عند مجمع "النخيل" السكني بطنجة، لم يعد المشهد يوحي بحي حضري عادي؛ فالمساحات الفاصلة بين العمارات البيضاء الشاهقة تحولت إلى بحيرات راكدة من المياه الموحلة التي ابتلعت الأرصفة وحاصرت المداخل، بعدما سجلت المدينة تساقطات مطرية قياسية بلغت 95 ملمترا خلال ال48 ساعة الأخيرة. وتبدو الصورة من قلب المجمع وكأنها لقطة بانورامية لمدينة عائمة؛ مياه داكنة تملأ المنخفضات وتغمر جذوع أشجار النخيل التي منحت الحي اسمه، بينما تنعكس واجهات المباني الحديثة على سطح الماء الذي احتل الشوارع، فارضا عزلة قسرية على السكان الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لخوض مغامرة الخروج أو انتظار انحسار المنسوب. هذا المشهد، الذي تكرر بصيغ مشابهة في أحياء أخرى مثل مجمعات العوامة ومجمع العرفان، يأتي ليختبر البنية التحتية لعاصمة البوغاز التي عاشت يومين من الاستنفار. ورغم أن الشبكة العامة لتصريف المياه والأنفاق تحت الأرضية التي عززت بها المدينة ترسانتها خلال السنوات الاخيرة نجحت في استيعاب هذه الكميات الكبيرة وتجنيب المحاور الرئيسية الكوارث، إلا أن الوضع في مجمع "النخيل" ونقاط أخرى كشف عن ثغرات ترتبط أساسا باختيارات التوطين العمراني وبنايات رخص لها بمحاذاة الطرق دون ارتدادات كافية، ما ضيق المقاطع الطرقية وقلص هوامش التصريف. ويرى متابعون للشأن العام أن ما يحدث في هذه المجمعات يتجاوز مسألة "انسداد القنوات"، ليعكس واقعا طبوغرافيا صعبا؛ إذ شيدت هذه الأحياء في منخفضات أو فوق مسارات قديمة للمياه، مما يجعلها تستقبل السيول الطبيعية القادمة من المرتفعات المجاورة، وهو ما تعكسه معطيات وكالة الحوض المائي للوكوس التي تشير إلى وجود 90 نقطة سوداء للفيضانات بالجهة. ومع كثافة التساقطات التي قاربت المائة ملمتر، استعادت الأرض طبيعتها كحوض تجميع، متجاوزة قدرة القنوات الإسمنتية. وتعزز هذه الواقعة التحليلات التي تفرق بين "متانة البنية التحتية" و"ملاءمة الوعاء العقاري"، مستحضرة سوابق تاريخية مثل فيضانات أكتوبر 2009 التي غمرت المنطقة الصناعية مغوغة بمجرد تسجيل 62 ملمترا. فبينما صمدت طنجة بشكل عام أمام اختبار ال95 ملمترا بفضل الاستثمارات الهيدروليكية المهيكلة، بقيت الجيوب العمرانية المشيدة في "مجال الماء" تدفع ضريبة الموقع، حيث يتحول الحي مع كل عاصفة مطرية قوية إلى نقطة سوداء تعيد فتح ملف البناء في المناطق المعرضة لخطر الفيضان. وأمام تكرار هذه المشاهد، تتجه السلطات المحلية والمؤسسات المعنية، وعلى رأسها وكالة الحوض المائي، نحو تعزيز آليات الرصد الاستباقي عبر مشاريع لأنظمة الإنذار المبكر، حيث تم إطلاق دراسة لمنصة خاصة بكلفة 5,94 ملايين درهم تغطي مجالا يقدر ب 13 ألف كيلومتر مربع في أجل 24 شهرا، في محاولة لتدبير مخاطر أصبحت جزءا من واقع أحياء لا يمكن تغيير مواقعها، ولكن يمكن التخفيف من وطأة العزلة عنها حين تقرر السماء أن تمطر بغزارة.