتية وعقلانية شديدة ، ما أراه من مشهد دولي يعد فرصة للشعوب المستضعفة للتحرر من نظام إقتصادي و مالي متوحش والخروج من عباءة نظم سياسية واقتصادية ناهبة للثروات ومقيدة للطاقات وأوليغارشية متعددة الجنسيات غايتها السيطرة على الثروات و الهويات و العقول و الإرادات خدمة لحلم دجالي – إستعبادي.. لمزيد من التفاصيل تابعوا الحلقة 22 من برنامج " إقتصاد في سياسة " .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون… كاتب وأكاديمي مغربي