الاستخبارات المغربية... من جذور تاريخية عميقة إلى هندسة أمنية متطورة لمواجهة تهديدات العصر الرقمي        بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع        تنديد عربي واسع بعد تطرق نتانياهو إلى "رؤية إسرائيل الكبرى"    تحذير أممي لإسرائيل وروسيا من إدراج قواتهما في قائمة الجهات المشتبه بارتكابها جرائم جنسية    "سبيس إكس" تطلق 28 قمرا صناعيا إضافيا إلى الفضاء    مصرع 56 شخصا وفقدان العشرات جراء فيضانات مدمرة في كشمير الهندية    الكويت.. ارتفاع حالات التسمم والوفيات الناتجة عن مشروبات كحولية فاسدة            إحتارن يقترب من محطة جديدة في الدوري الهولندي    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة بالمغرب        "كارثة طبية" أدت لوفاة العشرات في الأرجنتين        انتشار الصراصير في أحياء طنجة يثير استياء السكان ومطالب بتدخل عاجل    طاقم الإسعاف بتعاونية الجرف SST... جندي الخفاء بموسم مولاي عبد الله    خبير إسباني: المغرب شريك أساسي في تأمين الطريق الأطلسية ضد تهريب المخدرات    نهاية نجم حاول ابتلاع ثقب أسود    بيانات أمريكية تخفض أسعار الذهب    الكونغو الديمقراطية تهزم أنغولا بالشان    الصحافة الفرنسية تبخس حق حكيمي    حريمات يشيد بذكاء "أسود البطولة"    تطويق حريق في دردارة بشفشاون    تهديدات ترامب ترفع أسعار النفط    غرامة تصل إلى 30 ألف درهم وحبس حتى سنة.. عقوبات صارمة ضد الدراجات غير المطابقة        باطمة تحيي لأول مرة بالجوهرة الزرقاء سهرة غنائية وتسدل الستار عن فعاليات "صيف شفشاون"    خلاف حول دراجة "سانية" ينتهي بجريمة قتل مروعة في حي السعادة بطنجة    المستثمر المغربي بمدريد.. محمد النقاش عريس سهرة الجالية بمسرح محمد الخامس    عملية "قَدَر" 1979... عندما حسم المغرب مصير وادي الذهب في ساعات    اللجنة الوطنية لتحرير سبتة ومليلية تحتفي بذكرى استرجاع وادي الذهب وتدعو للاصطياف تحت الراية المغربية    تسجيل 3 وفيات جراء الحرائق في إسبانيا    السكتيوي يكشف عن تشكيلة المنتخب الوطني المحلي أمام زامبيا    عروض التبوريدة النسوية تجذب أنظار عشاق الفروسية بموسم مولاي عبد الله                ظاهرة السخرية من الأديان، الأسباب والأبعاد    العطلة الصيفية…هكذا غيّر تراجع القدرة الشرائية عادات المغاربة في السفر وقضاء العطل    المغرب يعزز موقعه في صناعة السيارات بمشروع توسعة ضخم لمصنع ستيلانتيس    سعر "بيتكوين" يبلغ 124 ألف دولار    ألفيس بيريز: البطل الذي فتح... صخرة    عادل شهير يطرح كليب أغنيته الجديدة سيري باي باي -فيديو-    القضاء الكوري يرفض تعويض ملحن أمريكي    النقيب الجامعي يتهم الرميد بارتداء عمامة المتطرف ضد ابتسام لشكر ويدعوه لعدم التأثير على القضاء    دراسة: ألم "فصال الركبة" يخف بتدريب المشي    نصائح ذهبية لتجنب حوادث الآلات الكهربائية    الدورة الثانية لمهرجان "سيني بلاج" من 15 إلى 30 غشت الجاري بعدد من مدن المملكة    سلطان يلهب الجمهور ب"الركادة"        تفشي بكتيريا مرتبطة بالجبن في فرنسا يودي بحياة شخصين ويصيب 21 آخرين    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في قرار المحكمة الدستورية عدد 25/255 بشأن قانون المسطرة المدنية رقم 02-23
نشر في اليوم 24 يوم 14 - 08 - 2025

صدر أخيرا قرار المحكمة الدستورية المنتظر حتى قبل إحالة نص قانون المسطرة المدنية عليها. و لربما يكون هذا النص هو أول قانون يجمع كافة المتدخلين من وزير عدل و رجال قانون و نواب برلمانيين و رئاسة مجلس النواب على ضرورة إحالته على المحكمة الدستورية قبل أن يتم عرضه على الجلسة العمومية للمصادقة عليه! و كأن لسان حالنا يقول إن هناك قوة قاهرة أرغمت المشرع على القبول به و الرضوخ إلى توجه الحكومة بشأنه رغم عدم الثقة في سلامة مضامينه، و إن الأمل معقود على المحكمة الدستورية لمعالجة العجز الاستثنائي للمؤسسة التشريعية، بما يفترض في هذه المحكمة من نأي عن النزعات السياسية و حياد عن التجاذبات المؤسساتية و النعرات المتحيزة هنا و هناك.
على كل حال، يمكننا أن نتأكد من أن شيئا ما غير طبيعي كان يقبع على أنفاس المؤسسة التشريعية و يكتم الأصوات الناقدة داخلها بمجرد إلقاء نظرة على عدد ممثلي الأمة الذين حضروا جلسات المناقشة التفصيلية للجان المتخصصة، و عددهم خلال الجلسات العمومية المقررة للمصادقة! كما يمكننا أن نتأكد من ذلك بملاحظة أن الإحالة على المحكمة الدستورية قد تمت في 09 يوليوز 2025 برسالة من رئيس مجلس النواب بمجرد أن تمت المصادقة على المشروع من طرف مجلس المستشارين إثر القراءة الثانية دون انتظار التوصل بالنص النهائي، استعجال استثنائي جعله يخاطر بارتكاب خلل إجرائي حين أرفق رسالته بنسخة من النص المصادق عليه من طرف مجلس النواب في 17 يونيو بينما كان عليه توجيه النص النهائي المعتمد من مجلس المستشارين في 08 يوليوز! و لولا أن المجلس تجاوز الأمر و استحضر هذه الأخيرة من مجلس المستشارين، و لولا أنه لم يكن هناك من إضافة أو تعديل ما عدا تصحيح خطأ مادي مجرد وحيد، لكان مصير الإحالة عدم القبول! قد يقول قائل: مجرد مصادفات! و لم لا؟ لكن ماذا عن أن الإحالة قد جاءت مطلقة دون تحديد النصوص المراد فحص دستوريتها و لا تقديم دواعي الملتمس؟
على كل حال، تبقى هذه تكهنات أو آراء خارجة عن نطاق التحليل القانوني المراد في هذه الورقة، ارتأيت أن أشاركها مع القارئ الكريم لعلها تفتح بعض أبواب التفكير و البحث حول الخلفيات التي حكمت الإخراج الاستثنائي لهذا القانون.
أثار صدور قرار المحكمة الدستورية هذا « صيحات نصر » لعدة جهات، تحولت في بعض الحالات إلى « صرخات شماتة » في مواقف الحكومة و على الخصوص مواقف وزير العدل الذي دافع باستماتة غير معهودة على اختيارات وزارته. و أود بداية أن أقول إن الأمر لا يستحق كل هذه الضجة. من جهة أولى، لأن دور المحكمة الدستورية الطبيعي هو مراقبة دستورية النصوص التشريعية في إطار ديمقراطي يضمن التوازنات الدستورية. و لو كان للصيحات المذكورة مكان لوجب أن تصدح بها الحناجر وقت خلق المحكمة الدستورية التي يشكل وجودها ضابطا أساسيا و رقابة جوهرية على عمل المشرع و من تم على توجهات العمل الحكومي. و من جهة ثانية، لكون ما قامت به المحكمة من تقرير عدم دستورية بعض نصوص هذا القانون ليس حكما سياسيا تقاس به مشروعية التوجهات الحكومية، بل يفترض به أن يكون موجها قانونيا و ضابطا للتوازنات الكبرى للقانون المسطري. و قد كنت أود لو تحرك الفاعلون المؤسساتيون من قبل لإخضاع قانون التنظيم القضائي نفسه للرقابة الدستورية، كما كنت أود لو أفرغت مدونة الأخلاقيات القضائية في صيغة قانون يعرض بدوره على الفحص الدستورية، و ذلك نظرا لما تضمناه من مبادئ عامة و ضوابط كلية للنشاط القضائي، بعدما عرضت عليها باقي القوانين التنظيمية المتعلقة بالمجال القضائي، حتى تكتمل الصورة. و من جهة ثالثة، أرى أن الضجة « الشامتة » التي صاحبت قرار المحكمة سابقة لأوانها كثيرا! و ذلك أن النظر المتبصر لتفاصيل القرار قد يجعلنا أقرب إلى التشاؤم بما حمله من اختلالات و تلبيسات فضحت اختلاط الأمر على المحكمة و فتحت الباب أمام قيام الحكومة و أغلبيتها في المؤسسة التشريعية بإصدار نصوص مدمرة تهدم التوازنات المسطرية الكبرى و لا تبالي.
يستحق قرار المحكمة الدستورية في الواقع دراسات مطولة و نقاشات معمقة حول مضامينه و تداعياته على المنظومة القضائية و مبادئها الأساسية لا تتسع لها هذه الورقة حتما. و نظرا لجدية الموضوع و خطورته، و نظرا لطابعه الاستعجالي، فقد آثرت أن أشارك مع القراء من رجال و نساء القانون و أعضاء المؤسسة التشريعية، علاوة على أعضاء المحكمة الدستورية، أهم الإشكالات التي تنضح بها سطوره و تضج بها المساحات البيضاء بين هذه السطور، مما صرحت به أو أضمرته، في صيغة ملاحظات شديدة الاختصار، لعلها تكون إضاءة على الطريق قبل أن تعيد الحكومة و البرلمان تصحيح ما أوقفت المحكمة إصداره. راجيا أن تكون مساهمتي المتواضعة هذه معينا على تصويب العمل و إدراك الصواب.
و سوف أخصص هذه الورقة لجزء القرار المخصص لفحص دستورية المادة 17 من القانون 02-23 فقط، على أن أخصص بعدها ورقة إضافية للجزء الخاص بمناقشة المادتين 408 و 410.
ملاحظات أولية
يتعلق الأمر هنا بملاحظات عامة على مسطرة فحص الدستورية و النهج الذي اتخذته المحكمة بشأن تحديد نطاق الفحص، و إطار المنطوق، و تحديد أثر القرار على مسطرة الإصدار.
أولا: بشأن موضوع الفحص الدستوري
لقد سبق معنا أن رسالة الإحالة على المحكمة من طرف رئيس مجلس النواب (دون باقي الجهات المخول لها طلب فحص الدستورية) لم تحدد مواد بعينها، و لم ترفق بمذكرة لعرض الحيثيات و الدواعي. و هو ما اعتبرته المحكمة إحالة مطلقة لمجمل النص، و مدا ليدها على كل بنوده و مقتضياته علاوة على مسطرة إقراره و التصويت عليه. لكن المحكمة – على ما يبدو – لم تكن تملك الوقت و الإمكانيات اللوجستية اللازمة لبسط رقابة تفصيلية على كل القانون، فقررت حصر نطاق رقابتها على جزء منه فقط. فكيف فعلت ذلك و بأي معيار؟
لقد حصرت المحكمة عملها على المواد 17، 84، 90، 107، 364، 288، 339، 408، 410، 624 و 628، و كذا على الإحالات على المادة 84 في باقي المواد. ثم اكتفت في سياق منطوقها بالتصريح بأنه »لا حاجة لفحص باقي المواد و المقتضيات ». فهل استندت المحكمة في ذلك إلى معيار موضوعي ما؟
كلا! لقد صرحت في مقدمة قرارها بأنه قد »تراءى لها أن تثير فقط المقتضيات و المواد التي بدت لها بشكل جلي و بين أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له »! هكذا دون مزيد تعليل.. و هذا يستدعي قول ما يلي:
أولا، إن الإحالة كانت عامة دون تخصيص، و هو ما يفرض على المحكمة الدستورية بسط رقابتها على كل النص. و هي باستنكافها عن ذلك تكون قد امتنعت عن القيام بعملها، و لم تستنفذ مهمتها الدستورية.
ثانيا، لقد صرحت بأنها انطلقت في انتقائها للنصوص مما ظهر لها ابتداء و قبل أي فحص بأنها مقتضيات غير دستورية. و هذا معناه أنها قد انكبت على تلك النصوص انطلاقا من حكم مسبق و متحيز بأنها غير دستورية! بمعنى أنها لم تكن تفحص مدى دستوريتها، بل تبحث عن مبررات لبسط رقابتها عليها بعدما انطلقت من مسلمة عدم دستوريتها! و هو ما سيفسر فيما بعد أسلوبها في صياغة حيثياتها.
ثالثا، إنها تقر بأنها لم تمارس رقابتها على باقي المواد، فكيف إذن استطاعت أن تبرر إصدار قرار لا تستطيع من خلاله الجزم بدستورية أو عدم دستورية نص لم تراقب منه سوى أقل من 2% ؟
ثانيا: بشأن إطار المنطوق
نتيجة لما سبق، و نظرا لكونها لم تقم بفحص كل القانون، فلم يكن أمام المحكمة من بد سوى أن تهمل الإشارة إلى باقي النصوص التي لم يشملها نظرها. و لذلك نجدها قد قررت عدم مطابقة النصوص المذكورة أعلاه أو مخالفتها للدستور، لكنها لم تقرر شيئا بخصوص باقي المواد، خلافا للأصل. فما دامت لم تقرر شيئا بخصوص دستورية قرابة 99 في المائة من القانون، فماذا فعلت إذن؟
ثالثا: بشأن أثر القرار على إصدار القانون
تنص المادة 27 من القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية على أنه إذا ارتأت هذه الأخيرة أن المقتضيات أو المواد المقدرة عدم دستوريتها تقبل العزل أو الفصل عن باقي القانون دون إخلال به، فإنها تملك السلطة في إصدار قرار يتضمن ذلك، و هو ما يسمح بإصدار القانون و دخوله حيز التنفيذ دون ما تقررت عدم دستوريته.
و إذا عدنا إلى المواد (و أجزاء المواد) المقرر مخالفتها للدستور، فسوف نجدها على الإجمال لا تحول دون إخراج باقي القانون إلى الوجود. فالمادة 17 ليست ذات صلة بالباقي. و الجزء غير الدستوري من 84 يقبل العزل من النص. و المقتضى المتعلق بالمحاكمة عن بعد من المادة 90 يقبل السحب منها دون إضرار بالباقي. و المقتضى الذي يمس حقوق الدفاع في المادتين 107 و 364 قابل للحذف منهما. و الإحالة الواردة في 288 على 284 بدل 285 علاوة على قابليتها للفصل فإنها أصلا مجرد خطأ مادي لا يرقى إلى القول بعدم الدستورية، و نصوص القوانين تعج بما هو أقبح منها. و الجزء غير الدستوري في 339 يقبل الحذف دون إضرار بالباقي. أما ما عابته المحكمة على الصلاحية المسندة لوزير العدل في 408 و 410 فإنه – على الرغم من التكلف الواضح فيه – قابل للفصل من الباقي دون مشاكل. و لا يبقى سوى تحفظ المحكمة على 624 و 628 بشأن مسك النظام المعلوماتي، و هو ما يقبل بسهولة عزله عن باقي القانون دون أي مشاكل تذكر.
فلماذا آثرت المحكمة السكوت عن ذلك، و عاقت صدور كل القانون، رغم أنها فعلت ذلك في قوانين أخرى، و ما القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة منا ببعيد و قد كانت حالته أكثر تعقيدا؟ لا أريد الدخول في تكهنات سياسية أو قراءات للصراعات المؤسساتية التي ترافق النص، لكنني أرى أنها قد عرقلت بشكل غير مبرر صدور قانون حيوي طال انتظاره، و استغرقت صياغته و وصوله إلى البرلمان قرابة عقدين من الزمن دون مبررات موضوعية مقبولة. و الظاهر أن المحكمة قد عانت من ضغوط قوية انعكست كذلك على جودة مناقشتها لتلك الحفنة من المواد التي تمكنت من مراقبتها.
ملاحظات حول مناقشة المادة 17
على الرغم من أن مناقشة الفقرة الأولى من المادة 17 و الوصول إلى نتيجة القول بعدم دستورية لم يتطلب من المحكمة سوى أقل من صفحة، غير أنها ضمت في حيثياتها دلالات و معان من الخطورة و الأهمية بمكان. فبعد استحضارها للمقتضيات الدستورية التي ارتأت علاقتها بالمناقشة، خصصت المحكمة لتبرير عدم دستورية هذه الفقرة أربع حيثيات سوف نعرض مضمونها أولا قبل أن نصوغ بشأنها ملاحظاتنا.
أولا: مضامين حيثيات القرار
استحضرت المحكمة الدستورية من الدستور ثلاثة مقتضيات. أولها الفقرة الأولى من الفصل السادس، التي تنص على أن »القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة ». و ثانيها، ما نص عليه الفصل 117 من أن القاضي يحمي الأمن القضائي للأفراد و الجماعات. و ثالثها، ما جاء في الفقرة الثالثة من الفصل 126 من أن »الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع ». ثم استثمرت ذلك في حيثياتها الأربع اللاحقة كما سنفككها فيما يلي.
مضمون الحيثية الأولى:
قررت المحكمة الدستورية في هذه الحيثية ما يلي:
1- أن إبطال »المقرر القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي » مقبول دستوريا، شريطة أن يقوم بذلك القضاة الممارسون فعليا لمهامه القضائية بمحاكم التنظيم القضائي.
2- لم تأت على ذلك بمبرر دستوري أو قانوني، و إنما استدعت مقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة 2 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس العلى للسلطة القضائية.
مضمون الحيثية الثانية:
قررت المحكمة في هذه الحيثية ما يلي:
1- أن مهمة حماية النظام العام و العمل على صيانته منوطة بالنيابة العامة. غير أنها لم تدل بما يبرر ذلك دستوريا و لا قانونيا، و لم تحدد مضمون »النظام العام » الذي تقصده.
2- أن إسناد صلاحية طلب التصريح ببطلان المقرر القضائي المشار إليه في المادة 17 (أي الذي من شأنه مخالفة النظام العام) إلى النيابة العامة أمر لا يخالف الدستور.
3- اعتبرت أن الدستور قد وضع »مبدأ الأمن القضائي ». غير أنها لم تعط أي مضمون لهذا المبدأ و لم تعرفه و لم توضح محدداته. و أوردت هذا المبدأ في أسلوب المقابلة أو المعارضة بصيغة »و إن كان القانون قد ….. فإن نفس الدستور كفل بمقتضى مبدأ الأمن القضائي … ».
4- استندت إلى »مبدأ الأمن القضائي » لتقرر أن الدستور كفل للمحكوم لصالحهم الحق في التمسك بحجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، و إنفاذ آثارها.
مضمون الحيثية الثالثة:
1- في هذه الحيثية، استعملت المحكمة مفهوم »النظام العام في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى المدنية »، دون تفسير! علما أن موضوع المادة 17 تحدث عن »مخالفة المقرر القضائي للنظام العام » و ليس عن هذا الذي أسمته المحكمة »النظام العام في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى المدنية »..
2- قررت المحكمة أن حماية النظام العام بهذا المعنى هدف مشروع لا يخالف الدستور.
3- غير أن المحكمة عادت و قيدت سعي المشرع إلى فتح هذه المسطرة (المادة 17) بقيد »استنفاذ صلاحيته في التشريع »، و ذلك بأن يوازن بين الحقوق و المبادئ و الأهداف المقررة بموجب الدستور، »على النحو الذي سبق بيانه ».
مضمون الحيثية الرابعة:
في هذه الحيثية الأخيرة (علاقة بالمادة 17) قامت المحكمة الدستورية بما يلي:
1- لأول مرة، و خلافا لحيثياتها السابقة، ستعتبر أن التصريح ببطلان المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي عمل يمس بحجيتها، و من تم يمس بمبدأ الأمن القضائي.
2- و لأول مرة سوف تقرر أن هذ الأمر، رغم ما فيه من مساس بمبدأ الأمن القضائي، يمكنه دستوريا أن يرد لكن فقط على سبيل الاستثناء.
3- و خلافا لما قررته في الحيثية الأولى، سوف تقرر أن الجهة القضائية التي سوف تبت في موضوع التصريح بالبطلان لعلة مخالفة النظام العام سوف تمارس سلطة تقديرية غير مألوفة و لا تخضع لأي ضوابط موضوعية يحددها القانون.
4- و خلافا كذلك للحيثية الثانية، سوف تقرر أن إسناد صلاحية طلب التصريح بالبطلان إلى النيابة العامة بعلة مخالفة النظام العام يمنح هذه الأخيرة سلطة تقديرية غير مألوفة و غير خاضعة لضوابط قانونية موضوعية.
5- و اعتبرت أن التوقف عند الإطار الاستثنائي المبرر لهذه المسطرة يمكنه أن يتحقق بحصرها في حالات خاصة.
6- ثم انتهت من كل ذلك إلى القول بأنه ما دامت الفقرة الأولى من المادة 17 قد خرقت »المبدأ الدستوري للأمن القضائي » لما حملته من مساس بحجية الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي، نظرا لكونها فتحت أمام القضاء بوابة ممارسة سلطة تقديرية غير مألوفة و دون ضوابط موضوعية محددة قانونا، و لم تحرص على حصر ذلك في حالات استثنائية، فإن المشرع يكون قد أغفل استنفاذ صلاحياته المسندة إليه بموجب الفصل 71 من الدستور.
أعتقد أن مجرد تفكيك الحيثيات المذكورة قد أفصح عن كم التناقضات و الأخلاط التي تضمنها قرار المحكمة الدستورية. و مع ذلك فلا بأس في إثارة الملاحظات التالية. و أرجو من القارئ الكريم أن يعذرني إذ سيرى أنني سأسوق ملاحظاتي دون بذل مزيد من الجهد في تصنيفها و التنسيق بينها. و حسبي أن أشير إلى الإشكالات التي تطرحها داعيا إلى بذل مجهود جماعي إضافي من أجل مزيد من استثمارها و تمحيصها.
ثانيا: ملاحظات على الحيثيات
إن الملاحظات التي سأسوقها هنا سوف تتبع ترتيب الحيثيات نفسها، في أفق الاشتغال عليها لاحقا بمنهج تركيبي مناسب.
فأما عن الحيثية الأولى، فإني أجلب النظر إلى ما يلي:
1- إن المحكمة الدستورية قد تناولت في هذه الحيثية »المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي »، على الرغم من أن نص المادة 17 تحدث عن كل المقررات القضائية دون حصر من حيث حيازة قوة الشيء المقضي.
2- لقد قبلت المحكمة الدستورية هنا كقاعدة عامة إمكانية إخضاع المقررات المذكورة لإعادة فحص خارج إطار الطعون العادية و غير العادية المعتمدة من أجل القول ببطلانها بعلة مخالفتها للنظام العام. غير أنها لم تحل على أي سند دستوري أو قانوني أو حتى اجتهاد قضائي و لو حتى في القانون المقارن (رغم تحفظنا على استدعاء القانون المقارن هنا).
3- قبلت المحكمة هذه المكنة بشكل مطلق دون قيود بحكم مبدئي زعمت أنه يوافق الدستور، و لم تعتبر و لو على سبيل التحفظ أن من شأن مسطرة كهذه قد تمارس من نيابة عامة كانت أو لم تكن طرفا في الخصومة، انصرمت أم لم تنصرم آجال الطعن في حقها، وسواء كان المقرر باتا أم لا، أن من شأن ذلك المساس بأي مبدأ دستوري أو بقوة المقررات أو بحقوق الدفاع!
و أما عن الحيثية الثانية، فإن المحكمة:
1- بعدما اعتبرت أن تخويل النيابة العامة صلاحية التماس التصريح ببطلان المقرر القضائي حماية للنظام العام يدخل ضمن اختصاصاتها و لا يخالف الدستور، دون أي تحفظات أو قيود، عادت لتوحي بمعارضة هذه الصلاحية »لمبدأ الأمن القضائي ». غير أن المثير هو أنها لم تر في تدخل القضاء نفسه للتصريح بالبطلان المذكور أي مخالفة لأي مبدأ دستوري من خلال الحيثية الأولى، أما أن يسند أمر تقديم الطلب إلى النيابة العامة، فعلى الرغم من أنه دستوري، إلا أن من شأنه مخالفة مبدأ دستوري!!
2- استدعت المحكمة الدستورية مفهوم »الأمن القضائي للأفراد و الجماعات » الوارد في الفصل 117 من الدستور، و الذي جاء في سياق تكليف القضاء بحمايته، و اتخذت منه مبدأ دستوريا: مبدأ الأمن القضائي. لكنها لم تكلف نفسها عناء تعريف هذا المبدأ! لا مضمونه، و لا مقتضياته، و لا حدوده! علما بأنها استدعته أو بالأحرى »اخترعته » لتجعله قيدا أو حائلا دستوريا أمام نص قانوني، فكان الأحرى بها العناية بتعريفه، غير أنه لم تر لذلك داعيا..
3- بيد أن الملفت للنظر هو أن المحكمة جعلت بطريقة غير مباشرة من مضامين »مبدأ الأمن القضائي » ما وصفته بأنه »حق المحكوم لصالحهم في التمسك بحجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به و إنفاذ آثارها ». و هنا لا مناص من إثارة الأفكار التالية.
إن مفهوم الأمن القضائي قد ورد في الفصل 117 من الدستور، الذي جعل القاضي le juge و ليس رجل القضاء le magistrat مكلفا بحماية حقوق و حريات الأفراد و الجماعات و »أمنهم القضائي ». و هو ما يتضح معه أن مفهوم الأمن القضائي يتحدد بكونه نتيجة ما يقوم به القاضي لحماية الحقوق و الحريات المكفولة للأفراد و الجماعات، بمعنى أن الأمن القضائي هو ما يتحقق للناس بتدخل القضاء لحماية حقوقهم و حرياتهم، فهو نتيجة ممارسة القضاء لوظيفته الأساسية المذكورة. و حتى لو أردنا تقديم هذا المفهوم بشكل مستقل عن وظيفة حماية الحقوق و الحريات، فستكون دلالة ذلك أن الأمن القضائي مطلب يتحقق بتدخل القاضي لحماية مصالح الناس، فهو أمن هؤلاء الذي يتحقق بتدخل القضاء، و من تم وصفه بالقضائي. لكن لا شيء يسوغ القول بأن »الأمن القضائي » مبدأ دستوري يعني حماية قوة المقررات القضائية، لأن ذلك يؤول إلى جعل الأمن القضائي المقصود في الفصل 117 هو أمن المقرر نفسه، و هو أمر غريب Absurde! فتحقيق الأمن القضائي تتحقق إذن بتأمين ولوج الأشخاص إلى القضاء لتأمينهم في حقوقهم و حرياتهم. أما قوة المقررات القضائية و إلزاميتها فهي مبدأ دستوري بموجب الفصل 126 الذي ينص على أن »المقررات القضائية النهائية ملزمة للجميع ». مع الإشارة إلى ضرورة تصويب الصيغة الدستورية التي تحدثت عن »الأحكام النهائية jugements définitifs » بينما المراد »المقررات الباتة Décisions irrévocables ».
مهما يكن من أمر، فإن المحكمة الدستورية لم تر داعيا للتدخل في تأصيل ما وصفته بالمبدأ الدستوري المتمثل في الأمن القضائي، و عمدت إلى توظيفه دون تبرير لتستخلص منه نتائج تقيد بها نصا تشريعيا!
الفكرة الثانية مفادها أن المحكمة الدستورية جعلت إلزامية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي منحدرة من »مبدأ الأمن القضائي »، و أتعبت نفسها في ذلك (أو ربما لم تتعب نفسها في الواقع باعتبار ما أسلفناه)، رغم أنها مؤسسة على الفقرة الأولى من الفصل 126 من الدستور. فلماذا ذهبت هذا المذهب؟
و على مستوى ثالث، ليس من الواضح لماذا حصرت دلالة إلزامية المقررات الحائزة لقوة الشيء المقضي في »حق المحكوم لصالحهم في التمسك بحجيتها و إنفاذ آثارها »؟ و الحال أن الفصل 126 يجعل لها مدى مطلقا فهي تطال المحكوم لصالحه و المحكوم ضده و حتى الغير..
4- نلاحظ كذلك أن المحكمة الدستورية في عدة مواقع تخلط بين مفهوم حجية المقررات و مفهوم حيازتها لقوة الشيء المقضي!
5- و يبقى أخطر ما ينحدر من هذه الحيثية الثانية هو أنها جعلت قوة المقررات القضائية الباتة مسألة خاصة لا تعني سوى من استفاد منها دون غيره، و لا علاقة له بالنظام العام و لا بأي مبدأ دستوري عام! و لعل هذا الموقف نفسه ينسف موقف المحكمة من أساسه، كما أنه ينقض المبدأ الدستوري الواضح المنصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 126 من الدستور!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.