القصر الكبير : مصطفى منيغ الحَنِين ليس الحَنَان ، إن تقارَبا في الحروف شكلاً وعدداً ، تباعَدا في المعنى مضموناً مُتَجَدِّداً ، الأول إنعاش الذاكرة لاختبار العقل ذاته ، إن ظلَّ في مستوى الحُكمِ على التمييز (مع تقدُّم عمر صاحبه) بين أحقية الماضي المُسجَّل عليه مباشرة مشهدا ناطقا بعد مشهد في خزان خيال ، و ترميم عجز الحاضر بما يُهَيَّأُ لحظة بلحظة لحسن الختام . أما الثاني فارتباط فطري بين الناتج وأصل الإنتاج ، يبقَى على حاله غير مُتأثِّر بمرور الزمن أو تغيُّر الأمكنة ، عاطفة تُحَسُّ ولا تُلْمَس ُ أو تُرَى ، تيارها غير المألوف بتصادم الايجابي مع السلبي ، بل لقاء بين الجزئي الحي بالكلي الحي ، قد يتحوَّل حنيناً إن ارتبط بحادث جميل يُراد الاحتفاظ به ذِكرَى عزيزة تنعش الخاطر وتريح اللحظة المٌعاشة ولو لدقائق تَرُدُّ الخيال لحقيقة مرحب بتكرار فحواها الغير قابل للتغيير. … بعد معركة وادي المخازن المجيدة أتت على مدينة القصر الكبير مراحل وإن تَناسَى مَن تناسَى وقائعها وحتى المميزة منها ، حيث أُدرِجت من نُظُمٍ متعاقبة ضمن المناطق المحسوبة (عنوة) على غير النافعة ، لإسقاط معنوياتها في وحل من إجراءات ظالمة تمهيدا لإعادتها مجرَّد موقع سكني عادي ، كائن في سهل اللوكوس بعيداً عن مراكز الحكم المركزية المتربعة على مغانم ، تخدم بها استمرارية فتن لانفراد فريق بالسيطرة على مجموع الفرق الأخرى ، المتمردة (أحيانا) المنتشرة في جغرافية المغرب . … ما يصل للناحية يكتفي بالوقوف في مدينتي تطوانوطنجة ومرات قليلة جدا في العرائش ، أما القصر الكبير فنبع خوف يتفادى البعض التقرب منه حتى لا يُصاب الأكبر فيهم نفوذا بداء الكرامة تقزم مكانته وتعيده فارغ النفع ، غير قادر على الأمر أو النهي . وصمدت غير منعزلة عن إشغال نفسها بما يضمن بقاءها ، من مجالات الفلاحة والصناعة التقليدية والتجارة والصيد من واديها الغني بنوع من السمك عز وجوده في وديان أخرى ، وقبل هذا وذاك الانكباب على التعلم وتحصيل الفقه على يد فطاحل الاختصاص المشهود لهم بالكفاءة . فتكونت الزوايا ومنها زاوية أولاد غيلان المؤسسة من طرف عائلة تحمل نفس اللقب أصلها أندلسي من مدينة غرناطة ، برز منها القائد المجاهد أبو العباس أحمد الخضر غيلان زعيم حركة الجهاد بمنطقة الهبط ، الذي استطاع ضم مدن تطوان وشفشاون ومعظم طنجة و تازة وما حولها من دواوير وبعض القبائل ذات الصيت تحت راية نفوذه ، جاعلا من القصر الكبير عاصمة له ، ممَّا جعل السلطان إسماعيل العلوي يشعر بجسامة خطورة هذا القصري الزاحف عبر مراحل لتأسيس دولة ، فلم يهدأ له بال حتى جمع حوله جيشاً جراراً كامل العتاد والعُدَّة ، اقتحم به بعد قتال شرس وعناء مضني مدينة القصر الكبير ، لتتعرَّض (بعد قتل غيلان) لتخريب طال مجمل أرجائها ، ولتُلحَق بقائمة المغضوب عليهم بشكل متجدِّدٍ ، لولا عراقتها وصبر أهاليها على تحدي المتاعب القاهرة وتجاوز المصاعب المدمِّرة لاندثر حتى حسها ، لم يقتصر المشرفون على معاقبتها بحكم علني واضح ، بل تكتموا (ومن عوّضوهم) على الطريقة المُتبعة عبر العقود المتتالية ، لتذوب من تلقاء نفسها ، لكنها بقيت بواسطة أبنائها وبناتها جيلا بعد جيل ، تناضل بذكاء وتجلد ونكران الذات وتحصيل العلم ، وتخصين تاريخها الحقيقي من تلاعب قلة قليلة راغبة في الظهور لتُشكَر، ثم ليتبدد ذكرها كأنها فاصلة بين جملتين ، احداهما تتحدث عن ماضي وانتهى ، والثانية عن مستقبل الفائز فيه حق القصر الكبير فيما قبلة من حاضر . … إلى أن حل الاحتلال الاسباني بسبب ضعف هؤلاء الحكام ، و تقصيرهم البيِّن في تحمل مسؤولية الدفاع عن حوزة الوطن بما يبقيه بعيداً عن مثل المأساة ، الجاعلة غرباء أسبان بصلون حتى القصر الكبير في راحة وبغير خسارة كبيرة تُذكر ، الاسبان الذين استولوا على المدينة وهم أعلم بما يتوفر لذى أهلها من بذور قابلة للزع ، ان وُضِع رهن إشارتهم ما يتطلب الأمر من إمكانات مادية ، كفيلة بالسقي ومتابعة المراقبة المنتظمة طيلة مرحلة النمو ، كأول خطوة لانبعاث مدينة بعد سبات عميق فُرِض عليها فرضاً.