تُفصح واقعة توقيف شاب في طنجة، نهاية الأسبوع الماضي، عن استمرار تصور مجتمعي يعتبر أن المال "قادر على شراء الصمت" حتى داخل مؤسسات تنفيذ القانون، غير أن الرد الأمني الحازم كشف عن منسوب متزايد من الانضباط والمسؤولية، بات يطبع تدخلات الجهاز الأمني في مواجهة هذه السلوكات. فقد حاول المعني بالأمر، البالغ من العمر 23 سنة، إرشاء شرطي مرور بعد توقيفه متلبسا بسياقة استعراضية وخطيرة، ثم لجأ إلى تصويره وتهديده بهاتفه المحمول في محاولة للضغط عليه. وأفادت المعطيات الصادرة عن ولاية أمن طنجة بأن العنصر الأمني المعني امتنع عن أي تفاعل خارج الإطار القانوني، وفعّل المساطر الجاري بها العمل، ليتم وضع المشتبه فيه تحت تدبير الحراسة النظرية، رهن إشارة البحث القضائي الذي تشرف عليه النيابة العامة المختصة. وتشمل الأفعال المنسوبة إلى الشاب جنح السياقة المتهورة، محاولة الإرشاء، والتهديد في حق موظف أثناء مزاولة مهامه. ولا تخرج هذه الواقعة عن نمط متكرر من التصرفات الفردية، يلجأ فيها بعض الأشخاص إلى اختبار حدود السلطة باستخدام وسائل مالية أو تقنية، في مقابل جهاز أمني بات يعكس تحولا مؤسساتيا تدريجيا، يسعى إلى تخليق المرفق الأمني وترسيخ مبادئ الشرطة المواطنة. هذه التحولات لا تتم بشكل معزول، بل تأتي في سياق مراجعات تنظيمية ومهنية أوسع، تتعلق بإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والمؤسسة، على أساس النزاهة والحياد وصرامة تطبيق القانون دون تمييز. وتشير ملاحظات ميدانية إلى أن بعض السلوكات التي تمارس في الفضاء العام، مثل محاولة الرشوة أو التهديد الرقمي، تعكس فهما مضطربا لوظيفة السلطة، وتستند في الغالب إلى تجارب سابقة أو تصورات شائعة، مفادها أن القانون خاضع للتفاوض، وأن السلطة العمومية قابلة للالتفاف من خلال المال أو الضغط. وهي تصورات تغذيها أحيانا الثقافة اليومية، ووسائل التواصل الاجتماعي، ونماذج الإفلات التي لا تزال حاضرة في الأذهان، رغم تقلص مساحتها الواقعية. في المقابل، يسجل تغير ملموس في أداء المؤسسة الأمنية، لا على مستوى رد الفعل فحسب، بل في التزام متزايد بالمساطر القانونية، وتحويل كل حالة استثنائية إلى مناسبة لإعادة تأكيد الضوابط المهنية. وقد أظهرت استطلاعات رأي عديدة هذا المنحى، حيث صنف البارومتر العربي لسنة 2023 الشرطة المغربية ضمن المؤسسات الأعلى ثقة في صفوف المواطنين، فيما سجل المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية ارتفاعا في منسوب الثقة بلغ 85 في المائة خلال نفس السنة. هذه المؤشرات، وإن كانت ذات طبيعة كمية، إلا أنها تعزز ما تصفه بعض المقاربات الحقوقية بأنسنة الجهاز الأمني، أي تحويل علاقة الأمن بالمواطن من منطق الردع المجرد إلى منطق الخدمة القائمة على الكرامة القانونية. وفي هذا السياق، تكتسب كل واقعة يرفض فيها المال أو التصوير أو الابتزاز، قيمة رمزية مضاعفة، ليس فقط بوصفها انتصارا للقانون، بل لأنها تفشل رهانات اجتماعية صامتة تستبطن أن كل شيء قابل للشراء، حتى الالتزام. لكن هذا التحول لا يخلو من تحديات. فرجل الأمن الذي يطلب منه التصرف وفق القانون، وتحت الرقابة الإدارية، وفي ظل ضغط الرأي العام، يواجه في كثير من الأحيان سلوكا مدنيا هجوميا، يستعمل لغة التشكيك والتصوير والابتزاز المعنوي. وهو ما يفتح نقاشا أوسع حول الحاجة إلى مرافقة هذا التحول المؤسسي بمجهود تربوي وثقافي يرسخ مفهوم المواطنة القانونية، لا فقط احترام الشرطي باعتباره ممثلا للسلطة، بل أيضا اعتبار القانون سقفا مشتركا لا تفاوض عليه. ولا تخرج واقعة طنجة، بما تحمله من دلالات، عن هذا السياق. فهي ليست فقط لحظة جنائية، بل مرآة لانقسام صامت في المخيال الجماعي، بين من يراهن على احترافية الدولة، ومن يواصل التصرف كما لو أن الدولة لا تزال قابلة للمساومة. وبين هذين المنطقين، تتحدد معالم علاقة جديدة بين المواطن والمرفق الأمني، على قاعدة المساواة، والمسؤولية المتبادلة، واحترام القانون دون وسائط.