العرائش أنفو- برعلا زكريا اليوم، يخوض المغرب حربا وجودية لا تقل خطورة، لكنها من نوع آخر، حرب صامتة لا يعلن عنها في نشرات الأخبار، ولا تخاض رحاها في ساحات القتال التقليدية، بل في عالم أطفالنا وفي راحة أياديهم.في هذه الحرب، أصبح بقاء الهوية والقيم والأجيال الصاعدة تحت تهديد مباشر، سلاحها الأشد فتكا هو الهاتف الذكي، وذخيرتها محتوى رقمي مسموم يبث بلا هوادة. لقد انقلبت الموازين بشكل مخيف، فالوصول إلى شبكة الإنترنت في المغرب أصبح من أرخص وأسهل المكتسبات، وبكبسة زر واحدة، يفتح الباب على مصراعيه أمام سيل من التفاهة الممنهجة، والمواد الإباحية الفجة، والدعاية المروجة للشذوذ الجنسي، وكلها تقدم في قوالب جذابة ومخادعة. في هذا الواقع الجديد، أصبح الطفل الذي لا يملك هاتفا ذكيا حالة نادرة ومثيرة للشفقة بين أقرانه، في حين أن المنطق السليم يقتضي أن يكون العكس هو القاعدة، وأن يكون الفضاء الرقمي استثناء مقننا ومراقبا في حياة الصغار. إننا نعيش في عصر ينشغل فيه الآباء، إما في سباقهم المحموم لتلبية متطلبات العيش، أو يغرقون هم أنفسهم في عوالم هواتفهم الافتراضية. وفي خضم هذا الانشغال، تنشأ بالضرورة فجوات زمنية، قد لا تتعدى دقائق أو حتى ثوان، لكنها كافية تماما لوقوع الكارثة. هذه الثغرة هي كل ما يحتاجه الطفل ليتلقى جرعة مركزة من السموم القيمية والفكرية، سواء عبر مقطع إباحي صادم، أو محتوى يشوه فطرته السوية. لحظات قليلة قد تزرع في عقله الباطن صدمة نفسية عميقة، أو اضطرابا سلوكيا، أو رغبة عارمة في تقليد وتجربة ما شاهده، وهو ما يفسر الكثير من السلوكيات العدوانية والكلام الساقط والانحرافات التي باتت تستشري بشكل مقلق بين الصغار والمراهقين. هذا هو جوهر المأساة، فمهما بلغت درجة حرص ورقابة الأسرة والمدرسة، تظل حتمية وجود هذه الفجوة القاتلة قائمة. هذا التهديد ليس عشوائيا، بل تقف خلفه شركات ومنظمات عالمية عملاقة، مصممة على تحقيق الأرباح والانتشار بأي ثمن. خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي مبرمجة لترويج المحتوى الأكثر إثارة وصدمة وجدلا لأنه يضمن بقاء المستخدمين لأطول فترة ممكنة. لا يهمها إن كان هذا المحتوى يدمر براءة طفل أو يزعزع استقرار مجتمع، فنموذجها التجاري قائم على اقتصاد متوحش لا يعترف بقيم أو أخلاقيات ، وأخطر ما فيه أنه يستهدف الأجيال الصاعدة بأجندات لا تخفى على كل ذي بصيرة. ما نراه من عنف في المدارس، وشغب في الملاعب، ومعاناة مربين وآباء مع جيل يعاني من هشاشة نفسية وقيمية، ليس إلا الحصاد المر لهذه الزراعة الخبيثة. وفي الوقت الذي يواجه فيه المغرب هذه الحرب الشرسة، لا يكتفي الخطاب الرسمي باللجوء إلى لغة الخشب والعبارات المطمئنة، بل يساهم الإعلام الرسمي نفسه في تعميق الأزمة عبر فتح المجال لمسلسلات مدبلجة وبرامج ترسخ التفاهة. والمفارقة أن الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا)، التي يفترض بها حماية المشهد من هذه الانزلاقات، تقف موقف المتفرج، متذرعة بأن ما يبث يدخل في دائرة الأعمال الفنية، وقد تجلى هذا الموقف بوضوح صارخ عند بث سهرة لفنان يفتخر بعبارة (سلكوط) ويروج للكلام الساقط في أغانيه، ليتحول الانحراف إلى فن يبث على مرأى ومسمع الجميع. إن مواجهة هذا الطوفان لا تكون بمثل هذا التهاون، بل باستراتيجية وطنية حاسمة، كتلك التي تنهجها دول مثل أستراليا التي أنشأت مفوضية للسلامة الإلكترونية بصلاحيات واسعة لفرض إزالة المحتويات الضارة وتغريم عمالقة التكنولوجيا. وفي فرنسا، تتجه الدولة لفرض حجب المواقع الإباحية وتفعيل أنظمة تحقق من العمر صارمة. أما كوريا الجنوبية، فقد دمجت برامج التربية على المواطنة الرقمية في صلب مناهجها الدراسية، مع توفير مراكز دعم نفسي مدعومة من الدولة. إننا في أمس الحاجة إلى إجراءات مماثلة وقوية والتعامل بجدية وحزم مع مروجي المحتوى الهابط ومحاسبتهم قانونيا، وحجب المواقع الإباحية بشكل فوري وشامل، وتجنيد المتخصصين النفسيين في المؤسسات التربوية. والأهم من ذلك، يجب على الدولة أن تتدخل لدعم الأسر في تحمل التكاليف الباهظة للعلاج النفسي للأطفال، التي تقف عائقا أمام آلاف الأسر المكلومة. إن إدراج الصحة النفسية للأطفال ضمن التغطية الصحية الشاملة لم يعد ترفا، بل ضرورة قصوى للدفاع عن مستقبلنا. إما أن نخوض هذه الحرب الوجودية بكل ما أوتينا من قوة وحزم، أو أن نقف متفرجين على جيل كامل يضيع بين أيدينا.