فيلم " الغابة" من الأفلام الجريئة، التي تكشف المستور، والمسكوت عنه في واقع المجتمع المصري، من حيث رصد الفيلم سينمائيا وفنيا لظاهرة المتشردين، أو ما يسمونهم بأطفال الشوارع. تدور أحداث الفيلم، بصورة موجزة حول " مجموعة من أولاد الشوارع تجمعهم" الخرابة" وتتنوع طرق حصولهم على المال بين التنقيب في القمامة والسرقة وتوزيع المخدرات والدعارة.يحاول الفيلم رصد مايدفع هؤلاء لممارسة سلوكيات شاذة للحصول على ما يكفي للعيش على هامش المجتمع. قصة وسيناريو وحوار ناصر عبد الرحمن وأحمد عاطف، وهذا الأخير هو نفسه مخرج الفيلم، بطولة ريهام عبد الغفور، حنان مطاوع، منة بدر، أحمد عزمي، باسم سمرة، عمرو عبد الجليل ومجموعة من أطفال الشوارع ، موسيقى تصويرية عمرو إسماعيل. أول إشارة تثير انتابهنا قبل قراءة فيلم " الغابة" هو أنه مخصص للكبار فقط ( هاهنا إشارة إلى نفض الرقابة يديها من الفيلم، فلاتابع ولا متبوع) وهذه الإشارة أصبحت منتشرة في عدد من الأفلام، تنبه إلى أنه غير صالح للمشاهدة من طرف الصغار، غير أنه بالنسبة لهذا الفيلم فمعظم الممثلين من الأطفال، إذا مامعنى هذه الإشارة؟ من البديهي أنها تعني أن الفيلم توجد به مشاهد (جنسية)أو كلام قبيح، أو مشاهد عنف. بالفعل، فإن كمية العنف الموجودة في فيلم " الغابة" لايضاهيها إلا فيلم " كازينو" لمارتن سكورسيس، من بطولة روبير دينيرو، الذي كان من الأفلام العنيفة جدا في تاريخ السينما الأمريكية. الحقيقة أن فيلم " الغابة" هو فيلم قاسي وفظيع وعنيف في الوقت ذاته. فمن جهة يفضح الانتشار المهول للسلطة ليس بمفهومها الاعتيادي، وإنما السلطة المتفشية داخل عوالم متعددة الجوانب: سلطة أفراد الشرطة، سلطة الأب الذي يغتصب بناته، سلطة التوربيني ( باسم سمرة) الذي يجمع حوله جيش من الصعاليك والمنحرفين الذين يتاجرون في المخدرات ويبطش كشخص بشع وعنيف، وشرير بالجميع داخل الخرابة المكان الذي يجمع المتشردين داخلها. ويتعرض الفيلم من خلال متواليات أحداثه إلى زنا المحارم والاغتصاب ( مشهد الأب الذي يغتصب ابنته)، وبيع أطفال الشوارع لدمائهم للحصول على المال وشم"الكلة" وهو نوع من الغراء بعد تعريضه للنار- والشذوذ، وحفلات الجنس الجماعي والقتل والتشويه، والبحث في صناديق القمامة ومفرغ الأزبال بحثا عن الطعام ، والحمل السفاح، وإقامة علاقات غير شرعية مع البائعات الصينيات الجائلات، بالإضافة إلى مافيا سرقة الأعضاء التي يتعرض لها هؤلاء الأطفال، وهو من المشاهد الفظيعة في الفيلم، حيث تهجم مافيا تتاجر في أعضاء البشر وتقتطع من أجساد هؤلاء الأطفال أعضاءهم للاتجار فيها. وكل هذه المشاهد التي وضعها المخرج أحمد عاطف في سياق درامي من خلال الفيلم اعتبرها عدد من النقاد بالمشاهد " الصادمة"، غير أن المخرج رد على ذلك بالقول" إن واقع ومصائب أطفال الشوارع في مصر أشد إيلاما من مشاهد الفيلم". وبالفعل فإن هذا الفيلم خلال عرضه أخيرا أثار جدلا واسعا في مصر، إذ يعري هذا الواقع، بحيث أصبحت أية تعرية قام بها هذا المخرج أوذاك يتهم بأنه مخرج " عشوائيات" كما وقع مع المخرج خالد يوسف ( نموذج فيلم " حين ميسرة" أو أنه يشوه صورة مصر في الخارج دون أن يدركوا بأن ما يقدم هو عمل فني، وأن الواقع هو أفظع منه بكثير، ومن حق المخرج أن يقدم عمله الفني بالطريقة التي يراها هو نفسه ولا يمليها عليه أحد، ويبق مجال النقد مفتوحا، ولكن النقد المسلح بالمناهج، وليس الكلام الفضفاض، الزائد، إذن مادام هذا الفيلم يخدش، ويعري، ويفضح بتقديمه أطفال شوارع حقيقيين ليمثلوا في السينما ( وهذا يذكرني بالفيلم المغربي الرائع "علي زاوا " لنبيل عيوش الذي استعان فيه بأطفال شوارع حقيقيين ومنهم من أصبح ممثلا). ثمة عوامل فنية ساهمت في نجاح هذا الفيلم حيث كان تصويره مفعما بالقتامة، الأمر الذي كان متساوقا مع الكآبة والخراب النفسي الذي يعيشه أبطال الفيلم، إضافة إلى الإدارة المحكمة والأداءات المتميزة والمختلفة للمثلين والممثلات، نذكر هنا الأداء المتميز لريهام عبد الغفور ( جميلة) فتاة الشوارع الحامل من "حموسة" ( أحمد عزمي) رئيس الخرابة والمسؤول عن توزيع حقيبة المخدرات، وحنان مطاوع ( برشامة) بنت الشوارع الداعرة والتي تشوه ريهام عبد الغفور وجهها بمطواة بعد أن ضبطتها مع "حموسة" في سرير واحد، والتي قدمت هذا الدور بروعة دون أي إيحاء جنسي، ومنة بدر في دور مكنة ( البنت التي تتعرض للاغتصاب من أبيها) وكان أحمد عزمي "حموسة" بارعا في أداء هذه الشخصية وأظهرها بشكل مختلف عن الشخصيات التي قدمها في أفلامه الأخرى مثبتا تميزه في هذا الدور، أما باسم سمرة فكان مفاجئا وقدم أداء في غاية الروعة والإتقان، متقمصا شخصية" التوربيني" الرئيس الأسبق للخرابة والذي يخرج من السجن في بداية الفيلم ويسعى لاستعادة مكانته في الخرابة وكذا دوره القديم في توزيع حقيبة المخدرات، وكذلك الأمر بالنسبة للطفل أحمد عبد القوي في دور رمضان الذي أبرز في " الغابة" موهبة تمثيلية فذة. ويبدو لي أن فيلم " الغابة" برصده لظاهرة أطفال الشوارع المهمشين وتعريته لهذه السلوكيات الشاذة، وإبراز العنف داخل الخرابة التي هي رمز للتهميش واللامبالاة والاحتقار والحيوانية يتهم المجتمع والسلطة بأن لها اليد الطويلة في هذا الوضع الموبوء وهذه الظاهرة الخطيرة. يوسف خليل السباعي