مطالب برلمانية بالكشف عن نتائج دراسة الحكومة لآثار الساعة الإضافية    رؤى متقاطعة حول المساواة والعدالة والاستدامة خلال مهرجان "هاوس أوف بيوتيفول بيزنيس"    إجلاء قسري لمئات المهاجرين من مخيمات في العاصمة التونسية    لقجع: "الوداد والرجاء والجيش أقطاب الكرة المغربية .. وعلى الأندية الأخرى كنهضة بركان الاشتغال أكثر لتلتحق بهم"    طقس حار نسبيا اليوم السبت    انتهى الموضوع.. طبيب التجميل التازي يغادر سجن عكاشة    تطوان تحتضن ورشة تكوينية حول تسوية البنايات غير القانونية    لقجع يكشف سبب إقالة خليلوزيتش قبل أشهر من انطلاق كأس العالم 2022 وتعيين الركراكي    نفي وتنديد بتزوير باسم " الأيام24″    إصابة حمد الله تزيد من متاعب اتحاد جدة السعودي    حسابات الصعود تجمع الكوكب المراكشي وسطاد المغربي في قمة نارية    أزيد من 100 مظاهرة لدعم غزة بمختلف المغربية وإشادة بالتضامن الطلابي الغربي    وفد من حماس إلى القاهرة لبحث مقترح الهدنة في قطاع غزة    فقدان 157 ألف منصب شغل خلال 3 اشعر يضع وعود الحكومة على المحك    شرطة الحسيمة تترصد المتورطين في محاولة تهريب أطنان من المخدرات    موظف فالمحكمة الابتدائية بتاونات تدار تحت الحراسة النظرية: يشتبه أنه اختلس 350 مليون من صندوق المحكمة وغادي يتقدم للوكيل العام ففاس    بمشاركة مجموعة من الفنانين.. انطلاق الدورة الأولى لمهرجان البهجة للموسيقى    وزيرة المالية تجري مباحثات مع أمين عام منظمة "OECD"    الصين تطلق المركبة الفضائية "تشانغ آه-6" لجمع عينات من الجانب البعيد من القمر    مطار الداخلة.. ارتفاع حركة النقل الجوي ب 19 في المئة خلال الربع الأول من سنة 2024    مؤجل الدورة 26.. المغرب التطواني في مواجهة قوية أمام نهضة بركان    إلغاء الزيادات الجمركية في موريتانيا: تأثيرات متوقعة على الأسواق المغربية    هيئة حقوقية تطالب عامل إقليم الجديدة بوقف سراء سيارتين جماعيتين بقيمة 60 مليون سنتيم    تقرير أمريكي يكشف قوة العلاقات التي تجمع بين المغرب والولايات المتحدة        كيف تساعد الصين إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية؟    إعدام أشجار يخلف استياء بالقصر الكبير    الداكي يستعرض إشكالات "غسل الأموال"    وفرة المنتجات في الأسواق تعيق طيّ "صفحة الدلاح" بإقليم طاطا    أزيلال.. افتتاح المهرجان الوطني الثالث للمسرح وفنون الشارع لإثران آيت عتاب    ماركا الإسبانية: أيوب الكعبي الميزة الرئيسية لنتائج أولمبياكوس الجيدة    خبير تغذية يوصي بتناول هذا الخضار قبل النوم: فوائده مذهلة    تشييع جثمان النويضي .. سياسيون وحقوقيون يعددون مناقب الراحل (فيديو)    بانجول.. افتتاح سفارة المملكة المغربية في غامبيا    بالصور والفيديو: شعلة الحراك الطلابي الأمريكي تمتد إلى جامعات حول العالم    الأمثال العامية بتطوان... (589)    حموشي تباحث مع السفير المفوض فوق العادة للسعودية المعتمد بالمغرب بخصوص تطوير التعاون الأمني بين البلدين    صفعة جديدة لنظام العسكر.. ال"طاس" ترفض الطلب الاستعجالي لل"فاف" بخصوص مباراة بركان واتحاد العاصمة    دراسة… الأطفال المولودون بعد حمل بمساعدة طبية لا يواجهون خطر الإصابة بالسرطان    باستعراضات فنية وحضور عازفين موهوبين.. الصويرة تحتضن الدورة ال25 لمهرجان كناوة    المغرب يسجل 13 إصابة جديدة بكورونا    عكس برنامج حكومة أخنوش.. مندوبية التخطيط تكشف عن ارتفاع معدل البطالة في المغرب    المغرب يكسب 15 مرتبة في التصنيف العالمي لوضعية الممارسة الصحافية    ريم فكري تكشف عن معاناتها مع اغتيال زوجها والخلاف مع والديه    "فاو": ارتفاع أسعار الغذاء عالميا    المغرب يفكك خلية كانت تحضر لتنفيذ اعمال إرهابية    سعر الذهب يواصل الانخفاض للأسبوع الثاني على التوالي    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    تركيا توقف التبادل التجاري مع إسرائيل بسبب "المأساة الإنسانية" في غزة    اختتام الدورة الثانية لملتقى المعتمد الدولي للشعر    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فن المعمار بالمغرب .. تنظيم رمزي و إبداع جماعي

«محمد مطالسي، معماري ودكتور في علم الجمال، هو أحد الباحثين القلائل في المعمار المغربي والعربي، ليس من الزاوية «التقنية» بل باعتبار المعمار رموزا وتعبيرات جمالية عن الحضارة. من ثم يصبح المعمار أحد التجليات الإبداعية للحضارة، تماما كالشعر والموسيقى والنحت والرقص الخ. في هذا النص يقارب مطالسي أشكال العمران والبناء في الحضارة العربية الإسلامية من منظور يعتبر مورفولوجية المدن العتيقة مرتبطة بالتراث أكثر مما كانت متصلة بتنظيم موضوعي. وذلك لكون الفنانين الزخرفيين، في العالم الإسلامي كانوا يخضعون لقواعد أخرى هي غير القواعد الفنية المحض، إن التجريد، خلافا لما يعنيه الفن التجريدي اليوم، «لم يكن أبدا نتيجة نابعة من جوهر الفن ذاته. و إنما كان مجرد احترام للمعايير و تحقيقا لفن شرعي. من هنا تلك الصلة التي كانت تربط «الفنان» بالضرورات الاجتماعية، بحيث لا يمكنه التعبير عن نيته الجمالية إلا في علاقتها بثنائية الحلال و الحرام»
من بنى مدينتي فاس و تونس، و هما من أجمل وأشهر المدن الإسلامية؟ و من بنى غرناطة، عاصمة الأندلس، و مراكش، المدينة الحمراء صاحبة الأولياء السبعة؟ ثم من ذا الذي شيد القرويين و الزيتونة و صومعة الكتبية؟ من وضع تصميم أشكال الفسيفساء و الزليج و كل الروائع الزخرفية و التزيينية التي تؤثث أرضية و أسوار و سقوف تلك الآثار التي تثير إعجاب الزوار؟
أمام هذه الوفرة، و هذا التنوع المعماري و الفني، يواجهنا غياب، هو غياب مصممي هذه الروائع، بل إن مبدعي الآثار الجميلة المميزة للهندسة المعمارية الإسلامية ظلوا عموما غير معروفين. 1فمن هم الذين شيدوا قصر الحمراء بغرناطة، أو صومعة حسان بالرباط؟ و كيف كانوا يشتغلون؟ و ما هي الأدوار التي لعبوها؟ و ما نوعية الوعي الذي كانوا يتوفرون عليه إزاء نشاطهم و عملهم؟ ثم ما طبيعة العلاقات التي كانت تربطهم بالمثقفين و رجال السلطة؟
مثل هذه الأسئلة ظلت، لمدة طويلة، بدون أجوبة. ذلك لأن غياب سيرة ذاتية لهؤلاء المهندسين المعماريين، و هؤلاء الفنانين، لا يخول لنا إمكانية فهم التصور الذي كانوا يحملونه عن مهمتهم، و عن إجراءاتها و أسرارها، و كذا معرفة اختياراتهم الجمالية، و ثقافتهم الأدبية و التقنية، و علاقتهم بالدين؟ كل هذه التساؤلات تنطوي على التعارض الموجود بين طريقتين اثنتين من طرق البناء:
طريقة غفلية ، وتعني تعدد الصانعين الذين شيدوا، في الظل، تاريخ البناء؛ و طريقة تعتمد على شهرة المهندس المعماري أو الفنان اللذين يقدمان نفسيهما بوصفهما متعهدين أساسيين.
بخصوص تاريخ المدن العتيقة، نعرف البنايات و الرعاة الذين تحكموا فيها أكثر مما نعرف الفنانين الذين أبدعوها. نتحدث عن الهندسة المعمارية للمرابطين و الموحدين و المماليك إلخ.
بينما لا نكاد نقول شيئا عن أسماء المهندسين المعماريين أو أصحاب الأعمال. بخصوص هؤلاء، لا نجد أنفسنا سوى أمام افتراضات و احتمالات في غالب الأحيان. الشيء الأكيد، في جميع الحالات، هو أن مثقفي العصر الوسيط لا يذكرون أبدا، حسب علمنا، الدور الاجتماعي و الثقافي الذي لعبه مشيدو المدن العتيقة. كان هؤلاء المثقفون يعبرون عن إعجابهم إزاء الأعمال الهندسية المعمارية، و ليس إزاء أصحابها و منفذيها الذين لم يكونوا، مع ذلك، مجهولين في مدنهم و عصرهم كما يريد البعض أن يقول.
ينبغي التمييز بين ثلاثة مستويات في عملية التشييد : التنظيم العام لإطار المدينة المشيد، أي تنظيم المدينة، و تصميم الفضاء المعماري و إنجازه، و أخيرا إنتاج الأشكال الزخرفية.
من ذا الذي كان يطلق عليه اسم «المهندس المدني» أولا؟ هذا إذا ما أمكننا استعمال المصطلح الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر في أوربا. وبالطبع، فقد قام الجغرافيون المسلمون برسم الخرائط، مثلما رسم علماء الفلك تصاميم المدن تبعا لاتجاه القبلة، لكن ليس هناك أي مصدر يجعلنا نقر بأن الثقافة الحضرية للإسلام قد أنتجت تصاميم موجهة، و عموما، إذا قصد المرء بلفظ «تصميم» : التمثل القبلي و توضيع objectivation الفضاء»، فإن الإسلام يوفر لنا مدنا بدون خطاب مقرر سلفا، على الرغم من أن بعض هذه المدن هي إبداعات مشيدة لفائدة أمير، مثل المدينة الدائرية الشهيرة بغداد خلال القرن الثامن الميلادي.
غير أن للمدن العتيقة، مع ذلك، تنظيما دقيقا للإطار المشيد، و انسجاما داخليا يتجلى في : وجود القصبة في الخارج، الموقع المركزي للمسجد الكبير و سوق المنتوجات النادرة و النفيسة، الفصل الديني و العزل الإثني في بعض المدن، تمييز الأماكن الاقتصادية و أماكن الإقامة، النوطين الطوبوغرافي الوظيفي للأنشطة الحرفية.
هذا المنطق المميز المحكوم بحذق و بمعرفة و بحس تجريبي مرتبطين بممارسات حرفية و بتمثلات اجتماعية. لقد كان تشييد مورفولوجية المدن العتيقة مرتبطا بالتراث أكثر مما كان متصلا بتنظيم موضوعي. أي أنه كان نتيجة نظام اجتماعي مخصوص. كانت الأزقة و الدروب و الممرات المغلقة تبنى بموازاة تشييد باقي فضاءات المدينة، أو أي هيئة أخرى تهتم بالتنظيم الفيزيائي للمدينة. فهل استطاع الفقه الإسلامي، على الأقل، بلورة فقه يعني بمعمار المدينة و يكون هو المتحكم في عملية إنتاج الفضاء؟ بكل تأكيد، فإن التجمع المكثف للسكان، و الشبكة المتداخلة للدروب و الأزقة التي كانت دائما سبب نشوب نزاعات و خصومات حول حقوق الدخول إليها، و حقوق الإصلاحات و الأسوار المشتركة و المرافق الكاشفة، أمور لم يكن بالإمكان استبعادها من الفقه الإسلامي. و في هذا الصدد يقدم لنا مخطط ابن الرامي، وهو معلم بناء من تونس خلال القرن الرابع عشر الميلادي، 2بكل وضوح، عادات العصر الوسيط المرتبطة ببعض النقط الملموسة الخاصة بالتقنية و الحق المستعملين في البناء. لقد كانت مشاكل تنظيم الفضاء، بالنسبة لهذا المؤلف المالكي، مرتبطة أساسا بمسألة «الحقوق و الواجبات المتبادلة بخصوص الجوار». لقد كانت الفكرة السائدة هي حرية كل فرد في التصرف فيما يملكه و الاستمتاع به و استعماله بكيفية مطلقة، بدون أن يلحق الضرر بجيرانه، و قد أفاض فقهاء مسلمون آخرون، خلال العصر الوسيط، في الحديث عن ضرورة الاحترام المتبادل بين الجار و جاره، إلا أن نصوصهم لا تنتهي إلى قواعد صارمة وواضحة تضبط فن البناء.
و حسب ابن الإمام، فإن مهمة السهر على تطبيق مقتضيات العادات و التقاليد كانت موكولة للقاضي، و أحيانا إلى المحتسب، المسؤول عن الأسواق كما كتب ابن عبدون3.
و هكذا، فبناء على نصائح و استشارة خبير في الموضوع، من طينة ابن الرامي، كان يتعين عليهم الحسم في الخلافات و المنازعات المتعلقة بالأسيجة المشتركة وقضايا حميمية الجوار كما سجل ذلك المارودي4. كان من واجبهم، مثلا، الحرص على ألا يتجاوز طول البيت حدا معينا يسمح لأصحابه، و خصوصا الرجال، بإلقاء نظرهم على الجيران، لهذا السبب كانوا يفرضون على الناس القيام بتسييج و تسوير سطح البيت العالي، أو عدم تجاوز علو بيوت الآخرين، و من جهة أخرى، كانوا يمنعون على الناس إقامة أنشطة تثير الإزعاج أو تسبب التلوث داخل تجمع سكاني أو بالقرب من المسجد. و قد روى لويس ماسينيون إحدى العادات المغربية التي كانت تعتبر أن ضجيج و اصطدام المطرقة و السندان كانا مصدر قلق و إزعاج للمصلين، و خطرا على سلامة المنارات؛ و لهذا السبب لم يكن المخزن يسمح بفتح دكان للحدادة إلا بعد إخضاعه للاختبار التالي : توضع بيضة على قمة المنارة الأقرب، فإن تحركت بفعل الاهتزازات القادمة من دكان الحداد، فإن هذا الأخير يطلب منه الذهاب إلى مكان أبعد، و إلا فإنه يبقى في مكانه»5.
و إجمالا، فإنه، في غياب هيئة أو وسيط فردي يرسمان، مسبقا، شكل المدينة و تصميم فضاءاتها، فإن المدينة تنتج قواعد و آليات للتفكير في ذاتها و انبنائها.
و الآن، لنتساءل عن هوية المهندس المعماري في الماضي؟ إذا كان البيت الشعبي البسيط قد تم تشييده في غياب تصميم مسبق، بدون نموذج موضوعي، و بدون مهندس معماري، فهل يصدق ذلك أيضا على البنية المعقدة للقصور و المساجد و المدارس؟
بصفة عامة، لم يكن لبنايات المدينة، مهما كانت طبيعتها، مبدع فردي يوقع عمله المعماري. ذلك أن المدينة كانت نتيجة تعدد للمهن و الحرف المختصة التي لم يكن يراقبها و يسيرها، أحيانا، مهندس معماري. مثلما نتصوره اليوم، و إنما كان تسييرها خاضعا لرئيس الأشغال أو رئيس الورشة.ثم إن مصطلح «مهندس معماري» لم يكن موجودا في اللغة العربية خلال العصر الوسيط و يكفي في هذا الشأن، تصفح «لسان العرب» للوقوف على هذه الحقيقة. إن لفظة «مهندس» المشتقة من الكلمة الفارسية «هندزة»، و التي تعني اليوم «هندسة»، كان المقصود بها آنذاك المسؤول عن السقي.
و بالفعل، «لم يكن الزبناء يومها يتعاملون مع إنسان تابع دراسته العلمية بهدف تصميم و بناء المنازل و العمارات، و لا مع بورجوازي ينحدر من وسط اجتماعي معين، و له ثقافة كتلك التي يتوفر عليها الكتاب و الأساتذة، لقد كان مجرد رئيس للأشغال معروف في منطقته المحدودة الصغيرة، تماما مثل المقاولين الجيدين اليوم»6.
لقد كانت البنايات التقليدية ترتبط ارتباطا مباشرا بالمعرفة المتراكمة عبر عدة قرون. بل إن بعض البنايات المعقدة، أحيانا، كان يستغرق إنجازها مدة طويلة جدا تتجاوز حياة جيل من البناة و الحرفيين، و يتم تعديلها بالنقصان أو بالإضافة عبر الزمن. و هكذا كانوا يستطيعون الزيادة في الأبعاد الأولية للقصور و المساجد إذا كانت المجالات المحيطة بها متوفرة، أو إغناء المستويات الزخرفية إذا كانت الشروط المادية تسمح بذلك. فبدءا من فكرة التصميم، وصولا إلى الإنجاز النهائي، تتدخل سلسلة من الأشخاص في عملية الإنتاج و التشييد بمختلف مستوياته. غير أن الزبناء هم الذين كانوا يلعبون، بصفة عامة، الدور المركزي في توجيه الأشغال و مراقبتها، و من ثم، فبعد الاتفاق مع أعضاء عائلته، إذا كان الأمر يتعلق بمالك، أو مع المستشارين، إذا كان يتعلق بأمير أو براع، فإن الزبون يستدعي مسؤولا عن البناء، أو رئيسا للأشغال، و يناقش معه بنية و شكل البناية، إضافة إلى المستلزمات المادية و الاقتصادية و التقنية و الاستتيقية. و سرعان ما يضع هذا المسؤول، أو المسؤولون صورة للمسكن. كانوا أولا، يرسمون مباشرة على الأرض، ماسحين لها، وواضعين علامات بالحجارة. و هكذا يرسمون مستطيلين اثنين، أحدهما داخل الآخر، بحيث يمثل المستطيل الداخلي الباحة أو الرياض، في حين يمثل المستطيل الخارجي السور المحيط، و يمكن، خلال الإنجاز فيما بعد، الابتعاد عن الفكرة الأولى تبعا لتقدم الأشغال. و كان رؤساء الأشغال، أمر الاهتمام بتزويد أوراش البناء بالإمدادات فيما يخص مواد البناء، و أحيانا تغيير و تعديل الإجراءات المتفق عليها في البداية، و كذا الاتصال بالمهنيين و الحرفيين، و تتبع كل مراحل البناء : وضع التصاميم، احترامها، عملية الحفر ووضع الأسس، البناء، الزخرفة إلخ. و منذ البداية كذلك ينخرط حرفيون آخرون مع البنائين و النجارين، يتم تعويضهم بالجصاصين و النحاتين و الرسامين. كما ينخرط آخرون، مثل قلاعي الحجارة أو حفاري الآبار، في عملية الإنجاز بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
بعبارة أخرى، حين يتم الشروع في بناء منزل جديد، تكون البداية بحفر الأسس بواسطة المعاول و بعمق متفاوت، أما التربة الناتجة عن عملية الحفر، فإنها، بعد تكديسها في المحيط الذي سيبنى، و دكها و تسويتها، تشكل مصطبة أعلى بحوالي عشرة سنتمترات، الأمر الذي كان يتناسب مع معيار تقليدي من معايير البناء بحيث أن أرضية البناية يجب أن تكون، عموما، مرتفعة بالقياس إلى الزقاق. بعد الانتهاء من وضع الأساس، يشرع النجارون في وضع الهياكل الخشبية و السلالم. بعد ذلك، يرفع البناؤون الأعمدة و الحيطان ليعطوا للمنزل شكله النهائي، ثم يتركون مكانهم للدكاكين الذين يتعين عليهم دك وتسوية المساحات و السطوح و الأرضية. و قد كان جميع الصناع يعتمديون هذه السيرورة التجريبية، كل في مجال اختصاصه، من أجل الاستجابة للمقتضيات التقنية، و تقديم حلول ملائمة و ناجعة للمشاكل المعمارية التي كانت تتطلب أحيانا حذقا و مهارة خاصين. لقد كن عمل هؤلاء، من خلال إعادة إنتاج أشكال موضوعية و ذاتية موروثة، يستجيب، في حقيقة الأمر، لضرورات اجتماعية و تقنية رمزية.
و أخيرا، من كان الفنان؟ كان تشييد البنايات الكبرى للمدينة القديمة، الدينية و المدنية، بمثابة مختبر واسع و دائم للإنتاج المعماري و الفني و الفكري. و قد كان يختلف عن تشييد المساكن الشعبية التي كانت تمثل أغلبية الإطار المشيد للمدينة. و كان هذا الاختلاف يترجم، على مستوى بعد المقاطع و الأجزاء المعمارية، بل أكثر من ذلك على مستوى الطابع الاستثنائي الذي كانت تعبر عنه تعبيرا جيدا وفرة مواد البناء، و التعقيد المقصود و الجميل للأشكال الزخرفية. و من ثم، فقد ظل إنتاج الأشكال المعمارية، في الأغلب الأعم، فنا من نصيب البلاط و أغنياء التجار. و عليه، فإن تطور الفن و المعمار، و تطور الذوق ككل، كانا مرتبطين في المقام الأول، بعادات السيد.
من أجل كسوة و نحت السطوح و الأعمدة، كان المزينون و الزخرفيون يتوفرون على مواد متنوعة جدا، و التي بالإمكان تصنيفها بحسب طبيعتها : الطين الموشى، الجب، الرخام، الخشب إلخ. و كل مادة من هذه المواد تتطلب تخصصا و تقسيما للعمل. من جهة أخرى كان إلباس المساحات والأحجام يحظى بأهمية أكثر من المعمار في حد ذاته. كان الصناع «يزدرون الإسمنت ولا يقبلونه باعتباره حاملا للسطوح و الأعمدة الي سيعملون على إلباسها وتوشيحها، في الداخل، بالزليج و الجبص المنقوش والخشب المصبوغ أو بالمقرنس»7. ومن هذا المنطلق، فإن البناء الذي يشتغل بالإسمنت و التراب، و الأقل اعتبارا من الخطاط و النقاش و الرسام و النحات والجباص والآبنوسي، النجار الذي يعمل على الآبنوس وباختصار الأقل اعتبارا من ذلك الذي يكسو المساحات و الأحجام، لم يكن تقريبا ينتمي إلى محيط الأمير. لقد كان البناء، في الثقافة الإسلامية، فنا في غاية الخشونة. لم يكن السكان و لا الأمير يعتبرون المعمار بصفته علاقات للأحجام و التصاميم داخل الفضاء. و بالمقابل، كانوا يعبرون عن إعجابهم بالخصوص أمام «الديكور التجريدي أو المنفوش، و أمام أنواع الفسيفساء و العمل الدقيق على الخشب، كان المزخرفون، و بصفة خاصة الخطاطون و الرسامون يشبهون تقريبا بالمثقفين و المتأدبين.
كانت ثقافتهم التقنية و العالمة تسمح لهم بتطوير عالم بصري متزايد التعقيد، و بتأثير من الهندسة و علم الفلك إلخ. استطاع هؤلاء الفنانون بلورة و تطوير قائمة من الأشكال المميزة للحضارة العربية الإسلامية، غير أنها قائمة ظلت ملتصقة بالسياق الاجتماعي، و بالمعيار الديني اللذين بدونهما لم يكن عدد من هذه الأشكال و التوليفات التجريدية قابلا للتصور و الإدراك. ألم يتم تقديم هذا العالم بصفته تعبيرا فنيا مستقلا؟ في الواقع، لم يكن الإبداع الفني يمارس لذاته، و غنما كان يمارس عموما، بهدف خلق و تزيين و زخرفة حامل أو شيء مبني و قائم مسبقا. و هذا الشيء الموجود قبل الشكل الزخرفي اللاحق عليه كان يتحقق إنجازه ليس تبعا لهذه الزخرفة، و إنما في علاقة بالغاية المنتظرة منه. لم يكن «الفنانون الزخرفيون»، في العالم الإسلامي، يحاكون الطبيعة، بل إنهم كانوا يخضعون لقواعد أخرى هي غير القواعد الفنية المحض، إن التجريد، خلافا لما يعنيه الفن التجريدي اليوم، لم يكن أبدا نتيجة نابعة من جوهر الفن ذاته. و إنما كان مجرد احترام للمعايير و تحقيقا لفن شرعي. من هنا نلاحظ الصلة التي كانت تربط «الفنان» بالضرورات الاجتماعية، بحيث لا يمكنه التعبير عن نيته الإستتيقية إلا في علاقتها بثنائية الحلال و الحرام.
انطلاقا مما سبق، نلاحظ أن مصطلحي «فنان» و «مهندس معماري» يدلان على وظائف ثقافية جد دقيقة، و على وضعيات اجتماعية جد محددة. فالمهندس المعماري، على سبيل المثال، هو الذي يضع النموذج و يتتبع الأشغال و يعمل على تنسيقها منذ البداية إلى النهاية، و خلال مدة زمنية محددة. و مع ذلك، إن ترددنا في استعمال المصطلحين، الغريبين على روح ذلك العصر، لا يقلل البتة من عظمة بناتنا و مشيدينا.
عن المجلة الفرنسية «Qantara»، العدد 65.
1 يحفظ لنا التاريخ، بصورة استثنائية، أسماء بعض كبار المعماريين من العصر العثماني أمثال : سينان و محمد آغا إلخ.
2 ابن الرامي، كتاب الإعلان بأحكام البيان، مخطوط منشور بمجلة «الفقه المالكي و التراث بالقضاء المغربي» ، الأعداد 2 و 3 و 4 ، الرباط ، شتنبر 1892..
3 Ibn Abdoun (M), traité du XIIe siècle sur la vie urbaine et le corps de métier, traduit par E. levi-Provençal. Séville musulmane au début du XIIe siècle. J. A. tome CCXXIV, Paris Maisonneuve, 1947
4 الماوردي، الأحكام السلطانية المطبعة المحمدية ، الفاهرة ، بدون تاريخ.
5 Massignon (L.) , Enquête sur les corporations musulmanes d?artisans et de commerçants au Maroc, Revue du Monde Musulman, 1924 (2e section), volume LVIII, p. 73.
6 Wiet (G.), cité par Papadopoulo , L?Islam et l?art musulman, Paris, azenod, 1976, p. 24.
7 Paccard (A). Le Maroc et l?Artisanat traditionnel islamique dans l?architecture,2 vol., Saint-Jorioz. Ed. de l?atelier 74, 1980


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.