المدينة العتيقة بتطوان: الشكل والتطور الحضري: تعتبر مدينة تطوان من أكثر النماذج الهندسية والمعمارية إثارة للاهتمام بشمال إفريقيا، وذلك ليس فقط لطبيعة وحجم معالمها وإنما لكونها تجسد تلاحما حقيقيا بين المدينة الإسلامية وتلك الغربية ("الإنسانشي" الإسباني) مع ارتباط واضح بالعديد من المدن الأندلسية. فالمدينة العتيقة والحي الإسباني ("الإنسانشي") في تلاقحهما يمثلان تمفصل تنظيمين معماريين يعملان، بالتعاقب، على تعزيز قيمتيهما: فالمدينة العتيقة تبلور طريقة التشييد منطلقة من الفضاء المملوء (مجموعة سكنية)، ومن مبدأ الجزء المنصهر في الكل بحميمية حيث يلتقي العام بالخاص بشكل مركب، بينما "الإنسانشي" يجسد ىالمدينة منطلقا من الفضاء الفارغ –الشارع-، ومن التفريق بين الجزء والكل، بين العام والخاص. ف "الإنسانشي" هو وليد تخطيط مسبق، حدود أراضيه تتموقع غرب المدينة العتيقة لتشكل عبر سلسلة من الطرق الرئيسية التي تنبني مثل شبكة، مجسدة نموذجا يجعل من الشارع العنصر الأساسي في عملية التعمير ذي الطبيعة العمومية ميسرا الوصول المباشر لمنازل السكن الموجودة في داخل المجموعة السكنية والتي ستنمو اتباعا لتجزئة منصوص عليها مقدما، بينما المدينة العتيقة هي نتيجة لنظرة بؤرية، حيث يسير الفضاء المعماري في اتجاه المكان ةالذي تم تعيينه لتشييد المسجد والقصبة، الأسوار والأبواب لينتظم انطلاقا من وحدات سكنية تشكلت دون تخطيط مسبق واعتمادا على حاجيات كل أسرة، في هذا السياق، يصبح فضاء المنزل الخاص أو ذاك الحميمي أكثر قيمة من الشارع الذي يكتسي طابعا وظيفيا من خلال تيسيره مهمة الوصول للسكن. المدينة العتيقة هي نتيجة التداخل المستمر والمتعاقب بين مختلف الأحياء وفروعها، هذه الأحياء التي تتكون عبر مجموعات سكنية تربطها أواصر خاصة -قرابة أو الأصل أو المهنة أو النشاط الاقتصادي- وتتوفر على كل مستلزمات العيش الضرورية، فهي تتأسس كنواة محيطة بالمسجد أو المصلي أو الزاوية لتتزود عادة بحمام وبفران ويمكان للحلاقة ثم بمتاجر لبيع الخضر والفواكه والتوابل… الخ. فالمدينة العتيقة تتشكل عبر استغلال أقرب المساحات من المسجد أو عبر الطرق التي تلتقي من خلال أبوابه مولدة أشكالا معمارية ذات طابع دائري محسوس. وتكون الشبكة الطرقية التي تنشأ مرتبطة آنذاك بطريقة استغلال الفضاء الفردي أو العائلي، لتؤدي باستمرار إلى تشكيل تقاطعات من ثلاث أزقة هي نتيجة التقاء أو انسجام بين الأشكال الدائرية المذكورة. المدينة العتيقة هي مدينة مركبة ذات هندسة غير منتظمة ذات أشكال معمارية غير مرتقبة تجسد مضامين الشريعة الإسلامي.فقوانين الملكية الجماعية أو تلك المتعلقة بالإرث، حقوق الاستعمال وحرمة السكن العائلي أو طريقة استغلال المجال العمومي، كلها عوامل حاسمة في عملية تأسيس المدينة العتيقة. في هذا السياق القانوني تصبح من الأهمية بمكان الروابط الأكثر بساطة، والتي تعبر عنها علاقات الجوار، في تحديد مورفولوجية التمدن المعتمد على التسامح والاحترام المتبادل كعامل جوهري في تحقيق. التلاحم الاجتماعي. فعمق مفاهيم عدم إلحاق الضرر بالجار وتطبيقها وكذا تمطيطها لتشمل المجال العمراني أدى بشكل مباشر إلى تأويل جماعي لتشريعات وقواعد تحدد نوعية وطريقة استعمال الفضاء السكني في إطاره الضيق. فحق المالك في استخدام المجال المحيط بممتلكاته يتجسد في استغلاله للفضاء العام خلال عمليات البيع، الشحن والتفريغ، في طريقة وضع المظلات، هذا الاستغلال وهذا التغيير الذي يطرأ على الطريق يصبح تغييرا نهائيا حينما يتم باتفاق جماعي بين الجيران لتجنب إلحاق الضرر بالآخرين والسماح للمارة والسلع بالعبور. فيما يتعلق بتلك التصرفات التي تتجاوز الحق العام والتي تعني تخصيص المجال العمومي، إن قبلت من طرف السكان فهي تكون نتيجة لرضوخ للأمر الواقع لاغية مع مرور الزمن حقوق الجماعة. هذا التخصيص للفضاء العام يصبح جاري المفعول حسب أهمية الطريق والناتج عن مدى استعمالها من طرف المارة والحمالين والحيوانات. التخصيص والتضييق التدريجي للطرق ينعكس كذلك عبر استعمال الأبواب والبوابات لإغلاق الأزقة والدروب. تشريعات الإرث في الإسلام لها تأثيرات معمارية كبيرة. فالممتلكات العقارية يتم تقسيمها بنسب متفاوتة بين الأبناء والنساء، بين الأعمام وأبنائهم، وذلك تبعا لعمليات حسابية معقدة تأخذ بعين الاعتبار درجة القرابة، الجنس وعدد الوارثين. بهذا الشكل فعملية التقسيم لعقار من العقارات وفتح أبواب لصالح الأطراف المعنية يسبب في تغييرات عميقة بالتجزئة السكانية، فتح دروب، أزقة وممرات في المجموعة السكنية الموجودة يحول باستمرار الشبكة الطرقية وكذا المجال المستعمل للسكن محافظا بهذا الشكل على المورفولوجية المعمارية للمدينة العتيقة وعلى أفقها المفتوح باستمرار، عملية التقسيم والازدحام الموالية تتم بشكل أفقي وكذا عمودي مما يعني أن بناء يمكنه أن يصل إلى احتواء عدد كبير من الملاك والحجرات. بهذا الشكل تنسج حول المجموعة السكنية كنواة أولى لتكوين المدينة، شبكة من الفضاءات الفارغة التي تتشعب بشكل اعتباطي ومفاجئ حيث يتقاطع الخاص بالعام فتطفو الطريق على السطح وليدة لقرارات فردية وعائلية. الترابط بين حق المالك في استعمال المجال العمومي للطريق المحاذي لصالحه وحق الإرث يجد أقصى تعبيراته في الاستغلال الجزئي للنظام الطرقي المجسد لحق البناء. البناء نحو الأعلى يشكل هو كذلك ممرات ونتوءات الطريق العام محددا تغييرات معمارية أخرى غير مخطط لها وذات حضور دائم بالمدينة العتيقة. القرآن يؤكد على الحرمة التامة للبيت. التأكيد الصارم على عدم انتهاك هذه الحرمة هو وقاية تحصن من اعتداء الآخر وهو ما يعني كون البيت مركزا مستقلا تتحدد انطلاقا منه المجموعة السكنية وكذا المدينة. المنزل كفضاء يحتضن الحياة العائلية الحميمة منغلقا كليا في وجهالطريق التي يلغي عنها وظيفتها كمنبع للنور ليستعملها كمجرد وسيلة للعبور فيفتح لها، بشكل عام، معابر الدخول فقط. العلاقة بين البيت ومحيطه المباشر ترضخ للأعراف القائمة في ارتباطها بالبنايات المجاورة وبالطريق. الحفاظ على حرمة العائلة يمر عبر حظر فتح منافذ اتجاه الجار. فمن يبني أولا له أولوية المحافظة على النوافذ الموجودة أو إنشائها على القطع الأرضية المتاخمة وهو ما يفرض على من يبني بعد ذلك تجنب الإطلال على الأول احتراما للأعراف القائمة. هذه الأعراف يجري بها العمل حتى في الفاصلة أوفي الطريق. ففتح أبواب أو نوافذ بين بناءين متقابلين في زنقة ما يتم باتفاق مسبق بين الأطراف المعنية، بينما يحتاج الأمر بالنسبة للبناءات الجديدة للموافقة المسبقة من كل الجيران إذا ما تم ذلك في درب أو في زقاق بدون مخرج. في وضع كهذا فإن منافذ المنازل نحو الأفنية الداخلية (الباتيو) والعبور إليها باستعمال صدوع ونتوءات على الواجهة والدهاليز الملتوية تصبح حلولا ثابتة التطبيق. وحينما تفرض الظروف وضع منافذ نحو الخارج فإن حجمها يكون صغيرا يقيها شباك يسمح بالرؤية ويحجب المنزل عن عيون الآخرين. في هذه العملية الهادفة إلى منع الرؤية فإن الطريق يعزز مكانته كمجرد فضاء وظيفي بينما يصبح المنزل-الفناء المجسد لحرمة الأسرة وحميميتها، عنصرا أساسيا تتأسس عبره المدينة التي تنمو بشكل عنقودي من خلال إسناد المنازل على بعضها البعض لوجود المرافق الضرورية أخلاقيا، والتي تدعم الوسيط الجديد. تشكيل المدينة المركب يلخص عالم القرارات الفردية وتلك العائلية التي وباتفاق بين السكان تحتكم في تصوراتها للتشريعات القرآنية. ففي المدينة الإسلامية كما يشير المهندس خافيير غارسية بيليدو "… يتم اتخاذ القرارات المرتبطة بالمكان من طرف كل فرد أو عائلة ساعة بناء المنزل الخاص (أو المنزل+قطعة من الأرض). هذه القرارات لا تحكمها سوى أعراف فضائية عامة مقترنة بالتضامن الأخلاقي أو الديني بل أكثر من هذا فإن ولا واحدة يتم تقييدها بقواعد مسبقة ذات طابع هندسي مكاني، هكذا تنشأ عملية تراكم لا تخلو من مجازفة والتي تعطي انطباعا "بمظهر فوضوي عام" جد معقد – في أعين العقلانية الأوروغربية- داخل تنظيم لا يحترم قواعد نابعة عن تشريعات عليا تشرف على العمليات الجماعية. مباديء هذا السلوك المجازف والناتج عن عناصر مقررة من طرف درجات دنيا تولد عواقب غير متوقعة كما أن التفريعات تكون نتيجة لاحتمالات غير محدودة من القرارات الصغيرة تمس كل نقطة، والتي تجر إلى قرارات محتملة موالية التي تحد بدورها من حرية الخيارات ولكن تعطي حريات أكبر فيما يرتبط بالنتائج العامة لهذه "الفوضى" البادية للعيان والتي تنشأ تبعا لظواهر محلية صغيرة. من هنا فإن النتيجة العامة تبقى غير متوقعة رغم أن القواعد المكونة في درجاتها الدنيا هي معروفة تماماً وحاسمة". أمام الحلول المتنوعة في الأشكال المعمارية والتحولات التي تشهدها المدينة العتيقة بتطوان، حيث النظرة الشاملة مرتبطة بما هو محلي وعام ليمتزج خاضعا لما هو خاص، فإن الإنسانشي الإسباني يضعنا أمام حلول محدودة لكونه بنية شبكية حيث النظرة المحلية تخضع لما هو شامل كما يخضع الخاص لما هو عام. إنه في إبراز التناقضات بين النظرتين في فهم المدينة، حيث القيم المعمارية والهندسية لدى جانب تغلب القدرة الإبداعية على حساب الجانب الآخر وحيث تتجلى أهمية المدينة العتيقة والإنسانشي المشتركة لارتباطهما المباشر في إضفاء الطابع الخاص المميز للفضاء الاجتماعي والمعماري لمدينة تطوان. الكتاب: المدينة العتيقة في تطوان "دليل معماري" (بريس تطوان) يتبع..