ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات اسفي إلى 40 واطلاق برنامج ملكي لاعادة التاهيل    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    أستراليا.. الشرطة تؤكد أن مطلقي النار في بونداي تدربا على الهجوم في ريف البلاد        مصر تفتتح مشاركتها في الكان اليوم وتطمح للفوز على زيمبابوي    مدرب جزر القمر: المغرب قوي جدا.. وهذه هي الحقيقة    توقعات أحوال الطقس اليوم الاثنين    كيوسك الإثنين | مطارات المملكة تحطم كل الأرقام عشية انطلاق كأس إفريقيا    جريمة قتل مروعة تهز منطقة بني يخلف نواحي المحمدية    الركراكي: المباراة عرفت توترا كبيرا خاصة في الشوط الأول بسبب تضييع ضربة الجزاء وخروج سايس مصابا لكننا حققنا المهم    الجديدة تستضيف الدورة الأولى للمؤتمر الدولي حول الفيزياء الكمية والابتكار الطاقي    المنتخب يرفع نبض الجماهير في وجدة    انتصار البداية يعزز ثقة "أسود الأطلس" في بقية مسار كأس إفريقيا للأمم    الاستيطان يتسارع في الضفة الغربية ويقوّض فرص قيام دولة فلسطينية    أزيد من 60 ألف متفرج في المنتخب    رصيف الصحافة: النيابة العامة تنتظر نتائج تشريح جثة رضيعة في فاس    أسود الأطلس يبدأون رحلة المجد الإفريقي بالفوز على جزر القمر    المديرية العامة للأمن الوطني ترفع جاهزيتها لإنجاح العرس الإفريقي    أمطار غزيرة تعم جماعات إقليم الحسيمة وتنعش آمال الفلاحين    تعليق الدراسة بعدد من المؤسسات التعليمية بإقليم الحسيمة بسبب الامطار والثلوج    تصعيد ديموقراطي ضد إدارة ترامب لمحاولتها التعتيم على "وثائق إبستين"        تصعيد خطير بعد دعوات لطرد الإماراتيين من الجزائر    فرض مبالغ إضافية دون مقابل يثير الجدل في مقاهي طنجة خلال كأس أمم إفريقيا    في الذكرى الخامس للتطبيع.. تظاهرات بالمدن المغربية للمطالبة بإسقاطه ووقف الجرائم في فلسطين    ماكرون يبحث في أبوظبي فرص التعاون    وكالة بيت مال القدس الشريف تقدم إستراتيجيتها لدعم قطاع التجارة في القدس برسم سنة 2026    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية وأمطار قوية أحيانا رعدية وهبات رياح من اليوم الأحد إلى الأربعاء المقبل    القوات المسلحة الملكية تنشئ ثلاث مستشفيات عسكرية ميدانية بأقاليم أزيلال والحوز وميدلت    دليلة الشعيبي نمودج الفاعلة السياحية الغيورة على وجهة سوس ماسة    أدب ومحاكمة ورحيل    "مجموعة نسائية": الأحكام في حق نزهة مجدي وسعيدة العلمي انتهاك يعكس تصاعد تجريم النضال    "محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة من خلال الصحافة المصرية" موضوع اطروحة دكتوراه بكلية عين الشق    أزمة المقاولات الصغيرة تدفع أصحابها لمغادرة الحسيمة ومهنيون يدقون ناقوس الخطر    مسلحون مجهولون يفتحون النار على المارة في جنوب إفريقيا    "فيسبوك" تختبر وضع حد أقصى للروابط على الصفحات والحسابات المهنية    حركة "التوحيد والإصلاح" ترفض إعلانًا انفصاليًا بالجزائر وتدعو إلى احترام سيادة الدول    مشروبات الطاقة تحت المجهر الطبي: تحذير من مضاعفات دماغية خطيرة    اختتام حملتي "حومتي" و"لقلب لكبير" بجهة طنجة تطوان الحسيمة: مسيرة وطنية بروح التضامن والعطاء    "تيميتار" يحوّل أكادير عاصمة إفريقية    خطر التوقف عن التفكير وعصر سمو التفاهة    أكادير تحتفي بالعالم بصوت أمازيغي    الدرهم في ارتفاع أمام اليورو والدولار    مهرجان ربيع وزان السينمائي الدولي في دورته الثانية يشرع في تلقي الأفلام    كأس إفريقيا .. مطارات المغرب تحطم أرقاما قياسية في أعداد الوافدين    الفنانة سمية الألفي تغادر دنيا الناس    البنك الدولي يوافق على منح المغرب أربعة ملايين دولار لتعزيز الصمود المناخي    فتح الله ولعلو يوقّع بطنجة كتابه «زمن مغربي.. مذكرات وقراءات»    الشجرة المباركة تخفف وطأة البطالة على المغاربة    العاصمة الألمانية تسجل أول إصابة بجدري القردة    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    7 طرق كي لا يتحوّل تدريس الأطفال إلى حرب يومية    سلالة إنفلونزا جديدة تجتاح نصف الكرة الشمالي... ومنظمة الصحة العالمية تطلق ناقوس الخطر    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسة عشر يوم في الحجر المنزلي
نشر في أخبارنا يوم 22 - 03 - 2020

خمسة عشرة يوم في مرمى الزمن، أيام رتيبة تعيد جدولة نفسها، يوم يسحب الذي يليه في خمول غريب وسكنات تكاد تبطئ منطق دوران الأرض والقمر، الزمن يجر ذيوله جيئة وذهابا، كمخذول من حب عابر، أو منهزم من حرب فارقة، هل هي النهاية؟ هل نعيش أواخر أيامنا؟ هل فعلا هذا المجهري سيقضي على حضارة الجينوم وفيزياء الكم والعالمين الافتراضي والواقعي؟ لا نعلم، باستثناء أننا ضعفاء رغم زمجرة العولمة ووهم تطويع الطبيعة وغطرسة العدميين والفوضويين.

الجلوس في البيت هو تحدي لنا، نحن الكائنات الاجتماعية، تلك الكائنات التي لا تحتمل العزلة، وتدمن الكلام، لكن التحدي الأكبر أن الخروج قد يعني الموت، الفيروس الذي يتجول بالخارج لا يجيد المزاح، وربما له ثأر قديم مع البشر خصوصا وأنه ينتمي للعائلة نفسها التي قضى عليها الانسان فيما سبق، أنفلونزا الطيور والخنازير وسارس، ذاكرة الفيروسات لا تعرف النسيان، تسلحت اليوم لتنتقم من البشر، وتتأثر لأجدادها، لا اعلم بالتحديد كم من الاشغال أنجزتها في خضم هذه العزلة الاجبارية، أتذكر أنني غيرت مصباح الحمام الذي أفل نجمه من تماس ما وبقي مهجورا لمدة أسابيع، طوعت باب المطبخ بالشمع والذي كان يصدر أزيزا مشئوما كلما حاولت إغلاقه، غيرت ترتيب الصور، نظفت زجاج الشرفة من الداخل والخارج، رتبت ملابسي وربطات العنق، تمعنت كثيرا في الأيام الخوالي والذكريات المنسية بألبوم صور مهجور في درج غرفة النوم، اشتريت معطرات أكثر حتى تنافس دخان سجائري، التلفاز لم يعد مسليا، ولا قنوات النت فليكس، الحروب تملأ نشرات الأخبار واحصائيات ضحايا فايروس كورونا، العالم منهمك في تفسير خواءه المعرفي، وبلاهته أمام متعظي مجهري كسب السبق على الأقل لحدود الساعة.

الأيام رتيبة وتزحف ببطيء على سنواتنا المهددة، قرأت الروايات التي كدستها سابقا، وأعدت التهام مدونات قديمة سابقة، قراءة كتب محي الدين ابن عربي في ظل هذه الظروف جد مهمة، تخفف من وطأة المصاب وتمنح النفس الكثير من الراحة والعزيمة، كذلك رسائل اخوان الصفا بما تحمله من مدلولات وجدانية عميقة، بداية العزلة كانت جيدة، سررت بالتغيير المفاجئ، وبعد أن ذهبت بهجة التجديد بدأت اشغل ساعاتي في تفحص النباتات، لقد اصبحت لبعض الوقت غير مستقل ومشوش الذهن، لقد اضطرب عقلي بالشك، وبزخرفات الخيال، تشوش خيالي بمشاهد حمقاء، وبدأت أرثي لفقداني الكثير ولكسبي القليل جدا، لقد قررت أن اعود إلى العالم غدا، بالقراءة أكثر والتدوين، حياة العزلة للإنسان تكون تعيسة بالتأكيد ولكن ليست بالضرورة ورعة.

حياة العزلة تحفز طغيان الخيال على العقل، العقل الذى ينظم انتباهنا كليا بإرادته، والذى يجعل افكارنا تأتي وتذهب بأمره، لكن إذا كانت هذه المقدرة شيئا بإمكاننا التحكم به وكبحه، فإنها ستكون غير ظاهرة للأخرين، ولا تعتبر فسادا في القدرات العقلية، ولا يقال عنها بأنها جنون، إلا عندما تصبح غير متحكم بها وتؤثر على الكلام والتصرفات بشكل ظاهر، وتتعزز سيطرة الخيال بالتدريج، فتصبح في البداية ضرورة ملحة، ومن ثم تصبح تحكمية، بعدها يعمل الخيال على أنه وقائع، وتتثبت الأفكار الزائفة في العقل، وتمضي الحياة في احلام الذهول والحسرة، هذه هي تأثيرات الأشياء المتخيلة، عندما نصوغها في البداية نعرف جيدا بأنها غير حقيقية، ولكننا نتآلف معها بالتدريج، ومع الوقت لا نتمكن من رؤية عيوبها.

الجلوس في البيت بدون برنامج للخروج، أو أمل في ذلك، يلغي ببساطة الوقت، تصبح الساعة وعقاربها ترفا يؤثث الصالة، الاذان يأتي من بعيد ليذكرك بضرورة الصلاة بالبيت، الشوارع خلت من روادها ومريديها، أفضل الجلوس على الشرفة، لملاحقة العابرين النذر والسيارات والمطر الذي أرخى سدوله على الازقة والشوارع، من الشرفة تغدو حبات المطر المتساقطة من السماء والمستقرة في الأرض باهتة وبدون لمعان، ربما اشتاقت لملامسة قدود الجميلات في الأزقة والطرقات، صوت أم كلثوم بصوتها الشجي، يأتي ليذكرني بجراحات الماضي، بجوار البقالة مقابل شرفتي عجوز في عقده السادس من البؤس، يدخن سيجارة ليخفف بها عن خيبات الماضي والحاضر، وليكون اكثر تقبلاً لبؤسه القادم.

تبقى الشرفات في ظل هذه الأوضاع هي ملاذ الغرباء، وسكن المشردين، وسلوى العاشقين، وطمأنينة المحبين، صديقة الأدباء والمثقفين، ومدونة حكايا الأزمنة والعابرين، فناجين قهوتي تحمل من الأخبار والأسرار، والقصص والعبر الكثير والكثير، عند عتبة باب البقالة المقابلة قطة جميلة وديعة، حسناء العيون، بيضاء تسر الناظرين، وتمنح أملاً للبائسين، تجلس على عتبة الباب تستظل من المطر، كأن بياضها يجسد صورة الفضيلة الغائبة في نفوسنا، المندثرة في واقعنا، المتوارية خلف مشاريع ملتوية ومتعرجة يتكسب من خلالها ادعياء

الفضيلة وحملة القضايا الكاذبة، لم نعد نبصرها منذ زمن، ربما اندثرت، وأصبح الكون قاب قوسين أو أدنى من الذهاب نحو الجحيم، أصحاب الفضيلة الذين تعلو صيحاتهم مستنكرين قبلة بريئة في قارعة الطريق، ولا تحركْ كيانهم ولا يقشعر وجدانهم على الموت المتلحف بفتاوى البغض والالغاء، والقتل الممنهج في ربوع عالمنا المترامي.

للعزلة حسناتها كذلك بفضلها تعرفت أكثر على الجيران، قرأت بنهم كبير للفوضويين الذين ظلمهم التاريخ والترجمة السيئة كذلك، المفكر الإنجليزي جودوين (William Godwin 1756 – 1836)، والفيلسوف الفرنسي برودون (Pierre Proudhon 1809 – 1865)، والأرستقراطي الروسي الثائر باكونين (Mikhail Bakunin 1814 – 1876)، وعالم الجغرافيا الطبيعية الروسي كروبوتكين (Kropotkin 1842 – 1921)، وتحدثهم عن بشرية عقلانية متنورة تتخلص من قيود المؤسسات التي كانت ملائمة للسلوك غير العقلاني النفعي.

أصبحت كذلك أتقن إعداد القهوة التركية، والشطائر المحشوة بالجبن والخس وشرائح الديك الرومي، وعندما يرهقني الجلوس أرقص السالسا على أنغام فرقة "البوينو فيستا سوسيال كلوب" الكوبية، أو أحضن الفضاء وأنا استمتع بكلمات "خوليو اجليسياس".


الأهم من هذا كله أن العزلة علمتني وَفقًا لمبدأ سقراط، أن الانسان مُستعبَد لأشياءَ كثيرة؛ فهو عبدٌ لجسمه، عبدٌ للمال، عبدٌ للجاه والسلطان. فإذا ما أراد لنفسه الحرية الحقيقية فليلتمسها لا في الأشياء الخارجية، ولا في جسمه ولا في ماله وجاهه؛ فكل ذلك مُجرَّد رِقٍّ أخلاقي، بل إنه واجدها في نفسه وفي شيءٍ مستقل كل الاستقلال؛ وهو «قدرته على الحكم والإرادة … ولا شيء من الخارج يستطيع أن ينال حرية النفس بسوء» فحرية الإنسان تفلت من سلطان الناس وسلطان الأشياء، و«نحن لا نملك إلا حريتنا» والإله الذي منحنا الحرية مُحالٌ أن يسلبنا إياها؛ فالمنحة الإلهية لا تُسترَد كالمنح البشرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.