لا زلت أذكر لحظة اجتيازي لامتحان البكالوريا والتي مر عليها من السنين ما يكفي لتنسى .. لكنها تأبى أن ترحل من ذاكرتي، لا زلت أستشعر ذات الأحاسيس وأنا أحضر للامتحانات : توتر، قلق، فوضى عارمة إذ كنت أعتكف في عرفتي وسط جبل شامخ من الأوراق والكتب، شبه إضراب عن النوم والطعام والحياة ككل … لا زال قلبي يخفق خوفا حين تعود بي ذاكرتي إلى قاعة الاختبار، لا زالت ركبتي ترتجف وكأني أقف أمام باب الثانوية أنتظر إعلان النتائج، لا زال نظري يخونني وكأني أتنقل بين أسماء زملائي في لائحة الناجحين، لا زالت الحرب النفسية تحتل أركان روحي كلما سمعت “بكالوريا” مر الامتحان في لمح البصر، أعلنت النتائج، تسلمنا الشواهد واستفقنا من كابوس أسود!! ماذا بعد؟! كيف يمكن لشهادة أن تجعلنا نعيش هذا الجو المكهرب دون أن نعرف الوجهة بعدها؟! أو بالأحرى نحن نعرفها -نحلم بها- لكننا على سطح الحظ نطفو، فإما أن نصل القمة ونتجاوز الحلم وإما الغرق في الأعماق دون أدنى محاولة للإنقاذ…!
شهادة البكالوريا! ذاك الشبح الذي هوله المجتمع وجعل منه معيارا لتحديد المستوى التعليمي للتلاميذ، فيصبح الكل بين ليلة وضحاها يهتم بالامتحان وبالنتائج ويترقب ظهورها كي يبادر بالتبريكات والتهاني أو بالتأسف والتظاهر بالحزن على من لم يحالفه الحظ في اجتيازها…! ما لا أكاد أستوعبه أنا، هي الهالة التي لا زالت تحوم حول هذه المحطة في الوقت التي لا تكاد تتعدى كونها مرحلة من المراحل الانتقالية في حياة التلميذ شأنها شأن الانتقال من السلك الابتدائي إلى الثانوي الإعدادي ومن الأخير إلى الثانوي التأهيلي…! نظرة غريبة حقا لا يزال ينظر بها لهذه المحطة خصوصا وأننا صرنا ندرك ما يعانيه التعليم العالي والبحث العلمي من مصاعب وعقبات والتي يجد الطالب نفسه مجبرا على اجتيازها سواء أ كان قد حصل على البكالوريا بميزة حسنة أو بعد أن استدركها في فرصة ثانية.. هناك الكل سواسي! هو مسلسل تبدأ حلقاته حالما يستفيق الناجح في اليوم التالي من كابوس الشبح؛ مسلسل طويل، تفاصيله متعبة، مظنية، ومستقبله مجهول المعالم والملامح. لأعود وأستغرب وأنا أرى المجتمع يولي أهمية كبرى لشهادة -عادية بالنسبة لي اليوم بعد أن رأيت ما رأيت بعد حصولي عليها- لن تجعل الناجح أكثر حظا من المستدرك أو من سيكرر السنة. لأعود وأستغرب وأنا أراه يدخل التلميذ في علبة مغلقة لا باب لها، فيجد الأخير نفسه وسط زحام نفسي خانق وحرب معلنة أمامه، الحل الوحيد للهروب منها هو النجاح وإلا فسينال من الشفقة ما يكفيه ليتدمر ومن النعوت ما تكفيه لتتدهور نفسيته ومن العنف ما يجعله يستهين بقدراته ولا يرى نفسه إلا فاشلا، ناقصا، عالة على الجميع …! فينعزل البعض ويتقوقع بعيدا عن نفسه وعن المحيط وتدوي صرخة البعض الآخر معلنا انسحابه أو هروبه الاضطراري من الحياة ككل…!
فرفقا ثم رفقا بقلوب هؤلاء الصغار، هذه الشهادة لن ولا تعادل أعمار أبناءنا ولا سلامة نفسيتهم… رفقا بهم، فمهما استصغرنا ردات فعلنا تجاهم إلا أنها تعلم في نفوسهم إلى الأبد.. رفقا بهم رجاء! تعلموا أن السقوط ليس فشلا وإنما بداية لنجاح مثمر.