لا تزال إشكالية حقوق الإنسان بين الكونية أو العالمية والخصوصيات الوطنية والدينية والعرفية مطروحة على بساط الدرس. ولم يقع الاهتداء بعد إلى الجواب المقنع الشافي، رغم بساطة هذه الإشكالية ظاهريا، ومختلف المقاربات المعتمدة تفسرهي نفسها الفشل الدائم لإيجاد الحل النهائي الذي يرضي في الوقت نفسه المدافعين عن الكونية والمنتصرين للخصوصية. فالموضوع يطرح عادة في وضعية تساؤل ينفي إشكالية التوفيق بين عنصري الإشكالية: هل تمتاز حقوق الإنسان بالكونية، وهل بالعكس تمتاز بالخصوصية؟ من البديهي أن طرح الإشكالية بصيغة تفرض الاختيار تؤدي بدون شك إلى التناقض. زد على ذلك أن مقاربة الموضوع كثيرا ما تطرح بشكل نضالي تغلب عليه الإيديولوجيا والتحزب السياسي. - فهناك فريق يرفع شعار كونية حقوق الإنسان، مدعيا أن هذه الأخيرة لا يمكن أن يخضع لأي استثناء، وأنه لا يمكن إخضاعها للخصوصيات مهما كانت طبيعتها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو لغوية أو دينية . فيرى هؤلاء أن حقوق الإنسان واحدة في كل مكان وفي كل محيط وأنها مقدسة. فحسب رأيهم أن الإنسان واحد مهما كان المكان الذي يعيش فيه ومهما كانت الظروف التي يوجد فيها، ومهما كانت الفترة الزمانية التي ينتمي إليها فإن الإنسان من هذا المنظور غاية الكون، منه تنطلق جميع الأشياء وإليه تعود. وفي مقابل ذلك هناك من يقول بنظرية معاكسة تماما، نرى أن الكونية المدعاة لحقوق الإنسان افتراء، وأنه وجه من أوجه الهيمنة الثقافية الغربية وأنها طريقة لفرض توجه معين ألا وهو النظرية الغربية لحقوق الإنسان التي أفرزتها الفلسفة السياسية خلال القرن الثامن عشر في أوروبا والتي ترجمها الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789. وتوجدد نزعة ثالثة تحاول التوفيق بين النزعتين المذكورتين فتؤكد أن الكونية لا تنفي الخصوصيات وأنه يمكن الجمع بينهما، وقد وجدت هذه النزعة تكريسا ......لرؤياها في الإعلان النهائي الصادر في مؤتمر فيينا حول حقوق الإنسان الذي نص على ما يلي: ( جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة، ويجب على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل، وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبنفس القدر في التركيز وفي حين أنه يجب أن توضع في الاعتبار أهمية الخاصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإن من واجب الدول بصرف النظر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية تعزيز حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية). إلا أن الإقرار والاعتراف النظري الصريح بكونية هذه الحقوق يحل مشكل الكونية من حيث دلالتها وبعدها المرجعيين. فعندما تنسب الكونية للغرب ولثقافة الغرب باعتبارها نموذج كل ثقافة كونية، فإن الأمر يولد جدلا لا حد له، ويثير مآخذ من جانب الفضاءات الثقافية الأخرى المنافسة للثقافة الغربية. وهكذا تطرح من جديد صراعات حول المرجعية: فهل المقصود بالكونية هو الثقافة الغربية؟ وهل الثقافات الأخرى لم تسهم في بلورة هذه الحقوق؟ وإذا كانت هذه المرجعية الغربية شمولية وكونية حقا فلماذا تتجه إلى طمس معالم الخصوصيات الثقافية عامة وفي موضوع حقوق الإنسان ذاته؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المحرجة. وبجانب هذا الوجه النظري في الصراع حول المرجعيات، هناك شق آخر عملي وسياسي، إذ لوحظ أن التمسك بالقول بالخصوصية إنما هو قول حق وراءه باطل، لأنه غالبا ما يكون مطية لإخفاء بعض أشكال القمع، وعدم احترام حقوق الإنسان. هل الخصوصية مجرد تبرير للتجاوزات والانتهاكات؟ على الصعيد الدولي، تبين أن النقاشات المطولة التي دارت في الأعمال التحضيرية للمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان وخصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي في الكثير من البلدان، بل تبين أثناء أعمال اللجنة التحضيرية للمؤتمر، أن العديد من دول العالم الثالث، ومنها العديد من الدول العربية، كانت تميل للدفاع عن الخصوصية لا فقط من حيث هي (واقع ثقافي واجتماعي وحضاري لا جدال فيه، بل كانت تعمد إلى أشغال هذا المعطى الثقافي كقناع يخفى انتهاكات حقوق الإنسان في بلادها. كما أن صراعا حادا كان في حدث في المؤتمر العربي لحقوق الإنسان الذي عقد في القاهرة سنة 1992، بمبادرة من اتحاد المحامين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، إذ اتخذ أعضاء المؤتمر موقفا واضحا معارضا لاستغلال الدول العربية للخصوصية من أجل تبرير انتهاكاتها لحقوق الإنسان أو لتنصلها من الالتزامات الدولية في هذا الموضوع، بل لقد أثار قرار المؤتمر إلى أن (الحكومات العربية تنظر إلى مفاهيم حقوق الإنسان على أنها إطار جديد لممارسة المعارضة السياسية). وهكذا يبدو أن النقاش حول مسألة الكونية والخصوصية لم تبق مجرد نقاش أكاديمي أو نظري خالص بل أصبح نقاشا ذا أبعاد سياسية. محليا: صراع سياسي وإيديولوجي بين النخبة الحاكمة والمعارضة. دوليا: بين دول الشمال ودول الجنوب في المنظمات الدولية. هل الكونية مجرد إيديولوجيا للسوق؟ يرى العديد من الباحثين أن الصفة الكونية الملصقة بحقوق الإنسان هي مجرد نزعة عالمية، وربما عولمية مرتبطة بتوسع السوق الرأسمالية وأن استثمار الغرب لحقوق الإنسان هو استثمار إيديولوجي، فبإلحاح الغرب على تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (حق الملكية، حق الشغل، حق السكن...) ينطوي على مصدر خفي هو تحويل مواطن بلدان الجنوب إلى منتهك عالمي في عالم تسوده وتحكمه الشركات العابرة للقارات. هل الكونية أداة هيمنة؟ من جهة أخرى فإن الطلب الإيديولوجي لحقوق الإنسان لا يقف عند حدود إيديولوجيا السوق بل يتعداه ليتحول إلى إيديولوجيا للهيمنة، فحقوق الإنسان من حيث منشؤها الداخلي في دول الغرب تعود إلى الصراع بين القوى السياسية المختلفة، وقد أدى هذا الصراع السياسي الذي تولد عنه مفهوم حقوق الإنسان لأول مرة في التاريخ الأوروبي إلى الحد من امتيازات السلطة الملكية في إنجلترا. وعند فحص الانتقادات الموجهة لمنظومة حقوق الإنسان باعتبار أنها أولا إيديولوجيا للسوق وثانيا إيديولوجيا للهيمنة، يتبين أن معظم هذه الانتقادات (يطعن في الطابع الكوني لهذه الحقوق بقدر ما يوجه نقده إلى التوظيفات والاستعمالات التي خضعت لها سواء باستعمالها كأداة صراع سياسي داخلي أو ضمن صراع سياسي دولي بتوظيفها كإيديولوجيا توحيدية للسوق او كأداة للهيمنة السياسية على المستوى العالمي، ففي كل هذه الحالات نجد أن الأمر يتعلق بتوظيف مقولة حقوق الإنسان وباستثمار سمتها الكونية دون المجادلة في الكونية ذاتها. والخلاصة أنه إذا أردنا فعلا تفعيل العلاقة المرتبطة بين ما هو خصوصي وما هو كوني، فقد تكون الخصوصية فعلا من أسباب إغناء ثقافة حقوق الإنسان إن هي كانت هي تسمح بهيمنة التقاليد الثقافية المتشبعة بحرية الفرد والمساواة وحماية السلامة الجسدية للأفراد. لكن في المقابل قد تستعمل الخصوصية لتمرير المساس بحقوق الإنسان وضمن مبادئها وهذا ما يشهده العالم في الغالب. لذلك فإن الإنسانية أحوج ما تكون اليوم إلى التأكيد على الطابع الكوني لمبادئ حقوق الإنسان كما انتزعتها قطاعات من البشرية بكفاءتها ومواجهة الموروثات السلبية التي تثقل خصوصياتنا.