الجمعة، عيد المسلمين الأسبوعي الذي فقد روحه بالمغرب بعد أن طُمِسَتْ معالم قدسيته مع تحويله إلى يوم عمل عاد، لا معالم ابتهاجية تميزه عن سائر الأيام، وتضفي عليه سيماء العيد الرمزية، ولا خطبة تنهض بدورها الروحي، والاجتماعي، والتشريعي، والإفتائي الذي يراعي الوقائع والمواقع على اختلافها، وتباين أحكامها. بعد أن وُحِّدت فيما يسمى ب"الخطبة الموحدة"، توجه إلى المغاربة على طول الوطن الممتد من طنجة إلى الكويرة، كأنهم نسخة واحدة، يشتركون نفس الانتظارات، ونفس الآمال، ونفس الآلام. فتُكتب في الرباط، لأهل وجدة، والداخلة، وأكادير، ومراكش، وسائر مدن المغرب، ومداشر الوطن، وفيافيه، وكأننا في قرية صغيرة يُرى مدخلُها من مخرجها، بعين طفل من الأطفال !. أعظم ما في هذا اليوم، هذه الخطبة التي كانت السلوى، والملاذ الذي يلوذ إليه المغاربة المسلمون كل يوم جمعة، يتزاحمون بالركب، وتشرئب أعناقهم إلى الإمام وهو يتلو عليهم آيات ربهم، وأحاديث نبيهم المصطفى – صلى الله عليه وسلم- يمزجها بواقعهم المعيش، ويوصلها إليهم بلغتهم الدارجة، وهم يسمعون، وكأن على رؤوسهم الطير. هكذا كنا، على الأقل، نستقبل هذا اليوم أيام كنا في ريعان الشباب، نتنقل بين المساجد العامرة بأئمتها العظام. تتشوف أفئدتنا حضور الخطبة والصلاة خلف من كنا نحسبهم على هدى وصدق، وكنا نعتبرهم القدوات الحسنة التي خلفت في نفوسنا الكثير من سيماء الصلاح، وحب الدين، وأهله من الصالحين. فرغم ما عرفته فترات من مغرب السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من مضايقات لأئمة الجهر بالحق، والصدع بالمعروف، وفضح الفساد، والتفاهة، والمنكرات،.. لم تجرؤ وزارة الأوقاف، آنئذٍ، أن توحد الخطبة، أو تحد من تعبير الأئمة التلقائي، واجتهادهم في التوجيه، والوعظ، حتى مع بعض الخطب الموحدة التي كانت مقتصرة على المناسبات الوطنية. فكان الواحد منا يختار، ويتخير، بين المساجد ما يشفي غليله الديني والروحي. فلكل إمام أسلوبه الوعظي الذي يميزه عن سواه، ولكل إمام جمهوره الذي لا ينفك عن حضور جُمَعه ودروسه. فكان هذا التنوع بلسماً يشفي حاجاتنا إلى الاتعاظ والتذكر. حيث كان كل واحد منا يجد سَلْوَاهُ وانشراح صدره، في إمام من الأئمة، يشُدُّ إليه الرحال. فينتقل إليه، داخل نفس المدينة، أو خارجها، لحضور خطبته، والاستزادة من علمه وتوجيهاته. لقد كان المغرب يعيش، خلال هذه السنوات الرائعات، اكتفاءً وعظيا غيَّر الكثير في سلوكات المغاربة، وعاداتهم الشاردة عن الدين والحق. أما اليوم، ومع هذه الخطبة الموحدة، فقد تعطل دور الإمام، فما عاد أمام المغاربة المسلمين خيار بين هذا وذاك، وما عاد لأحد من الأئمة مجال ليتميز عن سواه، وقد أصبح "براحا" ينطق بما يُكتب له، فيسرده دون تصرف. بل قد أصبحت الخطبة متاحة في المواقع قبل يوم عرضها بيومين أو أكثر. فما عاد لحضورها تشويق، ولا رغبة تذكر. فقد أضحى واقع المغاربة في واد، والخطاب الرسمي الوعظي في واد. لقد نجحت وزارة الأوقاف في تحييد يوم الجمعة ، عن مقصد اختياره عيدا أسبوعيا للمسلمين؛ فيه يتطهرون، ويغتسلون، ويُبكِّرون إلى المساجد، ويتزاورون،…تماما كما يفعلون خلال العيدين المباركين، بعد أن حولته إلى يوم عاد، وأفقدت خطبته روحها. و لعل القادم ، ولاشك، سيكون أسوء، حينما تسقط القيمة الروحية لصلاة الجمعة في نفوس الناس، فتخلو منهم المساجد، وتشكو المنابر إلى ربها فعل صناع القرار الديني بالمغرب. وقد بدأت بوادر هذا الانسحاب والنزوح تظهر في صفوف الشباب الذين بدؤوا، فعلا، يسجلون عزوفهم عن هذه الخطبة، فصارت جمهرة منهم تشهد الصلاة ولا تشهد الخطبة، لأنها تعتبر ذلك أفضل من حضور خطب هي أقرب إلى اللغو منها إلى الوعظ والإرشاد .. "ومن لغا فلا جمعة له.." !!!. دمتم على وطن.. !!