بالأمس الذي صادف يوم الاقتراع، جمعتني جلسة، بنادي رجال التعليم، مع مجموعة من الرفاق المتقاعدين يتناقشون مواضيع عدة ومختلفة لاستثمار الوقت وقهر الشعور بالملل والضيق والفراغ، ومن غير قصد، نحى بنا الحديث نحو الأوضاع السياسية العامة والتي تعيشها هذه الشريحة التي قضت زهرة شبابها في خدمة الوطن، وعلى الوطن تقديرهم وضمان حقها في العيش الكريم بعد التقاعد، حتى ينعموا كغيرهم بالراحة والاطمئنان بعيدا عن القلق والوجل من مجابهة احتياجاتهم المعيشية برواتب هزيلة "ما تسوك وما تلوك" كما يقول المثل الدارج، وذلك على ضوء حملات الانتخابات التشريعية التي عشنا ضجيجها طيلة ثلاثة عشر يوما الماضية، والتي قادتها أكثرية الوجوه الحزبية المالوفة، التي باعت واشترت في مستقبل المغاربة، تم عادت مرفوعة الرأس دون خجل أو وجل لتبيع من جديد وتشتري كما يحلو لها البيع والشراء في ما تبقى من مستقبل للمغاربة، ومن بينهم المتقاعدين من القطاعين العام والخاص، الذين لم يشفع لهم ذلك عند السياسيين والأحزاب ما قدموه من خدمات جليلة وجهود دؤوبة في أروقة وزارات الدولة أو الشركات الخاصة، لخدمة الوطن وترقيته، وقوبلت تضحياتهم بالنكران والجحود، ونالهم الكثير من الإهمال والغبن من الحكومة، ولم يحصلوا من معظم المرشحين في هذه الاستحقاقات، على التقدير المنصف واللائق بهم، حين غيبوا قضاياهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، تغييبا مجحفا، وأقصوا همومهم من غالبية برامج الانتخابية الحزبية،إقصاء ممنهجا، وكأنهم بتقاعدهم عن العمل تقاعدوا من الحياة برمتها، أو أن صلاحيتهم قد انتهت وأصبحوا بمجرد الإحالة على التقاعد كيانات سلبية لا صوت لها يهدد السلم الاجتماعي، وسرعان ما يطويها التجاهل الممنهج، والنسيان المتعمد. بينما هم في واقعهم الذي على ما يبدو أن الكثير من الأحزاب، إن لم نقل كلها، وغالبية المرشحين للبرلمان، قد نسوا أو تناسوا قوة هذه الشريحة، وعددها الكثير جدا، وتأثيرها البالغ في محيطها، والذي يجب ألا يستهان به، لأنها ورغم مشاكلها التي لا تقل عن مشاكل باقي الفئات الاجتماعية الأخرى، بل هي أكثر حدة منها، فهي كتلة أصوات انتخابية ثمينة، تصل إلى أكثر من مليونين و 400 ألف متقاعد ومسن، حسب بعض الإحصائيات، دون احتساب أفراد عائلاتهم، التي يمكن من تغيير الموازين متى ما استثمرت استثمارا صحيحا، ووجه نحو الخيارات الوطنية الصحيحة الناجحة، لما يحظى به المتقاعدون والمسنون عادة من الاحترام الكبير والتقدير العميم بين أهليهم ودويهم وفي أحيائهم، إلى جانب ما يراكمونه من خبرات وتجارب صقلها واقع العمل وحيثياته، ومجريات الحياة ومتاعبها، ما يمكنهم من اجتذاب أصوات الأقرباء والأصدقاء والمعارف, والكثير من الممتعضين أصلا من السياسة الذين يشعرون بخيبة الأمل من الأحزاب.. ناهيك عن أنهم هم الفئة الأكثر مشاركة في التصويت بكثافة وفعالية. لقد كان توق هذه الفئة من المجتمع في تغيير الأوضاع والعيش الكريم جامحا، مع الدستور الجديد الذي أيقظ في نفوسهم الإحساس بالأمل كبيرا، وتوسموا في الأحزاب -التي توهموا أنها تغيرت- خيرا ولو معنويا، إلا أن الأمل خاب وبصفة ربما أبدية، حين لم تلتفت هذه الأحزاب في برامجها الانتخابية إلى معاناتهم، ولم تهتم بمطالبهم بالجدية المطلوبة، والتي ظلت مغيبة عن كل الحوارات الحكومة، وسارت جل الأحزاب، مع الأسف الشديد، على نفس درب الحكومة، عملا بالمثل الدارج: "منين ذاك الغصين، من ذيك الشجرة" وحتى من تذكرهم في برنامجه، فقد كان باحتشام شديد، وكأنهم بنهاية مدة عملهم انتهت مدة صلاحيتهم وفقدوا الحق في كل شيء ورمي بهم في سلة المهملات، مبعدون من كل الاهتمامات والمكافآت، مستثنون من كل الامتيازات وبرامج الاستحقاقات، فلا أحد يتفقد أحوالهم، أو يسأل أو يطمأن على أوضاعهم الصحية والاجتماعية والاقتصادية، بعد أن افنوا حياتهم وبذلوا جهودهم ووظفوا طاقاتهم لبناء الاقتصاد والثروة الوطنيين.. كل ما تقدم ليس إلا تطلعات معنوية، أما الهموم المادية بكل سياقاتها الاقتصادية التي يعيشها المتقاعدون في ظل الظروف المعيشية المرتفعة وموجة الغلاء الفاحش، فتفرض الكثير من الأسئلة الخطيرة التي تستوقف و تؤرق هذه الشريحة العريضة من المواطنين في مجتمعنا و كل أولئك الذين هم في طريقهم إلى الالتحاق بالتقاعد، الذي هو سنة الحياة، جيل يكبر ليخلفه جيل آخر. فإذا كانت الزيادة التي قررتها الحكومة كنتيجة للحوارات الاجتماعية، جاءت نتيجة لارتفاع الأسعار، وجاءت لحماية القدرة الشرائية للمواطن المغربي، كما في تصريح لوزير تحديث القطاعات العامة المنشور في جريدة الصباح سنة 2011 عدد 3441 قال:(( إن الحكومة انطلقت من اعتبارات موضوعية أولها أن المطالبة برفع الأجور بسبب ارتفاع الأسعار وانه كان من الضروري حماية القدرة الشرائية للمواطن المغربي لان هناك نفقة القفة التي يتحملها الجميع على قدم المساواة ومن هنا ارتأت الحكومة أن يتمتع الجميع بالزيادة وانه هناك من كان يرفض أن يستفيد الأطر العليا من الزيادة في الأجور ولكن بعد نقاش مستفيض توصلنا إلى أن تكاليف المعيشة يتحملها الجميع بدون استثناء )). فلماذا يا وزير تحديث القطاعات، يُقصى المتقاعدون من هذه الحماية لقدرتهم الشرائية؟ أليسوا هم أيضا مواطنين مغاربة؟، أم أن ارتفاع الأسعار لا يعنيهم؟، أم أنهم لا يتحملون نفقة القفة حتى يقصوا من الزيادة؟، وكيف لا تدافع الحكومة عن المتقاعدين كما فعلت مع الأطر العليا، حسب ما ورد في تصريح السيد الوزير؟ ولماذا لا تتذكر الحكومة الموقرة، المتقاعدين، إلا عند الاقتطاعات وتتجاهلهم في الزيادات في الأجور؟. وإذا كان سقف الرواتب في المغرب وفي القطاعين الخاص والعام متدن وبحاجة إلى مراجعات ليتماشى مع معدلات التضخم السائدة في المملكة، فإن معاشات المتقاعدين، هي الأولى بالمراجعة والأكثر ضرورة وإلحاحية، لواقعهم المعيشي المتدهور، ومتطلباتهم الكثيرة في هذا السن الحرجة، التي تدخلهم في دوامة الحياة الروتينية التي تستهلك الإنسان وتمتص طاقاته وإبداعاته ومع ذلك، رفضت الحكومة اختياريا، مراجعة سقف رواتب المتقاعدين، وغيبت التطرق لقضاياهم وأقصتها نهائيا من دورات حواراتها الأخيرة، بحجة تأثيراتها السلبية على المراكز المالية لهيئات التقاعد والضمان الاجتماعي نتيجة لزيادة المصروفات، وهي حجج مردودة عليها، ولا يمكن أن تكون سببا في إقصاء المتقاعدين من الزيادة، لأن الزيادة في معاشات المتقاعدين ينظمها الفصل 44-2 من الباب الثاني المكرر من القانون رقم 0011.71 المحدث بموجبه نظام المعاشات المدنية الذي ينص على ما يلي (( تضاف إلى معاشات التقاعد ومعاشات المستحقين عن أصحابها بمقتضى هذا القانون كل زيادة تطرأ على المرتب الأساسي المخصص للدرجة والسلم والرتبة أو الطبقة التي كان ينتمي إليها الموظف آو المستخدم عند حذفه من سلك الموظفين أو المستخدمين التابع له وتضاف إلى معاشات الزمانة المستحقة بمقتضى هذا القانون كل زيادة تطرأ على المرتب الأساسي المخصص للرقم الاستدلالي 100))، ولان الحكومة تعرف كيف تدبر الأمور حين تريد ذلك، حيث أنه سبق لها أن قررت زيادة 15 في المائة لمتقاعدي ما قبل 1990 وقررت الرفع من الحد الأدنى للمعاش إلى 600 درهم ثم إلى 1000 درهم، الشيء الذي لا يترك للسيد وزير الاقتصاد والمالية مجالا للتضرع بأنه لا يوجد في المغرب أي نظام للزيادة في معاشات المتقاعدين ما دامت حكومته تدبر الأمور عندما تقرر ذلك، وتتقاعس عنه عندما لا تقرر ذلك، كما حدث حينما تم إقصاء متقاعدي القطاع العام من الزيادة التي قررتها الأغلبية الحكومية الحالية في أجور القطاع العام بمبلغ 600 درهم ابتداء من شهر ماي 2011 لحماية القدرة الشرائية للموظفين الذين عرفت أجورهم عدة زيادات بعد سنة 1997 وذلك بالزيادة في التعويضات الوظيفية الزيادة الأولى ابتداء من سنة 2003 ثم زيادة أخرى في التعويضات ابتداء من سنة 2008 مع رفع الحد الأدنى للمعاش إلى 600 درهم ثم زيادة أخرى في التعويضات ابتداء من شهر ماي 2011 بمبلغ 600 درهم مع رفع الحد الأدنى لمعاشات المتقاعدين إلى 1000 درهم وبذلك يكون الموظفون قد استفادوا من ثلاث زيادات بعد سنة 1997 وحرمان المتقاعدين من الزيادات التي كانت آخر ما عرفوه من زيادة في أجورهم سنة 1997 عندما قررت الحكومة الزيادة في القيم السنوية لكل نقطة من الأرقام الاستدلالية للاشطار من 1 إلى 100 من مبلغ 89.23 درهم إلى 98.85 درهم ابتداء من فاتح شهر يوليوز 1997 استفاد من هذه الزيادة الموظفون والمتقاعدون انظر المرسوم رقم 2.96.815 صادر في 11 نونبر 1996 المنشور في الجريدة الرسمية عدد 4436 سنة 1996 وكانت هذه هي آخر زيادة في القيم السنوية للأرقام الاستدلالية وأخر زيادة في أجور المتقاعدين.. إن الغبن، والظلم و"الحكرة" والشعور بالإقصاء والتهميش تحدث في النفوس تمزقات خطيرة يصبح معها الإنسان أيا كان العمر أو المرتبة، غير قادر على التحكم في أعصابه ومشاعره تجاه من اخترقوا خصوصياته، أو مارسوا عليه ظلماً إدارياً أو اجتماعياً أو عائليا، وهو في موقف لا يسمح له بالدفاع عن نفسه، فيخفي قلقه، ويكتم حنقه، ويسكت الهياج والثورة في أعماقه. لكن أمام محدودية حيلة وقلة صبر الغاضب، فإنه يمر بمشاعر عديدة، كالضيق، والاستياء، والكدر، والاستثارة، والإحباط، والعبوس، والسخط، والنقمة، وغيرها من الصفات التي تعكس عدم رضاه عما تعرض له من مواقف عدم الإحساس بالعدل، والتعدي على الكرامة، والإهمال، والإذلال، والخيانة، وغيرها كثير من المؤثرات المتنوعة التي تحدث تغيرات فسيولوجية وبيولوجية تتسبب في انقباض القلب، ورفع الضغط ، فيصاب الإنسان بالثورة العارمة، والهياج الحاد قولاً أو عملا، حتى لو كان من بأشد الناس حلما وتسامحا ووقارا وإيثارا. فالغضب لا يقتصر على الشباب فقط، لأنه حال نفسية يعيشها الناس من كل الأعمار، تفرض عليهم مواقف خطيرة تجاه الآخرين، ويعصف بهم الغضب والثورة والهياج وكراهية الغير، ويدفعهم للخروج للتظاهر والاحتجاج، كما حدث في تل إسرائيل التي خرج فيها مئات من المتقاعدين، للتظاهر في تل أبيب، أمام مجمع المصالح الحكومية، تحت شعار "كبار السن أيضاً يريدون العدالة الاجتماعية"، حسب الموقع الإلكتروني لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الذي أضاف أن المتظاهرين رفعوا لافتات كتبوا عليها شعارات تطالب بتحسين ظروف معيشتهم، مثل "لا تتركونا وقت الشيخوخة". وليست إسرائيل وحدها التي غضب فيها المتقاعدون، بل إن الحديقة المجاورة للبرلمان بشارع محمد الخامس بالرباط عرفت هي الأخرى يوم الثلاتاء 31/05/2011، يوما تاريخيا لكل شرائح المتقاعدين مدنيين وعسكريين تحت إشراف أكثر من 52 جمعية قادمة من كل أرجاء المملكة، رافعين شعارات تنديدية واستنكارية لما لحق المتقاعدين من جراء تجاهلهم في الحوار الاجتماعي والحيف الذي لحق بهم بسبب استثنائهم من الزيادة في المعاش عليها العبارات التالية: "المتقاعدون يطالبون بالزيادة في المعاش"، متعهدين بمواصلة التصعيد والصمود والتعبئة ومقاطعة الانتخابات التشريعية و الدستورية إذا لم يتم إنصافهم والاستجابة إلى مطالبهم المشروعة. ولم تكن الوقفات الاحتجاجية هي النوع الوحيد الذي لجأت إليه هذه الشريحة للدفاع عن حقوقها المشروعة، بل دهب الألمان إلى أبعد من ذلك حين أسسوا حزبا خاصا بالمتقاعدين، ورغم حداثته فقد دخل الانتخابات البرلمانية الأوربية لتحسين مستوى حياة المتقاعدين الألمان.. فهل يلجأ المتقاعدون المغارب- بعد فطنوا بكل شرائحهم المختلفة، لطلاسم اللعبة السياسية المسلية، و تيقنون بما لا يدع مجالا للشك أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن لأحزاب الفاسدة، وغير الديمقراطية، لا يمكن أن تحارب الفساد ولن تحقق الديمقراطية- لخوض التجربة الألمانية للوقوف ضد ما يتعرضون له يومياً مع حكومة خيبت آمالهم بقراراتها المجحفة، وأحزاب تجاهلت قضاياهم وأحوالهم الاجتماعية المزرية.. [email protected]
